خدعة مصطلح “القوة الناعمة”

نشر في : الإثنين 10 أغسطس 2015 -كونسورتيوم نيوز – التقرير“يحب المسؤولون الأمريكيون فكرة ‘القوة الناعمة‘، وهو المفهوم الذي ينطبق على الوسائل غير العنيفة -من الدعاية إلى الثقافة- من أجل استمالة الدول الأجنبية للعمل وفق رغبات واشنطن. ولكن، غطرسة هذا الأسلوب أدت إلى تنفير الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم بدلًا من أن تجذبهم“.كان مصطلح “القوة الناعمة” أحد المصطلحات التي يتم تداولها بكثرة بين المسؤولين في واشنطن على مدار العقدين الماضيين. وقد صيغ هذا المصطلح بواسطة جوزيف ناي، أكاديمي بجامعة هارفارد، في كتابه الصادر عام 1990 “وثبة نحو القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية“. وقد قصد بهذا المصطلح ما يلي: “هو الأسلوب المتبع عندما تريد إحدى الدول أن تجعل الدول الأخرى تفعل ما تريد، وهو ما يمكن تسميته المشاركة أو القوة الناعمة في مقابل القوة الصلبة أو قوة السيطرة عن طريق إصدار الأوامر للآخرين للقيام بما تريد”.كما عرف القوة الناعمة على أنها الخصائص السياسية والاجتماعية والثقافية الجذابة لإحدى الدول، والتي تبعث على الإعجاب في الشعب المستهدف بما يؤدي إلى محاكاة تلك الخصائص والالتزام طواعيةً برغبات الدولة التي تنتج القوة الناعمة.وقد خضع هذا المصطلح للتجربة بواسطة السياسيين الأمريكيين والبيروقراطيين بوكالة الأمن القومي، خاصة منذ فشل القوة العسكرية الواضح في جعل العراقيين يحبوننا. وقد استخدم روبرت جيتس، وزير الدفاع السابق، هذا المصطلح قائلًا إنه يود زيادة القوة الناعمة الأمريكية عن طريق “الزيادة الكبيرة في الإنفاق على الآليات المدنية للأمن القومي والدبلوماسية والاتصالات الاستراتيجية والمساعدات الخارجية والإجراءات المدنية وإعادة الإعمار الاقتصادي والتنمية”.وكما كان متوقعًا، أصبحت تلك الفكرة هي الأكثر رواجًا بين مسؤولي وزارة الخارجية، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى أنهم يعتقدون أنها يمكن أن تعزز من موقفهم في معارك موازنة واشنطن مع منافسهم الأكبر وزارة الدفاع، وهي مستودع القوة “الصلبة”. وإذا ما بحثت في جوجل عن “القوة الذكية لهيلاري كلينتون” فسوف تحصل على حوالي 3.7 ملايين نتيجة. والقوة الذكية هو المصطلح المحبب لوزيرة الخارجية السابقة، ويعني الجمع بين القوة الناعمة والقوة الصلبة. كما أن جون كيري أيضَا مولع بهذا المصطلح.لذلك؛ من السهل أن نعرف لماذا سوف تستخدم وكالة الأمن القومي، باحثةً عن بعض البدائل للتهديد المعتاد بشن عمل عسكري، المفهوم السحري بأن جاذبيتنا الثقافية المفترضة بالإضافة إلى التدوينات الجيدة يمكن أن تعزز المصالح الأمريكية (طبقًا لتعريف المؤسسة السياسية بواشنطن) في جميع أنحاء العالم.ويبحث الديمقراطيون على وجه الخصوص عن بعض البدائل للسياسات الميتة التي ينتهجها المحافظون الجدد والتي أُعجب بها بعضهم لفترة وجيزة عندما كان الرئيس جورج دبليو بوش يعمل معهم وفقًا لمتلازمة ستوكهولم، كما ينجذبون إلى المفهوم الذي يبدو قريبًا من الأنشطة التي كانوا منغمسين فيها في المراحل التكوينية الأولى عندما كانوا طلابًا بالجامعة.