الاتفاق الإيراني الغربي
بروفيسور عبد الستار قاسم
14/تموز/2015
توصلت الدول الاستعمارية الغربية وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة بالإضافة إلى روسيا والصين إلى اتفاق مع إيران حول برنامج إيران النووي السلمي بتاريخ 14/تموز/2015 بعد حوالي عقد من المشادات والتوترات والتهديدات والحصار والمقاطعة، وبعد جولة مفاوضات طويلة امتدت على مدى سبعة عشر يوما متواصلة بين الطرفين في فيينا/النمسا. وقد تنفس بعض العالم الصعداء بعد توقيع الاتفاق، على الرغم أن البعض الآخر لم يكن سعيدا به، وعمل على تعطيله سرا وعلانية. تحدث الرئيس الأمريكي الذي قادت بلاده فريق الاستعماريين حول محاسن الاتفاق على الرغم من اعترافه بأن هذا الاتفاق كان أفضل ما يمكن الحصول عليه، وتحدث الرئيس الإيراني ممتدحا الاتفاق ومهنئا الشعب الإيراني بهذا الإنجاز الذي وصفه بالمهم والكبير.
أجمعت مختلف وسائل الإعلام ذات العلاقة بالدول المتفاوضة على أن الاتفاق تاريخي، وهو بالفعل كذلك لأنه خفف كثيرا من التوتر الذي كان يخيم على المنطقة العربية الإسلامية وأبعد شبح الحرب التي كان يتخوف منها الجميع شرقا وغربا. ومن مجمل الكلمات التي ألقاها ممثلو الدول المعنية، كانت البهجة واضحة والارتياح يعم الجميع. اما في المنطقة العربية الإسلامية، فهناك من عبر عن ابتهاجه بالاتفاق وهناك من عبر عن غضبه واستيائه وذلك تبعا للموقف من إيران، أو تبعا لموقف إيران منه.
تجنب الحرب
كان هدف تجنب الحرب من قبل أطراف التفاوض أهم عامل دفع الجميع إلى طاولة المفاوضات. أدركت الأطراف جميعا: جماعة ومنفردين مخاطر أي حرب قد تنشب في منطقة الخليج من مختلف النواحي الاقتصادية والأمنية والعسكرية والتدميرية، وأدركت معها أن دفع الخلافات إلى حافة اللارجعة، وحافة الحرب سيلحق أضرارا هائلة بالجميع. أدركت إيران أن تكاليف الحرب ستكون هائلة ووخيمة، وستؤثر بشكل خطير على مسيرة الشعب الإيراني، وسيدفع الشعب أثمانا باهظة من ضمنها خسارة الكثير من المنشآت المدنية والعسكرية التي استنزفت جزءا لا بأس به من الثروة الإيرانية؛ وأدركت الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة أن الحرب ستعرض حقول الطاقة الخليجية للخطر وربما تؤدي إلى إغلاق مضيق هرمز، ومن المحتمل أن يرتفع سعر برميل النفط كثيرا ما سيؤدي إلى تدهور اقتصادي كبير في عدد من الدول الصناعية، وسينعكس ذلك سلبا على الاقتصاد العالمي وعلى نسبة النمو الاقتصادي.
النقطة الأهم بصدد المواجهة العسكرية هي أنه لم يكن أي طرف على يقين بأنه سينتصر في أي حرب قد تنشب. إيران تملك قدرات عسكرية كبيرة، لكنها تدرك أن الدول الغربية بخاصة الولايات المتحدة تملك قدرات تدميرية أكثر مما تمتلك إيران، وبحساب الربح والخسارة من المحتمل أن تكون خسائر إيران أكبر بكثير من خسائر الولايات المتحدة. وما الفائدة حتى لو كانت خسائر الولايات المتحدة ستكون أكبر من خسائر إيران. أما الولايات المتحدة فكانت تحسب جيدا لشرور الحرب من عدد من الزوايا: فمثلا كانت تحسب ردود فعل الشارع الأمريكي الذي بات يمقت الحروب بعد الخسائر التي مني بها الجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق. ثم ماذا يمكن أن يكون رد فعل الشعب الأمريكي فيما إذا تمكنت إيران من تدمير بارجة حربية أمريكية واحدة في مياه الخليج؟ عندها ستتحول الحرب من حرب على إيران إلى صراعات داخل الولايات المتحدة، أو إلى صراع مع الرأي العام الأمريكي. أمريكا لم تكن متأكدة بأنها ستنتصر في حرب ضد إيران، لكنها كانت على يقين بأنها ستتورط فيما إذا شنت حربا، ولن تكون قادرة على إنهاء الحرب على هواها.
(لو) كانت إيران متأكدة من نصر مؤزر على القوات الأمريكية في الخليج ومحيطه لكان من الممكن أن تدفع بالأمور نحو الحرب، كان من الممكن أن تستمر بالقيام بأعمال استفزازية للدول الغربية لتدفعها نحو الهجوم العسكري، (ولو) كانت الولايات المتحدة قادرة على محاصرة الأضرار الناجمة عن الحرب لما تلكأت بضرب إيران بخاصة أن الولايات المتحدة كانت تتعرض لضغوط إسرائيلية وعربية حثيثة من أجل شن هجوم عسكري على المنشآت الإيرانية. عدم القدرة على حسم الحرب من قبل الطرفين حال دون نشوب الحرب.
العقوبات والصمود
منذ البدء أساءت الولايات المتحدة التقدير، ولم تستطع التكهن بالعقيدة الإيرانية الإسلامية أو التكهن بقدرة الشعب الإيراني على امتصاص الآلام وتوظيفها للإبداع والاكتشاف والاختراع. ظنت أمريكا أن فرض بعض العقوبات على إيران ممكن أن يكون بديلا لاشتباك عسكري بينها وبين إيران، ولهذا بدأت بحصار إيران تدريجيا منذ اننتصار الثورة، ومنعت عنها بعض قطع الغيار الخاصة بالطائرات المدنية وتلك الخاصة بطائرات f14 التي كانت تمتلكها إيران الشاهنشاهية. لكن الولايات المتحدة سلطت العرب على إيران بعد تخويفهم وإرعابهم من الثورة المصدرة إلى بلدان الجوار. أوهمت أمريكا العرب بخاصة السعودية والكويت والعراق بأن المد الإيراني قادم إن لم يشن العرب هجوما عسكريا على إيران يقضي على الثورة الخمينية في مهدها. وبالفعل لم يكذب العرب خبرا، وبدأ الرئيس العراقي صدام حسين بالاستعداد لقتال إيران بعد أن ألغى اتفاقية شط العرب التي وقعها مع شاه إيران. ولم يبخل عليه العرب بالتحريض والتشجيع وتقديم مختلف أنواع الدعم عسى الجيش العراقي يتمكن من تغيير الأوضاع السياسية في إيران. تكالب العرب على إيران، وأمدوا العراق بما يلزم من تمويل، وقامت الدول الغربية الاستعمارية بتوريد السلاح للعراق بما في ذلك طائرات الحرب البريطانية تورنيدو. وقد بلغ الأمر بالعرب أن بعض البلدان العربية النفطية اضطرت لتحميل نفسها الديون من أجل القضاء على إيران، لكن خاب أمل العرب في النهاية وأمل الدول الاستعمارية والكيان الصهيوني.
العقوبات
عمدت أمريكا بعد ذلك إلى اتخاذ إجراءات تصاعدية ضد إيران في محاولة منها لهز الحكم وإخضاعه وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. من هذه الإجراءات ما يلي:
1- القيام بأعمال استفزازية ضد إيران بهدف جرها إلى مواجهة عسكرية أكبر من قدراتها العسكرية. فعملت الولايات المتحدة على اختراق المجالات الجوية والبحرية الإيرانية، وقصفت منصات إيرانية في الخليج، وحاولت التخريب داخل الأراضي الإيرانية. كانت تصيب أمريكا أهدافها أحيانا، لكنها لم تستطع أن تجر إيران إلى مواجهة عسكرية تكون هي الخاسر فيها.
