رحلة

بينما كنت أتأكد من أنني لم أنس شيئا ، و قلبي مفعم بالسرور و الأمل ، رحت أستعرض في خيالي كل ما خططنا القيام به ، ومع كل صورة كان قلبي يشع يشع سعادة و يزداد خفقا ، وكيف لا و نحن ننتظر هذا اليوم بغارغ الصبر ، لننفض عن أكتاف أيامنا غبار الروتين الذي كنا أسراه طيلة تسعة أشهر خلت ..
سيفرح أولادي كثيرا و سيمرحون و سيتعيدون نشاطهم من جديد ..
كانت الساعة الرابعة فجرا ، توجهت لأوقظ الأولاد فوجدتهم مستيقظين يتسامرون بهمس ناعم ، فأخبروني بأنهم _ ومن شدة ابتهاجهم _ جاهدوا في شد حبال النوم إلى أعينهم ولكن محاولاتهم باءت بالفشل ..
انتشر الجميع في المنزل كطيور الصباح ، و بعد الانتهاء من صلاة الفجر بدأنا بارتداء ملابسنا تجهيزا للانطلاق باكرا ، فجأة سمعت صوت هاتف زوجي يرن ، بصراحة لم أهتم فلطالما اتصل به أصدقاؤه و أقاربه ، و بدأت بإحكام إغلاق النوافذ و أبواب الشرفات ، ولما تجهزنا تماما ، حملنا الحقائب و توجهنا نحو الباب ، إلا أن زوجي لم يلحق بنا ، ذهبت إليه لأستكشف السبب فوجدته
جالسا على الأريكة و حاضنا رأسه بين كفيه و قد وصل رأسه أطراف ركبتيه ، اقتربت منه و جلست إلى جانبه ..
_ ما الأمر عزيزي ..أرى أنك لست على ما يرام ؟
لم يحرك ساكنا ، فأعدت سؤالي بنبرة أعلى قليلا و لكن دون جدوى ، فوضعت يدي على كتفه عله يشعر بوجودي على الأقل ..
رفع رأسه لأرى وجهه محمرا و قد انتفخت أوداجه ، فالتفت إلي
_ أخي سالم ..
_ ما به ..شغلت فكري ؟
_ إنه يعالج سكرات الموت ، و يطلبون مني الذهاب إليه حالا ..
_ لا حول و لا قوة إلا بالله ...
_ وماذا تنتظر ، هيا لنمضي إليه..
_ و لكن ...ولكن ...الأولاد ... الرحلة !!
أنا حزين و عاجز
_ لابأس عزيزي فالصيف لا يزال في أوله ، و سنذهب في وقت لاحق ، أدرك أخيك، هيا لنذهب إليه
نهض متثاقلا و كأنه يحمل الدنيا على كتفيه
_ ليتني لم أرد على الهاتف ، أبعد كل هذه السنوات يتذكروني ؟
_ على العكس الحمد لله أنك رددت ، ربما هي فرصة للتسامح و تصافي القلوب .
كانت خطواته تحمل ترددا و تباطؤا كبيرا و قبل أن يهم بالخروج ، أومأت إلى الأولات لينزلوا الحقائب إلى صندوق السيارة ، ففعلوا ..
و في الطريق طلبت منه التوجه إلى منزل أخيه
أجابني مستغربا : علينا أن نكون في المشفى و ليس في المنزل .
_ وهل تعرف في أي مشفى هو ؟
_ آآآ ..لقد أنساني وقع الخبر السؤال عن ذلك
_ حسنا ..سنعرف ذلك الآن فلابد أن أحدهم في البيت و ربما عرفناه من الخادمة ..
وفي الطريق كنت أحاول إخفاء ابتسامتي الماكرة عنه ، ولما وصلنا دهش زوجي من وجود الجميع في البيت ، فسألهم عن اسم المشفى ، ولكنهم لم يجيبوه بل طلبوا منه التفضل بالدخول ، فرفض مصرا على طلبه ، دخلت فناء المنزل و صرت أسحبه من يده ..
_ ادخل عزيزي ربما اراد أحدهم الذهاب معنا
فدخل ، و تحلق الجميع حولنا كالفراشات الزاهية المرفرفة ، لقد كان الجميع يبدو و كأنه جاهز لمغادرة المنزل ، و أمطرونا بعبارات الترحيب
إلا ان زوجي لم يكترث بذلك و قاطعهم بصوته الغاضب :
من سيذهب معنا ؟ ..هيا ..ليس هذا وقت الترحيب
صمت الجميع لتتكلم زوجة أخيه وهي تتصنع البكاء : إنه هنا و يرفض الذهاب إلى المشفى قبل وصولك
_ ألا يزال عنيدا ؟
و مضى إلى غرفة أخيه مسرعا كالحصان و تبعناه جميعنا
كان أخيه مستلق على السرير و الغطاء لا يبدي منه سوى رأسه رغم حرارة الجو ، فلما التقت عيناه بعيني زوجي فاضت عيناه بالدموع و رحب بزوجي بصوته الذي قطعته نوبة البكاء المرير
_ أهلا بقدومك أخي الغالي
_ من الأفضل أن نسرع بالذهاب إلى المشفى و نتكلم فيما بعد
_ لا ..لا فلربما مت قبل الوصول ، أريد منك أن تسامحني بداية ، سامحني لأنني سمحت لخلاف عابر أن يحول دوننا و يقطعنا عن بعض لعشر سنوات
و الله لم أذق طعم الهناء منذ أن افترقنا رغم كل ما لدي من أسباب السعادة ..