إذا ما قمنا فقط بشرح سياساتنا لهم بالطريقة الصحيحة من خلال منشور على موقع فيس بوك، وفتح متجر آبل في وسط مدينة كيشيانو، فإن عوام الشعب المودلدافي العادي سوف يطالب بالانضمام إلى حلف الناتو!“.من الأفضل بالتأكيد أن نفكر بهذه الطريقة عن أن نتصرف كساكني الكهوف الذين يثيرون الحرب، حتى إذا بدت بعض حيل القوة الناعمة كحيل تافهة أو مربكة مثلما حدث مع جون كيري عند تقديمه المواساة في ضحايا الهجوم الإرهابي في باريس.ولا تزال القوة الناعمة حتى الآن، على الرغم من كونها أقل ضررًا، تنبع من جذور الروح العسكرية نفسها للمحافظين الجدد. وتنشأ من الاعتقاد شبه الكامل السائد بين التنويريين في الإيمان بنظرية الاستثناء الأمريكي؛ وهي الخرافة التي تقول بأن الولايات المتحدة توجد خارج العمليات الطبيعية للتاريخ، وعليها واجب أخلاقي باعتبارها المخلّص العالمي. وهذا ما سماه هنري لويس منكن “ركود المثالية الأمريكية”، وهي بذلك تحتل المكانة الصحيحة حتى مع وجود الدعاية الذكية؛ مما يرسخ الاعتقاد بأن القيم الحقيقية سوف تسمو دائمًا على الحماقات التي آمن بها الأمريكيون.فهل كان حقًا غزو العراق وكل كوابيس عهد بوش على النقيض تمامًا مما أرداه دعاة القوة الناعمة؟ وبعد سقوط بغداد، وهي الحملة العسكرية التي استغرقت شهرًا واحدًا فقط، تحولت أدوات القوة الناعمة إلى أفعال مثل: إهداء كرة القدم إلى الأطفال، وإعادة بناء نظام الصرف الصحي، وفتح بورصة بغداد على افتراض أن الجموع العراقية كانت متلهفة لثمار الرأسمالية ذات الطابع الأمريكي.وفي عام 2015، يتحدث الكثير من العراقيين اللغة الإنجليزية مقارنة بعام 2003. فقد أنفقت وزارة الخارجية الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية 50 مليار دولار في البلاد. ومع ذلك، هل حققت كل هذه الأموال والصادرات الثقافية لأمريكا أي شيء؟ وهل يمكننا أن نستنتج الشيء نفسه بشأن أفغانستان؟وقد ولدت جميع خرافات القوة الناعمة من نهاية الحرب الباردة في لحظة متغطرسة من النصر الأمريكي. وفي هذا الوقت أيضًا كتب فرانسيس فوكوياما محاضراته السخيفة للغاية والتي يتنبأ فيها بنهاية التاريخ ويبشر فيها بيوتوبيا الرأسمالية، وهي نوع من أنواع قلب الجدل الماركسي رأسًا على عقب.وهنا مغالطة أخرى تكمن في قلب القوة الناعمة، وهي: الاعتقاد بأن السلع الاستهلاكية أو بعض الحنين لنمط حياة ديزني أو بعض أدوات التكنولوجيا مثل سناب شات سوف تحرر الجماهير الأجنبية التي تتوق لتنفس الحرية.وفي التسعينيات، يمكن للمرء أن يرى مدى تأليه هذه الفكرة في أطروحات توماس فريدمان، أسقف صحيفة نيويورك تايمز، الذي ادعى أنه لا يمكن لبلدين لديهما فروع ماكدونالدز أن يخوضا حربًا ضد بعضهما البعض، وهي الأطروحة التي ثبت أنها خاطئة عدة مرات. ولكن، يمكن للمرء أن يدرك لماذا تحب الشركات الأمريكية فكرة القوة الناعمة كوسيلة لبيع المنتجات من فلادلفيا إلى بوروندي. وربما يحصلون على قرض من بنوك الاستيراد والتصدير لتسهيل بيع منتجاتهم بسبب القيمة الدبلوماسية المزعومة.