2- تحريض دول العالم ضد إيران على اعتبار أنها دولة متمردة، أي لا تحترم قواعد ما يسمى بالمجتمع الدولي. وطبعا المجتمع الدولي هو نادي الدول الاستعمارية الذي تقوده الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني. وقد ساهمت بعض الدول العربية بخاصة الخليجية منها في التحريض والتمويل على أمل أن تتحرك قوى داخلية إيرانية لتغيير الوضع السياسي.
3- فرض عقوبات متنوعة على إيران بخاصة من النواحي الاقتصادية والمالية، والاستعانة بمجلس الأمن لإضفاء ما يسمى بالشرعية على الأعمال اللاإنسانية. حشدت أمريكا أوروبا ضد إيران والتي عملت بعض دولها في مجلس الأمن من أجل اتخاذ قرارات صارمة ضد إيران. صدرت عدة قرارات من مجلس الأمن منها تحت الفصل السابع لكبح جماح إيران في تطوير قدراتها العسكرية والنووية.
4- اتخذت دول أوروبية مع الولايات المتحدة الأمريكية قرارات لتحجيم تصدير إيران مادتي النفط والغاز، واللتين تعتبران العماد الأساسي للدخل الإيراني، وتم تجميد أرصدة إيران المالية في الخارج بما في ذلك رصيد الفريق الإيراني لدى الفيفا.
5- عمدت الولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني إلى تهديد إيران بالحرب باستمرار، ودائما كان يقول قادة أمريكا إنهم لا يستبعدون الحل العسكري مع إيران، وإنهم جاهزون للانقضاض عليها, والكيان الصهيوني طالما كان يعلن عن استكمال التدريبات الجوية لكيفية الإغارة على المنشآت الحيوية الإيرانية. كان الهدف باستمرار التأثير على المعنويات الإيرانية، والضغط على الشعب كأسلوب غير مباشر لدفع الناس إلى الثورة بسبب ما يتعرضون له من ضيق. وكم من مرة استعملت الولايات المتحدة الضغط على المدنيين والأبرياء والأطفال كنوع من التحريض ضد نظام الحكم القائم.
6- حاصر الأمريكيون والأوروبيون حوالي 800 شركة إيرانية ومنعوا عن الشعب الإيراني مختلف أنواع المعدات اللازمة لتطوير الحياة المدنية والأوضاع العسكرية، ولو كان بإمكانهم حجب أشعة الشمس عن إيران لما توانوا.
7- عمدت أمريكا باستمرار على تشويه صورة إيران ووصفتها بأنها دولة منتمية إلى محور الشر وفق تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، وقال إنها دولة داعمة للإرهاب والإرهابيين، وهي دولة مارقة يجب تأديبها. وعملت لدى دول عديدة من أجل عدم التعامل مع إيران وعزلها على الساحة الدولية.
8- اغتيال بعض العلماء الإيرانيين الأمر الذي وضع القيادات الإيرانية في وضع أمني حرج، ونبه إلى وجود اختراقات أمنية في الصفوف الإيرانية، وأثر سلبا على صورة إيران أمام العالم.
رد الفعل الإيراني
كان رد الفعل الإيراني تاريخي وعلى مستوى التحدي المفروضز. أيقنت إيران أنها أمام أوقات عصيبة، ومن الصعب أن يكون لها أصدقاء ذلك لأنها أتت بفكر سياسي غريب عن المنطقة وهو فكر الاستقلال والخروج من تحت عباءة القوى الاستعمارية. برزت إيران دولة تحرص على نفسها وعلى استقلالها، وتعمل على التحرر من نير القوى الباحثة عن الثروة واستغلال ثروات الآخرين. ولهذا بدأت بإبراز مخاطر الهيمنة الأمريكية على منطقة الخليج، ومسؤوليات دول وشعوب المنطقة لمواجهة هذه المخاطر. كما أن إيران ظهرت كعدو حقيقي للكيان الصهيوني واتخذت إجراءات سريعة وشجاعة ضده. إيران طردت السفير الصهيوني من طهران، وحولت السفارة الصهيونية هناك إلى سفارة فلسطينية، وأوقفت كل أنواع التعاون مع الكيان. كان شاه إيران شرطيا أمريكيا في الخليج، وحافظ بقوة على مصالح الكيان الصهيوني دون أن يجد من العرب من يحاول أن يوقفه. وقد هابه العرب كثيرا إلى درجة أن صدام حسين رضخ لمطالبه بتقسيم شط العرب وذلك وفق معاهدة شط العرب لعام 1975. وقام الشاه بسهولة بالسيطرة على جزر طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى الواقعة في الخليج، وباركت الأنظمة العربية له ذلك.
قررت إيران أنها يجب أن تعتمد على نفسها في مختلف ميادين الحياة إذا كان للنظام الجديد أن يعمر، وأن يرفع من مستوى الحياة للشعب الإيراني. ولهذا بدأت القيادة الإيرانية بإنشاء مراكز البحث العلمي والتطوير والتنمية على مختلف مستوياتها، وأخذت تشجع العلم والعلماء وتحسن من أوضاعها الاقتصادية. منذ عام 1980 وإيران تعمل على تطوير اقتصادها بحيث تصل إلى درجة الاكتفاء الذاتي من الناحية الغذائية، وعلى المجال العسكري بحيث تصل إلى درجة التحصين الذاتي ضد الاعتداءات الخارجية. لم يكن هناك في العالم من كان يجرؤ على بيعها السلاح إلا تجار السوق السوداء الذين كان من بينهم صهاينة، ولم يكن من يجرؤ على مدها بالمواد الغذائية. ولهذا أيقن الإيرانيون أن التحدي لا يواجه بالبكاء والعويل وإنما بتحد من ذات المستوى وأعلى.
وفد استفادت إيران كثيرا من فكرة التقية الشيعية والتي يؤيدها الحديث الشريف القائل: "استعينوا في قضاء حوائجكم بالكتمان." حرصت إيران بقوة على سرية نشاطاتها حتى لا تفتح مجالات للدول المعادية الغربية والعربية للانقضاض على مشاريعها أوعرقلة تخطيطها. لقد صمتت إيران سنوات طويلة وكانت مضطرة في بعض الأحيان للقبض على الإهانة حتى لا تذهب جهودها هباء. لقد وازنت إيران بين مصالحها المستقبلية وبين غض الطرف عن الإهانات والاستصغار، ووجدت أن الصبر على الظلم أفضل من الأعصاب المتوترة في وجه الاستفزازات. ولهذا بقيت إيران هادئة ومستعدة دائما لامتصاص الآلام مقابل تحقيق الفرج مستقبلا.
استغلت إيران الوقت لبناء المصانع وإقامة المزارع، وتطوير القدرات العلمية، والتحول إلى التفكير العلمي والعقلية العلمية لما في ذلك من تأسيس للحاق بدول العالم المتطورة علميا وتقنيا. غرقت دول المنطقة وشعوبها في الحياة الاستهلاكية وتركت مستقبلها يحدده الآخرون، بينما بدأت هي بتوظيف الأموال من أجل البناء. لم يتبغدد الإيرانيون، ولم يبذروا أموالهم في دور القمار والعهر والإفساد، وانتبهوا جيدا إلى المواقع التي تنساب فيها أموالهم، ولهذا استطاعوا بأموال قليلة أن يعينوا أنفسهم ويساعدوا أصدقائهم بخاصة من قوى المقاومة العربية. وقد كان الذكاء الإيراني واضحا كقرص الشمس في إدارة الأموال وإدارة شبكة العلاقات المتنوعة مع مختلف دول العالم. لم يتصرف الإيرانيون بهوجائية ولا بطريقة عشوائية وارتجالية أو اعتباطية. عرفوا تماما أين يضعون كل قرش وكيف.
