بعد غياب طويل التقينا ، أحببت أن أرسل رياح الاهتمام لأثير سحائب الإهمال و الغربة بيننا ، وقفت أمامها باحترام ولوعة مشتاق ، شعرت أنها كالشجرة المنتصبة في بيداء لا أحد معها ، تلفحها رياح السموم حتى كادت أن تتيبس ، كم رغبت بأن تتجلى تلك السحائب بغيث يحيي أغصانها لتدب الحياة فيها من جديد ، كنت أمر عليها مرور المسافرين للعمل لا يهمهم سوى الكد بلا حديث بيننا يُذكر ، سرعان ما أبحرت في عينيها على قارب الذكريات فتراءت لي طفلة غاية في الطيبة إلا أنها تخلقت بشقاوة الصبيان ، صدرها الفضاء و قلبها الركب ، تعشق المدى ، الكل أصدقاؤها ، لا تستكين على حال ككرة اللهب نشاطاً ...
شعرت بقلبي يثب كالحصان من شدة السرور و الغبطة لما مر في خاطري من صور خاصة عندما كانت توبخها المعلمة لكثرة مشاركتها طالبةً منها إفساح المجال لغيرها من التلاميذ ، فقد كانت لا تكتفِ بأن تغادر مقعدها لتصل الطاولة باحثة عن فرصة لإلقاء الجواب بل تمد سبابتها حتى تكان أن تبلغ عين المعلمة فيأتي التوبيخ الذي لا يثني لها همة ، حيث تأمرها المعلمة بالجلوس في آخر الصف لتعيق صهيلها ولكن دون أمل بالاستجابة ..
ثم تحول بي القارب لأراها وهي تحكي لأمها القصص و العبر التي تعلمتها على متن مقاعد الدراسة فتسترسل في الحديث لتقص عليها كل مغامراتها اليومية ..كانت كالقطة الوديعة تتوسد حضن أمها التي تمشط لها شعرها بحنان يغشى أناملها دون ملل أو استياء ، فتهديها ابتسامة الرضا بحب ، كانت تشبه إلى حد كبير ابتسامة المعلمة التي كانت تعبر عن استيائها من جموح التلميذة المشاكسة المجدة بابتسامة إعجاب تخفيها خلف ستائر عبارات التوبيخ ..
و تتتالت الصور في مخيلتي حيةً دون أن يهرب منها أي تفصيل رغم سفر السنين الطويلة التي انقضت و فرَّقتنا ، أعادني ألم ركبتيّ إلى جوف القارب لأرسو على شطآن عينيها الممتدة إلى ما لا نهاية ، ساعة كاملة من التأمل لم أدرك خلالها إلا بعض ميناء ، ولو أردت استحضار جميع الأمر لاحتجت عمرا آخر ، نزلت إلى يابسة الواقع فرأيتني أضحك كما كنت أضحك حينها بكل براءتي ناسية أمر الشجرة و البيداء و السّموم ، مسحت مرآتي و مضيتْ .