وقد رأينا ثمار هذا الوهم في الشرق الأوسط. فقد كان العراق على عهد صدام حسين به حكومة علمانية استبدادية تسمح للنساء غير المحجبات بدخول الجامعة، وكانت الخمور تباع خارج المقاهي، وكان طارق عزيز، وزير خارجة صدام حسين لفترة طويلة، كلدانيًا كاثوليكيًا. واليوم، العراق بلد متعصب للإسلام أكثر مما كان عليه منذ 15 عامًا.ويمكن للشيء نفسه أن ينطبق على معظم دول الشرق الأوسط؛ حيث إن ارتداء الجينز الأزرق، والهواتف الذكية، والتواصل مع الغربيين لم يجعل معظم شعوب الشرق الأوسط أكثر ميلًا إلى الغرب من الناحية النفسية، ولكنه فعل العكس من ذلك. وكان رد فعل واشنطن الفاشل تجاه ما يسمى الربيع العربي مثالًا على ذلك؛ فقد أعجبت واشنطن بحقيقة كون المتظاهرين في ميدان التحرير يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، وربما لم تدرك واشنطن أن الديمقراطية الشعبية التي تطالب بها حشود القاهرة تختلف عن الرؤية الديمقراطية لأساتذة كلية كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد.والحقيقة القائلة بأن الأمراء السعوديين يقودون سيارات بوجاتي فايرون، ويمتلكون شققًا في حي مايفير بلندن، ويحصلون على تحليل الكوليسترول الخاص بهم من كليفلاند كلينيك، لا تبقيهم بعيدًا عن قطع رؤوس من يرونهم كفارًا أو سحرة بمعدل قياسي.فقد لاقت هذه الجوانب من القوة الناعمة الأمريكية رواجًا ضعيفًا في الشرق الأوسط؛ فقد درس سيد قطب، القيادي البارز بجماعة الإخوان المسلمين في وقت مبكر بعد الحرب العالمية الثانية، في جامعة بولاية كولورادو، واعترض على ما اعتبره مادية جامحة وسطحية في الحياة الأمريكية. وعاد إلى مصر مصممًا على مقاومة التغريب المتنامي لبلاده.ومن الشائع بالنسبة إلى المتعلمين أن الأمريكيين التقدميين مفزوعون من التعصب المتزايد للمجتمعات الإسلامية ومعاملاتها للمرأة، ويعلنون أن هذه المجتمعات منكسرة ومختلة وظيفيًا. وقد يكونون مصيبين بعض الشيء في هذا الحكم، ولكنهم يجب أن يقولوا إن سلوك عائلة كارادشيان وداك داينستي والاتحاد العالمي للمصارعة، ناهيك عن ذكر ترشح دونالد ترامب، لا يعكس للعالم صورة أمريكا باعتبارها آخر وأفضل أمل للبشرية.وينبغي أن نعترف بأن تغيير القشرة الخارجية للمجتمع لا يغير المجتمع من داخله؛ فقد كانت اليابان، من وجهة النظر الغربية، أحد أكثر المجتمعات غرابة في القرن التاسع عشر. فقد اكتسبت القشور الخارجية الأكثر ملائمة لها من المجتمعات الغربية والأمريكية وطورتها مع الاحتفاظ بالخصائص الداخلية لمجتمعهم.القوة الناعمة، وهي الرياضة المفضلة لقطاع من قطاعات وكالة الأمن القومي، أحد أكثر الجوانب غرابة لضيق الأفق الأمريكي والتعصب العرقي. وهي ليست بديلًا عن الدبلوماسية التقليدية التي تؤكد على المساومات والمعاملة بالمثل والحقيقة القائلة بأن الدول الأخرى لديها مصالح مشروعة. ووجبة من دجاج كنتاكي غير مناسبة لشعوب لديها حس من الفخر الثقافي مثلنا تمامًا.