بنى الإيرانيون بهدوء قوة عسكرية ضخمة بدأت بالبندقية ووصلت إلى الصاروخ العابر للقارات وإلى الطائرات الحربية وغزو الفضاء وتطوير تقنية النانو. وبعد أن كانت إيران مستهلكة للعلم ومعتمدة على الدول الغربية، أصبحت من الدول التي تصدر العلم، وتطورت جامعاتها لتتحول إلى مراكز علمية تتمتع بأعداد متزايدة من براءات الاختراع. وسبق أن تردد على ألسنة مسؤولين إيرانيين أن الحصار كان مفيدا جدا لأنه دائما كان يدفع إيران للبحث عن البدائل المبتكرة ذاتيا. وهذا هو شأن الإنسان أو الدولة المبدعة، إنه لا يستسلم عند أول منعطف وإنما يفكر في كيفية إزالة الجبل ليجعل الطريق مستقيمة.
النووي الإيراني
لم تتوقف إيران عند تطوير قدرات عسكرية تقليدية متطورة، وإنما قررت أن تدخل عالم النووي وذلك احتياطا للمستقبل الذي ينبئ أن الطاقة النووية ستكون لها أولوية على النفط والغاز مستقبلا. وقد اعتمدت إيران على علمائها في تطوير قدرات نووية من الصفر، واجتهد هؤلاء العلماء وسهروا الليالي وواصلوا الليل بالنهار من أجل الوصول إلى الهدف المنشود. واستطاعت إيران بناء مفاعلاتها النووية، وتخصيب اليورانيوم وتصنيع الماء الثقيل، وتطوير أجهزة الطرد المركزي، الخ. لم تكن إيران بحاجة إلى معونات علمية خارجية، وفي زمن قياسي أصبحت لديها قدرات علمية وتقنية تمكنها من تصنيع الفنبلة النووية إن هي قررت بناءها. أعلنت إيران مرارا أنها لا تنوي تطوير قنابل نووية لما في ذلك حسب فتوى المرشد الأعلى ما يخالف التعاليم الإسلامية، لكن العالم لم يصدق هذه الفتوى، وتمسك الكيان الصهيوني مع الدول الغربية بأن إيران تعمل فعلا على إنتاج قنابل نووية. وعلى الرغم من القناعة السائدة على المستوى العالمي بأن القنابل النووية موجودة لدى الدول كسلاح ردع وليس سلاحا للاستعمال إلا أن الكيان الصهيوني تباكى كثيرا أمام العالم ليوصل رسالة بأن إيران ستستعمل القنبلة الذرية للقضاء على إسرائيل بمجرد تركيبها على أول صاروخ إيراني. تقبلت أمريكا ومعها دول غربية على رأسها فرنسا بمقولات الكيان الصهيوني، وأخذت تهيئ العالم لشيطنة إيران وأنها دولة تسعى لتدمير السلم العالم وتعريض أمن العالم للخطر. علما أن فرنسا هي التي زودت الصهاينة بالمفاعل النووي الذي أنتج في النهاية قنابل ذرية يتمسك بها الكيان لتهديد الآخرين وليبقى متفوقا عسكريا على كل دول المنطقة. وبالرغم من هذا، لا يتحدث العالم عن القدرات النووية للكيان الصهيوني، ولا يأت أي من رؤساء وقادة الدول الغربية على تحدي القوة النووية الصهيونية. أما العرب فيقبلون الصهاينة قوة نووية، ويرفضون امتلاك إيران لهذه القدرة، والسبب أن العديد من البلدان العربية متحالفة مع الصهاينة ومعادية لإيران.
على كل حال، حاول قادة إيران في مناسبات عدة طمأنة العالم بأنهم لا يسعون إلى امتلاك القنبلة النووية، لكن العالم بقي مجرورا خلف الولايات المتحدة وغير مكترث بالفتاوى الشرعية الإيرانية.
فتنة الشيعة والسنة
توقعت في كتابي المعنون سقوط ملك الملوك والمنشور عام 1979 أن تنشب فتنة شيعية سنية وذلك لخدمة عدة أطراف وهي: الأنظمة العربية والولايات المتحدة والكيان الصهيوني. كنت على اطلاع مسبق على كتابات الخميني، وكنت على يقين بأن الأفكار الواردة في هذه الكتابات ستؤدي إلى فتنة سنية شيعية فيما إذا طبقت لأنها تخدم المستقبل العربي وتدافع عن الحقوق الفلسطينية وترفض التبعية السياسية للدول الكبرى. أي أنني كنت أرى العرب رأس الفتنة وسيستمرون في تغذيتها من أجل إسقاط إيران وتحويلها إلى أداة بيد الأمريكيين والصهاينة. وهذا ما لمسناه فورا بعد انتصار الثورة الإيرانية من حيث أن وسائل إعلام عربية بدأت تتحدث عن السنة والشيعة، وبدأت بعض قطاعات الشارع العربي بخاصة قطاعات المتدينين تتحدث بمصطلحات الشيعة والسنة. فكان الهدف نبش التاريخ بطريقة تبث الكراهية والبغضاء بين فئات المسلمين لتحريض جماهير العرب ضد الثورة الإيرانية. وقد حصلت تطورات حينها حيث أن مصر خرجت من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وتفاءل العديد من الناس العرب بأن تحل إيران محل مصر في هذه المعادلة. أغلب الأنظمة العربية أيدت السادات في توجهه نحو إسرائيل على الرغم من أن القمة العربية حاولت عزل مصر، ولم يكونوا بحاجة لمن يقلق راحتهم في مواجهة إسرائيل. وقد بنيت توقعي إجمالا على عدة عوامل وهي:
1- أتت الثورة الإيرانية لتبحث عن الاستقلال ورفضا للتبعية للولايات المتحدة أو أي دولة أخرى، وهذا ما لا يرضي العرب السنة لأنهم مرتاحون تحت الهيمنة الأمريكية. العرب يعشقون الهيمنة الأمريكية ولا يرتاحون إذا خفف الأمريكيون الوطأة على رقابهم. وإذا كانت إيران ستسير في خط الاستقلال فإنها قد تصنع لنفسها مستقبلا مما يجعلها فوق الأنظمة العربية. وتاريخيا نحن العرب لا نقبل سيادة ابن البلد أو ابن المحيط، ودائما نقاتل من أجل أن يسود علينا أبناء القردة. نحن نستمر في حروبنا الداخلية لسنوات طويلة، لكننا سرعان ما نستسلم أمام العدو الخارجي الذي يتحول مع الأيام إلى صديق محبب. فكيف يمكن أن نقبل بإيران سيدة في المنطقة العربية الإسلامية؟ ورأت الأنظمة العربية أن إحداث الفتنة السنية الشيعية سيؤثر سلبا على مكانة إيران في المنطقة، وسيولد الكراهية ضدها. ولهذا نرى الآن التهم تنهال على إيران باستمرار من حيث أنها صفوية وفارسية ومجوسية وتعمل على تشييع أهل السنة. كلها تهم بحاجة إلى تحقق ولا يبدو على السطح ما يدعمها.
2- تربع أهل السنة العرب على عرش الإسلام لقرون طويلة، وهم عرفوا بالإسلام، وعرف الإسلام بهم، أما أهل الشيعة فعانوا من الاضطهاد على يد أهل السنة لقرون طويلة، ولم تكن لمرجعياتهم كلمة في الشؤون الإسلامية. لقد احتكر أهل السنة الإسلام وحرموا غيرهم سواء من الانثي عشرية أو الفاطمية أو الدروز أو العلوية أو الأباضية أو الأيزيدية أو الزيدية أو القدرية أو الجبرية من المساهمة في بلورة الرؤية الإسلامية. الآن ظهرت إيران كقوة كبيرة يمكن أن تعطي دفعة لأهل الشيعة لتكون لهم مكانة في العالم الإسلامي، وفي هذا ما يزاحم أهل السنة على السلطة الدينية. وبالفعل شهدنا نهوضا للمضطهدين بعد الثورة الإيرانية وأخذ النفس يجري في رئتي أهل الشيعة في مختلف البلدان العربية من لبنان إلى اليمن والعراق والبحرين والجزيرة العربية، الخ.رد الفعل وفق نظريات الاجتماع السياسي كان متوقعا وهو أن صاحب السلطان يمقت من يتحداه ويعمل على مشاركته في سلطانه، ويعمل على تدميره.