اقترب منه زوجي فقبل رأسه ، و إذ بكليهما يجهش بالبكاء و تعانقا عناقا قويا استمر لبضع دقائق ..
كنا نترقب الموقف بدموع الفرح التي ماجت بأعيننا
_ قاطع الموقف سؤال أخيه : ها هل سامحتني يأخي الأكبر ؟
و كيف لا أسامحك و أنت ابن أمي و أبي ، و سأطلب منك ان تسامحني أنت أيضا ولكن في الطريق ، فليس من الحكمة أن نتأخر ..
عندها نهض أخيه من السرير كالأسد الذي انتفض في عرينه و أخبره بأنه شفي للتو و پانه لابأس عليه بعد الآن ، فظهر زيه المجهز للخروج من المنزل فلم يكن يرتدي ثياب النوم ..
كان زوجي غارق في عوالم الدهشة وما زاد دهشته صوت ضحكاتنا التي صدحت لتطوف ارجاء المنزل كلها ، فالتفت إلينا و سألنا : هل يخبرني أحد بما يحصل ؟ أتهزؤون بي و أنا العم الأكبر ؟
بدأ الأولاد جميعا يقفزون مرحا و يطلبون منا أن نخبره بالحقيقة ..
_و عن أي حقيقة تتحدثون ؟ ما الذي يحدث ؟
أشفقت عليه من شدة استغرابه فأخبرته بأنني أنا وزوجة أخيه قد خططنا لهذا الأمر أملا بعودة المياه إلى مجاريها كما أخبرته بأن هذا الخصام لم يعد مقبولا أبدا ، فنظر إلي نظرة السعيد المكابر
_ آه من كيدكن حقاً إن كيدكن عظيم .
قلت له : وما ذنب الأولاد ؟
إن من حقهم أن يتواصلوا مع بعضهم البعض ، و إن من واجبنا أن نفسد على الشيطان نزغه بيننا
_ ألم يخطر ببالكن تنفيذ خطتكن إلا في يوم الرحلة !!!
غمزته قائلة : لقد حسبنا حساب ذلك ،
فنطق أخوه بخجل وطلب منه ان يرافقنا هو و عائلته في رحلتنا
_ هذا أمر جميل ولكن أرجو ان تحددوا الزمان الذي يناسبكم لنرتب أمورنا تبعا لذلك
_ لا يا أخي الحبيب ، فنحن على أتم الاستعداد و لقد جهزنا كل شيئ ، ولا ينقصنا إلا موافقتك
_الماء يجري من تحتي و أنا لا أدري بشيئ ، لم أكن أعلم بأن للرجال كيد أيضا ، لقد أحكمت الخطة معهن جيدا هااا
_ رأيت أن الكيد يحلو ها هنا فكدنا لك جميعا ، و الحمد لله أن كان قلبك السمح هو سيد الموقف .
سعد الجميع و بدأت الحقائب بالظهور ، و جميع الأولاد ينتظرون الإذن بالمضي إلى السيارات ..
التفت إلي زوجي وقال : علي أن أذهب لإحضار الحقأئب و لن أتأخر بإذن الله
_ الحقائب في صندوق السيارة عزيزي ، قلتها و أنا أنثر ابتسامتي الواثقة على المشهد كله ..
هز رأسه راضيا مربتا على كتفي : آه منك ومن ذكائك !! فلم ألحظ ذلك
_و من الجيد أنك لم تلحظ .
_ الحمد لله أن حباني زوجة صالحة مثلك .

تدخل أخوه ليعترف بإحسان زوجته و يثني عليها هو أيضا : الحمد لله أن حبانا زوجتان صالحتان ..
قالت بابتسامة خجولة : الشكر لكما لأنكما لم تخيبوا مساعينا و الصلح خير ، و علينا جميعا أن نشكر الأولاد الذين طالبوا بحقهم _في صلة رحمهم _بصدق فأرضاهم الله
و الشكر أولا لصاحبة المبادرة التي مدت يدها للصلح فرفدتها أيدينا كالنهر الجاري ،
توجهت جميع الأنظار إلي فشعرت بخجل شديد و لكي أهرب من موجة الجل التي انتابتني قلت لهم : هل سنمضي اليوم بين الشكر و الثناء !!! سنتأخر و ستشرق الشمس علينا و أمامنا درب طويل
لا شكر إلا لله الذي وفقنا .فهلموا لنذهب
تعانق الأولاد جميعا و هتفوا : يحيا التسامح و أسرعنا إلى السيارات ، كل إلى سيارته ، ومضينا في رحلتنا و السعادة قد ألقت ظلالها على القلوب ، فتارة نتسابق و تارة نتحاذى و لم تفارقنا الضحكات حتى وصلنا ، لا زلت أذكرها حتى الآن فلقد قضينا فيها أمتع الأوقات ، ورغم هذا كان الحلم أكبر من هذا بكثير، ولكن....