لحظة ألـــــم

تحدى الموت تلك الليلة المرعبة, الليل حالك الظلام يتخلله سقوط زخات من المطر بين الفينة والأخرى مع هبات ريح قوية, عربدة الجنود وصخبهم هنا وهناك , منذ فجر أمس والقرية تحاصرها قوات الاحتلال , الجند منتشرون في كل مكان وعلى أسطح المنازل والمرتفعات ,الدوريات تجوب شوارع البلدة وكشافات تدور في كل الاتجاهات بحثا عن مطلوبين , طائرات الهيلوكبتر ما أن تختفي حتى تعود ,قنابل الإنارة تطلق في سماء القرية فتحيل الليل إلى نهار للحظات .
صراخ زوجته التي أوشكت على الولادة يقصف كيانه , طفله الذي يصارع بكل قوته للخروج من ظلمات ثلاث إلى ظلام الدنيا المضطرب , بناته الثلاث يرقدن كالملائكة في غرفة مجاورة, كان يدعو الله أن يرزقه طفل ذكر يحمل أسمه ويكون الجارح له عند كبره, طلقات الرصاص تسمع كل حين ترهيبا وجبنا, أقرب طبيب في أخر القرية من المستحيل الوصول إليه , المركز الطبي أكثر بعدا, القابلة غير القانونية بعيدة عن المنزل ووصولها بحاجة لمعجزة ربانية تساءل لما القدر يعانده حتى اختار هذا التوقيت السيئ؟
لعن الصهاينة الذين يعكرون صفو القرية دون سابق إنذار كل ما طاب لهم ذلك .
ـ حمدا لله أن للبيت باب خلفي على الحديقة, حمدا لله أن بيت القابلة بعيدا عن الشارع الرئيس ـ قال لزوجته كي تطمئن ـ الزوجة تتألم الطفل يأبى إلا الخروج, أطفأ النور أبقى على نواسه صغيرة . فتح الباب ببطء شديد, لبس عباءته البنية اللون, سمع صوت الدورية تتوقف أمام بيته ,الجند يصرخون ويعربدون .
ـ يا الهي ! لماذا الآن ؟
ـ متى سينصرفون ؟
دقات قلبه تزداد مع كل ثانية ينتظرها, كان يخشى أن يقتحم الجند منزله في غيابه فيسوء ألأمر أكثر, سيتهمونه بالإرهاب ودعم الفدائيين ـ الإرهابيين كما يزعمون ـ.
هو يعلم تماما أنهم يطلقون النار على كل متحرك, أعصابه مشدودة, صراخ زوجته يعذبه, سمع صوت السيارة يزداد قوة ـ لا بد أنهم سينصرفون الآن ـ لحظات قاتلة, قلبه يكاد يخرج من قفصه الصدري, تحركت السيارة إلى قلب البلدة, أخذ يزحف في الطين غير مبال, كلما سمع صوتا, أخلد إلى الأرض, كلما أنارت السماء بقنابلهم أخلد إلى الأرض يزحف ببطء شديد, ساعة تقريبا وهو يجاهد حتى وصل إلى بيت القابلة, دق الباب بلطف تجمد الأهل بالداخل, خشيت أن جند الاحتلال سيقتحمون المنزل غير مبالين كالعادة أسعفه لسانه فنطق .
ـ أنا عمران يا أم محمود .
ـ عمران !
ـ ما أتى بك الساعة؟
ـ زوجتي يا أم محمود, تتألم !
ـ الصباح رباح يا عمران, سيكون أمانا, ربما ذهب اليهود؟
ـ مستحيل, زوجتي على وشك الولادة .
ـ كيف سنذهب والجنود يطلقون النار حتى على الحيوان؟
ـ سنذهب من الخلف عبر البساتين, لا أحد يكشفنا .
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله , انتظر لأرتدي ملابسي .
ـ أرجوك يا أم محمود, علينا أن نزحف وإلا شاهدنا الجنود ـ نزحف, هل جننت يا رجل, الوحل يملأ كل مكان !
ـ هي الطريقة الوحيدة لنصل أحياء, هيا لا وقت نضيعه .
أخذت أم محمود الأرض, زحفت في الطين, المطر ينهمر بسخاء, طلقات تسمع كل حين, كثيرا ما يتوقفا حتى تذهب الإشارات الضوئية, أو يسمع صوت الرصاص, نال الشوك من أيديهما, تعثرا كثيرا في الحجارة, وقعا في الحفر المملؤة بالماء, أم محمود تكاد تبكي مما حل بها أخيرا وصلا الباب الخلفي, فتحه ببطء شديد, سمعا صوت طفل يبكي بمرارة, دخلت أم محمود, أغلق الباب, أنار الضوء, الدم يملأ المكان, الأم في عالم أخر, في عجل قطعت حبله السري وربطته, كانت الفتيات الثلاثة مرعوبات حد الموت وقد تجمدن حول الأم كأصنام .
ـ إنه ولد يا عمران ـ مبروك ـ!
حمله بين يديه بحنان ,ثم انفجر باكيا عندما أكدت أم محمود أن زوجته فارقت الحياة