النصر الرّمضاني



طاعةُ الله شرف ، والوقوفُ بين يدَيه نعمة منه ، واغتِنامُ مواسِم الخيرات منَّة من لدنه ، ومن لُطفِ الله ورحمته أن عوَّض بقِصَر الأعمار ما تُدرَكُ به أعمالُ المُعمَّرين مئات السّنين ، وذلك بمُضاعفَة الأجور؛ لشرف الزّمان ، وشرف المكان ، ومواسِم الطاعات .
وفي هذا السياق قد أظلّنا موسم عظيم ، وحلّ بين أظهرنا زائر كريم ، كلّما تفيّأنا ظلاله غشيتنا النفحات الرّبانيّة ، وحلّت علينا المكرمات الإلهيّة ، فيه تتوطّد العلاقات الأَخويّة ، وتتصافى وتصفو وتزكو النفوس الحرّة الأبيّة ، إنه شهر رمضان ، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن ، لذا كان الصيام من الأحكام البديعة النظام العالية المَرام ؛ فمن مرامي الصيام ومغازيه : أنّ صيام رمضان مقترنٌ برسالة الإسلام العظيمة : فلما كان الحقّ تبارك وتعالى يريد لهذه الأمّة أمّة محمّد أن تكون الوارثةَ للعقيدة ، المستخلفةَ في الأرض تحت راية العقيدة ، تقوم في الناس مقام القيادة والرّيادة ، وأن تكون دوماً في الطليعة ، فذا طريق مفروش بالعقبات والأشواك ، تتناثر على جانبيه الرّغائب والشهوات ، وتهتف بسالكيه آلاف المغريات ! وتعترض سبيله العراقيل والتحدّيات ، ولا بدّ لأمة الإسلام من تخطي ذلك كله ، ولا مناص لها من الإفلات من ذلك كله ، كي تبلّغ الأمّة رسالتها ، وتؤدّي دورها ، وترسّخ هيبتها ، وتكرّس عزتها ، وتنتصر لقضاياها ، ولا يكون ذلك إلا بتقوى الله تعالى ثمّ بإرادة عازمة جازمة ، فكان الصيام : فالصوم باعث على تقوى الله تعالى ، والصيام مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة ،كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها ، واحتمال ضغطها وثقلها ، إيثاراً لما عند الله تعالى !
ولمّـا كان الصيام يرمي إلى إعدادِ هذه الأمّة لدورها في الأرض ، فلن تتمكّن أمّة الإسلام من القيام بدورها في الأرض على أتمّ وجه وأكمله ما لم تسع الناس جميعاً ببرّها وإحسانها وحسن أخلاقها ( إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ )
أخرجه البزار في ( مسنده ) ( 17 / 99 / 9651 ) والحاكم في المستدرك وصحيح الترغيب للألباني الرقم: 2661
وعليه : ينبغي أن يكون الصوم مُغتسلاً للصائمين يطهّرهم من الأدران النفسيّة والآفات القلبيّة ، ذلك أنّ الله تعالى أقام بناء أمّة الإسلام على التوادّ والتراحم والتعاطف ، والبعد عن الحقد الكنود "مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" ( متفق عليه )
فإذا مسَّ طائفةً منها ضرٌ أو لحق بها أذى ،استنفرت الأمّة قواها لتطبيب المدنف المريض ، وبلسمة المجروح المكلوم ، وإغاثة الملهوف المكروب !
تلك هي أمّةُ الحقّ أو الأمّة الحق في سرّائها وضرّائها، أما الأحقاد والضغائن فأمراضٌ فتاكة ، إذا فشت في الأمة كانت نذير هلاكها ، ومنبع شقوتها وشقائها ، الأحقاد والضغائن هي السّلاح البتار الذي يضربُ بها الشيطان القلوب فيمزقها ، والجماعات فيفرقها ، لتتناثر الأمّة شيعاً وأحزاباً يذيق بعضها بأس بعض ، الأحقاد والضغائن هادمةُ الدنيا ، وحالقةُ الدّين" فإنَّ فساد ذات البَيْن هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين " ( الإمام احمد وأبو داود والترمذي وابن حبان ) وقال : "إنّ الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم" رواه مسلم في "صحيحه"
والضغائن والأحقاد بين أبناء الملّة الواحدة استنزاف إيمانيّ ؛ فإنّ الإيمان ليتسرّب من القلب الحقود الحسود كما يتسرب الماء من الإناء المثلوم!
وما ذاك إلا لأنّ الحقد والضغينة غليان شيطانيّ ، وهياجٌ إبليسيّ، من اختزن منها شيئاً أنبتت له نباتاً مُرّ المذاق ، نماؤه الغيظ ، وثمرته الندم
يودّ الحاقد لو أصبح خصومه مخذولين منكسرين ، ومن نعم الله عليهم مجرّدين ، ولو كانوا من أبناء ملته وبني جلدته
فالحقد داءٌ دفينٌ ليس يحمله.. ..إلا جهولٌ ملـيءُ النفس بالعلل
لذا سئل النبيّ أيُّ الناس أفضل؟ قال "كلُّ مخمُوم القلب ، صدُوقِ اللسان". قالوا: يا رسول الله! صدُوق اللسان نعرِفُه، فما مخمُوم القلب؟ قال: "هو التقِيُّ النقِيُّ، لا إثمَ فيه ولا بغيَ ، ولا غلَّ ولا حسَد"
رواه ابن ماجه ، والبيهقي في " شعب الإيمان " وصحّحه الألباني

وبعد : فشهرُ رمضان شهر التسامح والغفران والبرّ والإحسان ، شهرُ الأمجاد والانتِصارات ، شهرُ فخرِ الأمة وعزِّها ، في بُطولاتٍ سطّرها قادة أخيار : في غزوة بدر، وفتح مكة، ونخوة المُعتصِم ، ونصرة صلاح الدين، وحَميّة قطز ، وغَيْرة بيبرس ، في ذِكرياتٍ وأمجادٍ حقّ لنا أن نباهي بها ونفخر ، فلا أقلّ من أن نحرز في هذا الشهر النصر على أنفسنا بتحريرها من كل دخل ودخن ودغل وغلّ ...لتستقر على الحق دونما غبش ولا ضباب..
وعليه بان أنّ النصر في رمضان نوعان ؛ نصر نفسيّ ونصر ميدانيّ ، وأنّ النصر الأول مدخل إلى النصر الثاني وسبيل ، ألا فهل من مدّكر ؟!