3- تحدي إيران لإسرائيل دفع الأنظمة العربية السنية إلى التحالف مع إسرائيل وأمريكا لأن إسرائيل باتت تخشى قوة جديدة تقف ضدها، وأمريكا باتت خائفة على نفوذها في المنطقة وعلى مستقبل إسرائيل. فتعزز التحالف العربي الغربي الصهيوني في مواجهة الإسلام الشيعي. أغلب الأنظمة العربية كانت صديقة للحركة الصهيونية قبل قيام إسرائيل، واستمرت العلاقة الطيبة إلى أن وصلت إلى حد التحالف. وقد ظهر التحالف الصهيوني العربي بوضوح إبان حرب الصهاينة على حزب الله اللبناني عام 2006. لقد تعاونت دول عربية عدة مع إسرائيل أمنيا بهدف القضاء على حزب الله على اعتبار أن الحزب أحد أذرع إيران في المنطقة وليس أحد القلاع العربية في مواجهة إسرائيل. وهنا برزت عبقرية العرب في تفسير النوايا الإيرانية والشيعية عموما وذلك من خلال القول إن إيران تدعم حزب الله في مواجهة إسرائيل من أجل أن يحقق الحزب إنجازا عسكريا في مواجهة إسرائيل فتؤمن جماهير العرب بأن إيران على حق أي أن أهل الشيعة على حق فيتشيعون. ولم يخطر على بال الأنظمة العربية أن تدعم مقاومة سنية من أجل أن يتسنن أهل الشيعة. بل كان من الواضح أن أهل السنة العرب تآمروا على المقاومة السنية في قطاع غزة وحرضوا الصهاينة على الاستمرار في حروبهم ضد غزة حتى القضاء على المقاومة الفلسطينية.
4- منذ انتصار الثورة الإيرانية وهناك محاولة لتثوير المفاهيم الإسلامية لتتحول إلى مفاهيم علمية وعملية يمكن تطبيقها بخاصة فيما يتعلق بالمجال العلمي. أخرجت الثورة الإيرانية الدين الإسلامي إلى حد ما من مرحلة الشعائر إلى مرحلة البحث العلمي والرقي المنطقي والإنجاز التقني. لم يعد الإسلام ذلك الدين المنزوي تحت شعائر لا قيمة لها ما لم يواكبها العمل. هذا انحناء ديني لا يعجب رجال الدين الذين استكانوا للصلاة والصوم وغطاء رأس المرأة على حساب الممارسة العملية لحكمة الشعائر. هم عن دينهم غافلون، ولا يحبون من يهز أسرتهم ليفيقوا من سباتهم. ولهذا نشأت الكثير من القنوات الفضائية لتوجيه حرب على العلم والتقدم والمساهمة في الحضارة العالمية. هذا لا يعني أن أهل الشيعة ليس لديهم خزعبلات وشعوذات ورجال دين متخلفون. لا. لديهم وهناك قنوات شيعية همها الشتائم والسباب، وهي تسيء للدين الإسلامي كما تسيء القنوات السنية.
لهذه الأسباب أطلت الفتنة برأسها، وأطل القتل وسفك الدماء والتعصب الأعمى برأسه الأمر الذي أهلك بلدانا عربية وشرد شعوبها وخرب بنيانها. ولدت الأحقاد الإرهاب في منطقتنا، وكان أهلنا وشعوبنا أول من يكتوي بنيران الإرهاب المدعوم غربيا والممول عربيا.
ونقطة مهمة في التوتر القائم بين بعض العرب وإيران هي أن العرب يهددون أمن إيران بسبب فتح أبوابهم أمام الأمريكيين. هناك قواعد عسكرية أمريكية في البلدان العربية مثل قطر والسعودية والبحرين وهي قريبة من الشواطئ الإيرانية وتمكن أمريكا عسكريا. هذا لا يأتي على ذكره العرب عندما يوجهون سهامهم ضد إيران. أنتم أيها العرب تستضيفون أعداء إيران وتعرضون أمنها للخطر. فماذا تنتظرون من إيران؟ الجلوس على الشرفة والنظر إلى الصواريخ الأمريكية الموجهة إلى منشآتها؟
المفاوضات
نظرا لصمود الشعب الإيراني والقيادة الإيرانية في وجه الحصار والعزل، ونظرا لتطور قدراتها العسكرية إلى درجة يصعب هزيمتها، انحنت الدول الغربية الاستعمارية للأمر الواقع وقررت التوقف عن التهديد والوعيد والتوجه نحو طاولة الحوار والمفاوضات. لقد أثبتت إيران نفسها ولم تخضع، وبقيت قادرة عبر سنوات الحصار على التماسك وتطوير قدراتها الاقتصادية والغذائية، وصبر الشعب كما صبرت القيادة، فأتاها خصمها يطلب التفاهم. وخاضت إيران مفاوضات قاسية على مدى حوالي سنتين بصبر وصلابة ووضوح إلى أن تحقق لها أغلب ما أرادت لتصبح مثلا تاريخيا يمكن أن تحتذي به الأمم. وقد سبق أن كتبت حول مفاوضات إيران الناجحة، ونشرت الجزيرة نت المقال الذي أعيد نشره الآن:


مقومات التفاوض الناجح: النموذج الإيراني
المفاوضات ليست مجرد محادثات أو دردشات، وإنما هي أخذ ورد بين أطراف المفاوضات بهدف الوصول إلى نتائج مرضية لكل الأطراف أو للطرفين في غالب الأحيان. وحتى تكون النتائج مرضية للطرفين لا بد من توفر مقومات تفاوضية تؤدي إلى النجاح المأمول، وغياب هذه المقومات لن يؤدي إلا إلى الفشل لأن أحد الأطراف سيغبن وسيصحو على نفسه ذات يوم ليتألم من نتائج لم يستطع عقله التفاوضي أن يستوعبها في حينه. ومن الوارد جدا أن يتمرد الطرف المغبون على نتائج المفاوضات ويحجم عن الالتزام بها، فينشب الصراع من جديد وكأن مفاوضات لم تجر. وعندما يدرك طرف مفاوضات أنه لا يملك مقومات التفاوض الناجح فإنه يجنح إلى الاستسلام بدون طاولة مفاوضات، وهذا هو عين العقل. فهو يدرك أنه لا يستطيع الوصول إلى نتيجة مرغوب بها وأن الطرف الآخر هو الذي يمسك بطاولة التفاوض ولا ضرورة عندها للمكابرة وخداع الذات تفاوضيا.
ربما في المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية ما يجعل هذا الأمر أكثر وضوحا. لقد ذهب الفلسطينيون إلى طاولة سموها طاولة مفاوضات، ولكن دون مقومات تفاوضية فخسروا أنفسهم وربحت إسرائيل واستمرت في عدوانها على الشعب الفلسطيني.
يشير النموذج الإيراني الأمريكي التفاوضي إلى نجاح، وخرجت الأطراف المختلفة راضية عن النتائج. لم يحقق أي طرف نجاحا كاملا ولا فشلا كاملا. أنجز كل طرف شيئا مقابل تقديم تنازلات، ونجح الطرفان في تجنب الحرب التي كان يمكن أن تكون مدمرة للمنطقة العربية الإسلامية فيما لو نشبت. وواضح أن كل طرف احتفل خطابيا وبالتصريحات الإعلامية على طريقته الخاصة.
السؤال الأولي قبل التفاوض
من المفروض أن يسأل كل طرف في عملية تفاوضية متوقعة عن أوضاعه قبل كل شيء وذلك بالسؤال: هل سأذهب إلى طاولة المفاوضات كندّ للطرف الآخر، أم سأكون مجرد ملحق لطاولة يتناولها الإعلام على أنها طاولة مفاوضات؟ وحتى يتمكن المفاوض من الإجابة، عليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة. هل أملك من القوة العسكرية ما يكفي لإقناع الطرف الآخر بأنه لا يستطيع أن ينتصر في أي مواجهة عسكرية ضدي أم لا؟ ومن ثم عليه أن يسأل عن قدراته الاقتصادية وكيف يمكن أن تؤثر في الخصم إن قرر اتخاذ خطوات افتصادية عقابية؟ هل أستطيع التأثير في اقتصاد الطرف الآخر وإيقاع خسائر اقتصادية به؟ ومن ثم عليه أن يقيم قوته الأخلاقية وفيما إذا كان شعبه يملك قوة أخلاقية استثنائية تفرض نفسها على الجو العام للمفاوضات. والأسئلة يجب أن تستمر حول القدرات العلمية والتماسك الاجتماعي ومنسوب احترام الإنسان في الدولة، الخ.
ليّ الأذرع
لا يذهب المرء إلى طاولة المفاوضات للي ذراع الطرف الآخر وإنما لتحقيق نتائج مرغوب فيها، لكنه يذهب بوعي تام حول قدراته على ليّ الذراع فيما إذا تطلب الوضع التفاوضي ذلك. المفروض أن يذهب كل طرف إلى طاولة المفاوضات وبيده أوراق يمكن أن يستعملها أثناء العملية التفاوضية لتليين مواقف الطرف الآخر وإقناعه أن عدم الخروج بنتائج أسوأ بكثير من نتائج لا تلبي تطلعاته وآماله. لكن هذه الأوراق لا يتم كشفها دفعة واحدة، ومن المتوقع أن يكشف الطرف المفاوض من الأوراق ما يكفي لإقناع الطرف الآخر أن هناك ما يكفي من القوة للتعامل معه في أحلك الظروف. المعنى أن المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض، وإنما وهو متمكن وقادر. والمفاوض يكشف أوراقه تدريجيا وذلك تبعا لسير العملية التفاوضية. فعند كل منعطف وعر يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعا. فإيران مثلا كانت تعمد إلى القيام بمناورات عسكرية بالتزامن مع جولات المفاوضات مع ظهور أسلحة جديدة متطورة وذلك لتقديم رسائل واضحة للمفاوضين الغربيين بأن الحرب لن تكون نزهة فيما إذا قرر الغرب ضرب المنشآت النووية الإيرانية. ولذلك انخفض سقف أهل الغرب من التهديد المستمر بضرب إيران وتدمير منشآتها إلى الارتياح لتجنب الحرب وحل الإشكاليات سلميا حتى لو أبقت إيران البنية التحتية لمشروعها النووي.
الانكشاف
يجب أن يعمل المفاوض دائما على الاحتفاظ بأسرار الدولة وقدراتها ومقومات صمودها واستطاعتها على المواجهة. إنها مشكلة كبيرة أن ينكشف المفاوض أمام الطرف الآخر لما في ذلك من فرصة كبيرة للطرف الآخر لتكييف أوضاعه بطريقة تتناسب مع ما يملك المفاوض الآخر من مقومات البقاء والاستمرار والمواجهة. الدولة المخترقة أمنيا، أو المفاوض المكشوف أمام الطرف الآخر لا يتميز بقوة المفاجأة، ولا يستطيع أن يكون ندا على الطاولة. الخصم يبرمج أوضاعه بطريقة تتناسب مع رغباته، وهو يكون أكثر قدرة على اللعب بأوراقه عندما تتوفر لديه معلومات وافية عن الطرف الآخر. وهذه مشكلة طالما عانى منها العرب والفلسطينيون بسبب انكشافهم أمام الإسرائيليين. تملك إسرائيل معلومات وفيرة حول البلدان العربية وأنظمة الحكم والجيوش والأجهزة الأمنية، وعادة تذهب إلى المفاوضات وبحوزتها معلومات عن الطرف الآخر أكثر مما يعرف الطرف العربي عن نفسه. وقد حصل أن سأل المفاوض الفلسطيني المفاوض الإسرائيلي عن مواقع فلسطينية أثناء العملية التفاوضية.
إيران منكشفة إلى حد قليل أمام إسرائيل والغرب، وسبق أن تمكنت إسرائيل من اغتيال علماء نوويين إيرانيين، لكن إيران استطاعت أن تعمل بالسر، وأبقت على الكثير من المعلومات التقنية والعلمية بعيدة عن أعين الغربيين. وواضح أن أهل الغرب لا يعرفون تماما قدرات إيران العسكرية والعلمية والتقنية، وفي كثير من الأحيان يرتدعون بسبب قلة المعلومات لديهم حول الطاقات الإيرانية. طبعا لا يوجد دولة في العالم محصنة من الانكشاف بما فيها الدول النووية، لكن المسألة نسبية، وإيران تحرص على أسرارها ليس من قبيل التكتيك فقط وإنما من قبيل االعقيدة الإسلامية أيضا إذ قال عليه الصلاة والسلام: " استعينوان في قضاء حوائجكم بالكتمان." ولولا أن إيران أبقت على سرية نشاطاتها لما وضعت أهل الغرب وإسرائيل في حيرة من جدوى الحرب عليها.
القدرات العلمية
الدول العظيمة تحرص جدا في هذا الزمان على التطوير العلمي لأنه هو أساس المعرفة، وهو أساس التطوير التقني. لا تتمكن الدول من إحراز تقدم تقني بدون إحراز تقدمي علمي، ولن تتمكن من تحقيق الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية ما لم تكن مستقلة علميا وتقنيا. الدول العظيمة هي التي تحرص على صناعة العلماء في مختلف التخصصات وتقدم لهم مختلف التسهيلات لإجراء البحوث العلمية المتنوعة، وهي تحرص أيضا على استقطاب العلماء من مختلف الدول وتقدم لهم الإغراءات من أجل أن يعملوا في جامعاتها ومراكز أبحاثها. لم تبخل إيران في توظيف الجهود والأموال من أجل الانتقال من دولة مستوردة للمعرفة إلى دولة منتجة لها. لقد أيقنت إيران منذ عام 1979 أنها لا تستطيع مواكبة الركب العلمي العالمي إلا إذا انتهجت التفكير العلمي والمناهج العلمية في عملية بناء الدولة، وهذا ما مكنها من بناء مؤسسات علمية رائدة، ومن تطوير تقنية تمكنها من الاعتماد على نفسها. أما نحن العرب فما زال علماؤنا يهجرون أوطانهم هاربين إلى الغرب، وما زلنا ننفق أموالا طائلة لشراء السلاح الغربي.
قوة الشعب
يحتاج المفاوض سندا قويا يدعمه في العملية التفاوضية، وقوة الشعب هي أفضل سند يمكن أن يعتمد عليه المفاوض. الشب الراقي أخلاقيا الذي يؤمن بقدراته وكرامته يعطي المفاوض قوة دفع بسبب صموده وذكائه في امتصاص الآلام والمحن والأحزان. الشعب الملتزم وطنيا والمؤمن بوطنه والمتماسك اجتماعيا لا يلين أمام الضغوط ولا يسمح بتنازلات على طاولة المفاوضات تؤثر على مستقبل الشعب والأوطان. عندما يكون هناك شعب ناهض متمسك بحقوقه ولديه الاستعداد للتضحية من أجل قضاياه، فإن المفاوض يستمد قوته من هذا الشعب كما أن الخصم يخشى الشعب الحي المتماسك والمتمع بدرجة عالية من الالتزام، ويدرك تماما أن شعبا من هذا القبيل لا يمكن أن يحترم اتفاقيات لا تحترم كرامته وعزته وتاريخه. ولهذا من الحيوي أن يقيم المفاوض قدرات شعبه قبل أن يحمل حقيبته التفاوضية.
وضوح الهدف
على المفاوض أن يكون صاحب رؤية وصاحب هدف. يجب أن يكون هدف المفاوضات واضحا لديه، وليس بمعزل عن الشعب. المفروض أن يشارك الناس في صياغة الأهداف عبر مختلف الوسائل والأطر حتى لا يضل المفاوض الطريق. وهذا ما حرصت عليه إيران أثناء عملية التفاوض بكافة مراحلها. أراد الإيرانيون تجنب الحرب لكن دون التخلي عن برنامجهم النووي، وحصروا المفاوضات في مسألة واحدة فقط وهي البرنامج النووي، ولم يسمحوا للغرب بتوسيع نطاق المفاوضات.
الضعف والاستجداء
الضعف ليس حالة جيدة للذهاب إلى طاولة المفاوضات لأن المفاوض خالي الوفاض ولا يلوي على أي نوع من أنواع القوة يقنع بها خصمه لن يستطيع فعل شيء يؤثر سلبا عليه. والخصم يقابل المفاوض الضعيف وهو يعي أنه لن يفاوض بجدية وإنما يجري مفاوضات من قبيل الإحسان. أي هو الذي يقرر ماذا يعطي للضعيف، وهو الذي يقرر مسار التفاوض والمواضيع التي يجب التركيز عليها. في هذه الحالة، يلجأ الضعيف إلى الاستجداء وطلب العون من الآخرين. إنه لا يملك قدرات تفاوضية، ويستعيض عن ذلك بالبكاء والعويل والاستنجاد بهيئة الأمم المتحدة وما ينبثق عنها من مؤسسات. ومجرد أن بدأ الضعيف بعملية الاستجداء، يدرك الطرف الآخر أن خصمه قد استسلم.
الوسيط
هناك من المفاوضين من يستقوون بالوسطاء ولا يجدون في النهاية من يسعفهم. هذا العالم عالم قوة ومصالح، والوسيط في النهاية لا يتبنى أهداف الضعفاء وإنما أهداف الأقوياءئ. هذا ما فعلته أمريكا مع الفلسطينيين الذين طلبوها وسيطا لحل الصراع وتجهيز حل للقضية الفلسطينية. الوسطاء لا يقدمون أنفسهم قرابين لمساعدة المساكين والضعفاء، وإنما يحرصون دائما على تحقيق مصالحهم. وإذا كان لمفاوض أن ينجح فإن عليه أن يبني أسباب قوته. وإذا كان لضعيف أن يفاوض وهو على وعي بضعفه فإنه لا يسعى إلى حل المشاكل وإنما إلى توريط شعبه بسوء صنيعه.
إيران تجاوزت الضعف
إيران لم تحقق مجرد نجاح في المفاوضات مع الغربيين فقط، وإنما صنعت لنفسها مكانة عالمية تجبر الدول العظمى على احترامها. لقد أيقنت إيران منذ البداية أن من لا يستطيع صناعة الحرب لا يستطيع صناعة السلام، فعملت بكل طاقاتها على بناء قواها في مختلف المجالات وكانت مفاوضا صلبا عنيدا وملتزما. ولهذا سيعمل الذين فاوضوها على حقوقها النووية على كسب ودها مستقبلا ولو على حساب الضعفاء في المنطقة العربية الإسلامية.
المستقبل
بعد هذه المفاوضات الشاقة التي جمعت أهل الغرب وإيران يتساءل كثيرون حول المستقبل وكيف ستؤول الأمور بالنسبة لأوضاع إيران الداخلية وعلاقاتها مع محيطها ومع العالم. هل ستبقى إيران كما هي مندفعة إلى الأمام في مختلف ميادين الحياة، أم سيصيبها الوهن والتكاسل؟ وهل ستبقى طهران على عهدها للقضية الفلسطينية والمقاومة العربية أم أن الظروف المستجدة ستطغى على المبدأ والموقف وتبدأ طهران بالتهاون والانسحاب التدريجي من تعهداتها الثورية تجاه فلسطين؟ وكيف ستتحول علاقات إيران مع محيطها العربي والإسلامي؟ هل سيقتنع العرب بالتعاون مع إيران أم سيرتفع درجة تحالفهم مع الصهاينة إلى حد الهجوم على إيران عسكريا؟ ما الذي يخبئه المستقبل؟
مكانة إيران
مكانة إيران على المستويين الإقليمي والعالمي ستتحسن بصورة كبيرة لأنها أثبتت حضورها القوي على طاولة المفاوضات، وصمدت بصورة أسطورية أمام أعتى القوى العالمية، واستطاعت أن تنتزع لنفسها حقوقا كان ينكرها الغرب بالأمس. إيران تنازلت بعض الشيء من حيث تخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم وفتح المنشآت النووية أمام مفتشين دوليين، لكن هذا التنازل كان يسيرا مقارنة بالمكاسب التي حققتها. المعنى أن أداء إيران التفاوضي وفرض نفسها ندا على طاولة المفاوضات لدول عظمى أكسبها هيبة واحتراما كبيرين، ولا يسع الأمم الأخرى إلا أن تتوقف منحنية أمام إيران التي أرغمت الغرب على ابتلاع وعيده وتهديده وقبول إيران عضوا في النادي النووي العالمي.
أولئك الذين يهابون إقامة علاقات طيبة مع إيران بسبب الضغوط الغربية سيجدون أنفسهم أحرارا الآن، ومن المتوقع أن يطوروا علاقاتهم مع طهران على مختلف المستويات، وهم لن يتوانوا في رفع مستوى التبادل التجاري والثقافي معها. فضلا عن أن إيران بالنسبة للعديد من دول العالم ستصبح مثالا يحتذى به، وستصبح عنوانا لكل الثوريين في العالم الذين يمقتون الرأسمالية ويحاولون إقامة مجتمع العدالة على المستوى العالمي.
شعوب الأرض تأخذ العبرة من طهران الآن ولسان حالها يقول إن الصبر والصمود يأتيان بنتائج إيجابية، ولا بد للأمم أن تقف ثابتة إن أرادت انتزاع حقوقها من مخالب المتوحشين. كما كان أبطال عالميون مثل غاندي وجيفاري وهوشي من وجميلة بوحيرد وعمر المختار بالنسبة لشعوب الأرض، إيران هي كذلك الآن بالنسبة لدول الأرض.
سيؤثر الإنجاز الإيراني كثيرا على الرأي العام العربي من حيث أن الكراهية التي تحاول أنظمة العرب زرعها بالنفوس ستخف حدتها، وهناك من سيعيد التفكير بلهاثه وراء فتنة السنة والشيعة. وهذه مسألة مرتبطة كثيرا بالإعلام الإيراني والقيادات السياسيية الإيرانية إذ من المطلوب تكثيف الجهود للقضاء على الفتنة والحرص على حقوق الشعوب التي يهدرها الحكام. الآن أمام إيران فرصة كبيرة لغسل كل التشوهات التي كونها العربي عن إيران نتيجة الإعلام العربي وأعمال الحكام العرب.
التطور التفاوضي يعزز ما كنت قد كتبته سابقا حول أن إيران هي التي ستقود العالم الإسلامي مستقبلا لأنها مؤهلة علميا وجيوسياسيا وقدرة عسكرية ومالا. القيادات لا تأتي من الجبناء أو المتخلفين وإنما تنبثق من الشجعان وأصحاب العقول العلمية.
العلاقات مع الغرب
تقديري أن الغرب بدأ يستوعب أن إيران دولة مسؤولة وصاحبة مبادئ، وهي ليست دولة راعية للإرهاب أو إرهابية. بل تبدّى أن أهل الغرب وأعوانهم العرب هم الذين يدعمون الإرهاب وهم الذين يهددون السلم العالمي. وبعد هذا الإنجاز الكبير لإيران ستنبري أقلام غربية كثيرة في الكتابة عن قدرات إيران التفاوضية والأسباب التي أدت بالغرب إلى شبه انهيار تفاوضي. وبما أن الشركات الغربية ستتحرك فورا نحو إيران للاستثمار فإن احتكاك الغربيين بإيران حكومة وشعبا سيتطور، وسيكتشف أهل الغرب أن إيران ليست شيطانا ولا هي الذي يحمل سلاحه على ظهره يطوف العالم مهددا ومتوعدا كما الولايات المتحدة. صورة إيران ستتغير في البلدان الغربية، وستسعى تلك البلدان على المستويين الشعبي والرسمي إلى تحسين علاقاتها مع طهران، ومن المتوقع أن يرتفع مستوى السياحة الغربية في إيران، وعليه فإنه من الضروري أن تطور إيران أوضاعها الثقافية والاجتماعية بطريقة تمكنها من استيعاب الأعداد المتزايدة من السواح.
الغرب سيعيد علاقاته مع طهران وفق المعايرر العالمية الاعتيادية. ستفتح السفارات الغربية أبوابها من جديد، وكذلك ستفعل طهران في أوروبا والولايات المتحدة، وسيشهد العالم تعاونا واسعا بين إيران ومختلف الدول الغربية، وذلك العداء المستحكم والتحريض على إيران سيختفيان إلى حد كبير، وستقتصر المعاداة السافرة لطهران على الفئات اليهودية والصهيونية الداعمة بقوة للكيان الصهيوني. الغرب سينفتح ثقافيا على إيران، وستكون له إطلالة جديدة على إسلام مختلف عن الإسلام الذي يظهر كثيرا على شاشات التلفاز وهو يحرق الناس أو يقطع رؤوسهم أو يسحلهم في الشوارع.
علاقات إيران مع دول أمريكا اللاتينية ستتطور بسرعة لأن حكومات هذه الدول تستطيع الآن مخاطبة شعوبها بشأن إيران بكل ثقة واعتزاز. الصديق الشجاع والذكي يسهل طريق أصدقائه، وسيتطور الرأي العام في هذه الدول بطريقة تعطي إيران الكثير من الاحترام والتبجيل والتقدير. إيران بالنسبة لدول أمريكا اللاتينية دولة ثورة تتصدى للظلم العالمي والشيطان الأكبر الولايات المتحدة، وبعد نتائج التفاوض، ستترتفع مكانة إيران بصورة صاروخية. وسنرى عددا من زعماء دول أمريكا اللاتينية يتوافدون إلى طهران لتميتين العلاقات معها.
العلاقات مع البلدان العربية
علاقات إيران جيدة مع بعض الدول العربية مثل عمان والجزائر وسوريا وبعض لبنان، لكنها سيئة للغاية مع السعودية والإمارات والبحرين. بعد هذه النتائج التفاوضية ستقتنع دول عربية أن أمريكا لن تحارب إيران بالنيابة عنها. وستقتنع أن مصلحة أمريكا تكمن في الحوار وعدم الانجرار إلى حروب عبثية غير مضمونة النتائج. فأمام دول عربية مثل السعودية أمران: إما أن تقوي تحالفها مع الكيان الصهيوني للقيام بمغامرة عسكرية مشتركة ضد المنشآت النووية الإيرانية، أو تخلد إلى العقل وتقرر ما قرره السيد الأمريكي وهو أن الصلح سيد الأحكام. السعودية وإسرائيل لا تستطيعان إخضاع إيران عسكريا حتى لو انضمت إليهما الإمارات وكردستان العراق. إيران تملك قدرات صاروخية هائلة، وهي قادرة على إفشال أي مغامرة عسكرية ضدها. ربما لن تكسب إيران الحرب لكنها لن تخسرها، والخاسر الأكبر سيكون العالم الغربي والسعودية وإسرائيل، وإذا ساد العقل فإن السعودية ستتوقف عن التنسيق مع إسرائيل وتعود إلى مكانها الاعتيادي في المحيط العربي الإسلامي.
إيران ليست معنية بتوتير الأوضاع مع العرب، وقادتها يدعون باستمرار إلى الحوار والتفاهم والعمل معا من أجل خير المنطقة، لكن يبدو أن السعودية تركب رأسها خشية قيادة إيران للمنطقة. بقاء العداء مع إيران لا يخدم أغراض السعودية في البقاء قيادة للعرب، بل ربما يؤثر على مكانتها سلبا وتضطر دول عربية إلى رفع مستوى علاقاتها مع طهران على حساب السعودية. علما أن إيران ليست في منافسة مع السعودية، وإنما السعودية تعيش حالة خوف غير مبرر من طهران. والعالم في النهاية مع الأقوياء. دول العرب ستنحاز للأقوياء متجاهلة الضعفاء. السعودية تملك الكثير من المال لكنها لا تملك من مقومات القيادة شيئا.
هناك من بين العرب من يحاول التقليل من الإنجاز الإيراني وذلك جريا وراء سياسات الإسقاط التي يتبعها العرب ضد إخوانهم الأقوياء أو ضد المبدعين والعباقرة من أبناء شعوبهم. هم يحاولون تتفيه الإنجاز الإيراني، ويصورون إيران بالدولة المستسلمة لأهل الغرب والمتخلية عن تطلعها نحو إنتاج القنبلة النووية. هذا هو شأن عرب في لبنان بخاصة قوى 14/آذار، وشأن بعض الكتاب السعوديين والإماراتييتن.
غاب عن هؤلاء العرب نقطة هامة وهي أن رفع العقوبات بالنسبة لإيران تحت الظروف الحالية أهم بكثير من تخصيب اليورانيوم بدرجة 20%. لدى إيران أولويات كما للغرب أولوية متمثلة بمنع إنتاج القنبلة النووية ولو مؤقتا. الطرفان نجحا في تحقيق ما تطلعا إليه، مع العلم أن الإنجاز الإيراني أوسع نطاقا وأبعد مدى من الإنجاز الغربي. الإنجاز الغربي استاتيكي يمكن أن ينهار بسهولة أما الإنجاز الإيراني فتركيبي وطويل الأمد وله عمق استراتيجي.
الوضع الداخلي الإيراني
بإمكان الشعب الإيراني والحكومة الإيرانية أن يتنفسوا الصعداء الآن بسبب رفع العقوبات الاقتصادية والمالية واسترجاع إيران لأرصدتها المجمدة في المؤسسات المالية الغربية. سيرتفع دخل إيران وسينعكس ذلك على مجمل معيشة المواطن الإيراني. لقد حرم الإيراني من الكثير من النعم والمواد الاستهلاكية على مدى سنوات طويلة، لكن بحبوحة العيش تنتظره الآن بسبب عشرات مليارات الدولارات التي ستدخل الخزينة الإيرانية سواء بسبب الإفراج عن الأموال المجمدة أو بسبب نشاطات التصدير للخارج. قيمة العملة الإيرانية سترتفع، وسيرتفع مقدار الاحتياطات النقدية الإيرانية بالعملات العالمية.
لقد كرست إيران الجزء الأكبر من ميزانيتها للاستثمار الداخلي لتحقق الاكتفاء الذاتي، ولتطوير العلوم والتقنية بخاصة فيما يتعلق بالأمور الدفاعية حتى لا تكون لقمة سهلة للأعداء، أما الآن وبعد كل هذا التطور الذي حققته في المجالات التقنية والعسكرية يصبح لدى إيران الإمكانية لرفع مستوى دخل المواطن، ورفع مستوى الاستهلاك لديه. وهذا يعني أن إيران سترسخ استقرارها السياسي واستقرارها الاقتصادي. ومن المتوقع أن ترتفع نسبة الطبقة المتوسطة في المجتمع الإيراني، ويتحسن مستوى التعليم والخدمات الاجتماعية والصحية. أي أن إيران ستدخل مرحلة انتعاش اقتصادي حرمتها منها العقوبات على مدة عدة عقود.
القضية الفلسطينية والمقاومة
هل ستجامل إيران الولايات المتحدة والدول العربية عموما فتخفف من حدة عدائها لإسرائيل ومن دعمها للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية؟ هناك من يقول إن إيران ستبيع القضية الفلسطينية للولايات المتحدة، ولن تعود إيران إلى سابق دعمها لحزب الله وحماس. تقديري أن هذا القول بعيد عن الحقيقة بسبب أن القضية الفلسطينية بالنسبة لإيران ليست مجرد قضية سياسية وإنما هي قضية عقائدية من صلب العقيدة الإسلامية، ومن يتخلى عن واجبه في تحرير المقدسات إنما يتخلى عن جزء هام من عقيدة المسلمين.
الولايات المتحدة لن تنهي عداءها لإيران بخاصة أن الكيان الصهيوني يدفع دائما إلى المزيد من العداء وتوتير الأجواء ومعه مختلف الجمعيات اليخودية والصهيونية في الولايات المتحدة.يتيتمر الولايات المتحدة في انتقاد إيران، لكنها لن تعود إلى سابق عهد القطيعة، وستخفف من غلواء هجومها الإعلامي والسياسي على طهران. ومن المتوقع أن يلاقي الاتفاق النووي ارتياحا في الأوساط الشعبية الأمريكية، الأمر الذي سيكون له صدى انتخابيا وانعكاسا سياسيا داخل الولايات المتحدة. لقد حقق الحزب الديمقراطي بهذا الاتفاق صورة حسنة حول جنوح الولايات المتحدة نحو الحوار بدل شن الحروب أو التهديد بشنها، فقد عاش الأمريكيون حالة من التوتر بسبب انشغال حكوماتهم المتعاقبة بالحروب وما ترتب على ذلك من تكاليف مالية وخسائر في النفوس. الأمريكيون ليسوا معنيين بالمزيد من التوترات، وهم ينشدون الهدوء والاسترخاء.
ستستمر الولايات المتحدة بانتقاد إيران بسبب مواقفها الداعمة للنظام السوري وللمقاومة الفلسطينية واللبنانية، وستصفها بالدولة الداعمة للإرهاب، لكن لن يكون بمقدورها وقف الدعم الإيراني للقوى الثورية في مواجهة الكيان الصهيوني. إيران فلتت من العقال وهي تعمل دائما على صياغة سياساتها الخارجية بدقة وحذر شديدين.
من المتوقع أن ترفع إيران من قيمة دعمها المالي للمقاومة الفلسطينية بخاصة حركة الجهاد الإسلامي، وربما توجه دعمها المالي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو أمر منوط أيضا بسياسة الجبهة الشعبية ومدى مشاركتها في المقاومة الفلسطينية. حركة حماس ستحصل على بعض المساعدات، لكن إيران أصبحت أكثر حذرا في التعامل مع حماس بسبب ما لمسته من تغليب الحزبية على البعد الوطني الفلسطيني بخاصة فيما يتعلق بالأوضاع السورية. تنافر الطرفان في الشأن السوري، وتأثر مستوى الدعم الذي تقدمه إيران لحماس. لكن الآن وبعد الاتفاق مع الدول الغربية من المتوقع أن يعلو صوت المؤيدين للاستمرار في التنسيق مع إيران على حساب الأصوات التي تؤيد تمتين العلاقات مع دول عربية بخاصة السعودية، وهي أصوات تحاول كسب ود السعودية عسى أن تقوم السعودية بالضغط على مصر لفتح معبر رفح والسماح بتجديد حفر الأنفاق.
ينتظر حزب الله الآن مزيدا من الدعم العسكري والمالي، وليس من المتوقع أن تساوم إيران على حزب الله إرضاء للدول الغربية. أما النظام السوري فسيستفيد جدا من تحسن الأوضاع المالية في إيران، وستتوفر له المزيد من الأموال والدعم العسكري. وهناك دول عربية وغير عربية ستستفيد من الوضع الإيراني المستجد بخاصة اليمن التي تنتظر خططا طموحة لتطوير مختلف المرافق المدنية والعسكرية، وذلك عقب انتهاء العدوان العربي عليها.
الكيان الصهيوني
كان يدفع الكيان الصهيوني بصورة حثيثة باتجاه الهجوم العسكري الأمريكي على إيران، وحاول مرارا الضغط على أمريكا بمختلف الوسائل والأساليب من أجل إقناعها بأنه لا حل مع إيران إلا بالعمل العسكري. واضح أن الإدارة الأمريكية لم تكن مقتنعة بالجدلية الصهيونبة وفضلت في النهاية طاولة الحوار. لماذا أراد الكيان الصهيوني من أمريكا خوض حرب غير مضمونة النتائج؟ للأسباب التالية:
1- أمريكا هي الدولة الوحيدة القادرة على حشد ال


...





1- أمريكا هي الدولة الوحيدة القادرة على حشد القوات المطلوبة لإلحاق الهزيمة بإيران وتدمير منشآتها العسكرية والنووية. أمريكا تستطيع حشد طائراتها وقواتها البحرية بأعداد كبيرة وبقدرة تدميرية هائلة، وستتمكن من إلحاق ضربات موجعة بطهران ليست بمقدور السعودية أو إسرائيل حتى لو اجتمعتا. وفي حال قيام أمريكا بضرب إيران فذلك سيوفر الكثير على إسرائيل على الرغم من أن سلاحها الجوي كان سيكون مشاركا في الحرب. كانت تدرك إسرائيل أن الرد الإيراني سيطالها وسيلحق بها دمار كبير، لكنها كانت ترى أن دمارا كبيرا أفضل بكثير من تهديد وجودها. فالمسألة بالنسبة للكيان الصهيوني هي مسألة وجود، ولن يكون بمقدور أحد المحافظة على وجوده إلا القوة العسكرية الأمريكية.
2- لم يؤمن الكيان الصهيوني يوما بأن العقوبات والحصار سيوقفان التطلع الإيراني نحو تطوير القدرات النووية. من المحتمل ألا يطور الجانب الإيراني القنبلة النووية، لكن مجرد امتلاكه للبنية التحتية لتصنيع القنابل النووية يكفي كتبرير لتدمير المنشآت النووية الإيرانية.
3- الكيان الصهيوني كان معنيا وما زال بتدمير مختلف المنشآت العسكرية الإيرانية وليس المنشآت النووية فقط. فهناك مصانع الصواريخ والدبابات والأقمار الصناعية والطائرات الحربية والسمتية، وهي جميعا تساهم في تضخم القوة العسكرية الإيرانية التي يمكن أن تهدد الكيان الصهيوني. ولهذا كان يأمل الكيان بأن تقوم أمريكا بضرب المنشآت العسكرية التي تنتج أسلحة تقليدية متطورة حتى لا تتمكن إيران من شن حرب برية عليها من خلال أصدقائها العرب.
4- الكيان الصهيوني لا يكتفي بتدمير المنشآت، لكنه كان يتطلع إلى استنزاف العقول الإيرانية وذلك بتسهيل هجرتها إلى الدول الغربية. إسرائيل تعتبر أن كل الحديث عن وقف النشاطات النووية الإيرانية لا قيمة له ما دامت العقول الإيرانية موجودة في إيران. فهي ترغب بهجرة العلماء وتقديم كل الإغراءات لهم من أجل أن يديروا ظهورهم لوطنهم. وقد ركز الكيان الصهيوني على اغتيال العلماء الإيرانيين وتم اغتيال خمسة منهم. طبعا من غير المعروف إذا كانت الولايات المتحدة متورطة في عمليات الاغتيال، لكن بالتأكيد أن الكيان الصهيوني ما زال يوظف العديد من عملائه لمتابعة نشاطات هؤلاء العلماء النوويين.
ماذا يمكن أن يعمل الكيان الصهيوني بعد الاتفاق النووي؟