من مصائب المكتبات عبر التاريخ
.......................................

مكتبة دير الربان هرمزد
تعرضت لعشرات المصائب طوال 1300 سنة
محمد عيد الخربوطلي
---------------------------------------

بجوار قرية ألقوش قريباً من الموصل جبل قام في صدره حصن منيع يطل على وادٍ تخمد عند صخوره جلبة البشر وأباطيل الدنيا، إنه دير قديم ينسب إلى الربّان هرمزد الفارسي الذي عاش في القرن السابع الميلادي، ويمتاز هذا الدير بأن كنيسته وغرفه العديدة ومائدة رهبانه منقورة كلها بالصخر.
ترجمة الربان .

كتب في حياته وسيرته وعنه الكثير، لكن بعض هذه الكتابات جاءت بالمبالغات الكثيرة والأساطير الباطلة، وخلاصة ما كتب عنه، أنه ولد في بيت لاباط من مقاطعة الأهواز في بلاد الفرس في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، دخل المدرسة في الثانية عشرة من عمره ودرس فيها ست سنوات، وبعد العشرين من عمره أحب الانقطاع عن العالم والابتعاد عن رذائله وسفاسفه، فترك والديه وقصد الأراضي المقدسة، لكن عندما وصل مدينة حالا دخل دير برعيتا وبقي فيه سبع سنوات، ثم اختلى بصومعة قريباً من مدة 39 عاماً، ثم اعتكف في دير بيث عابي ثلاثة أشهر، انتقل بعد ذلك إلى دير الرأس القريب من قرية تِني في العمادية من مرج الموصل، وبعد إقامته فيه سبع سنوات ولقلة الماء انطلق إلى جبل بيث عذري قريباً من ألقوش وأقام فيه، حيث أسس دير خاصاً به، ولاقى كل الإحسان من أهل القرى المحيطة به، وعندما أراد أن يبني كنيسة ساعده الناس، وممن ساعده أمير الموصل عتبة بن فرقد الذي عينه عمر بن الخطاب عام 30هـ/640م حاكماً على الموصل، فقد أرسل إليه لبناء الكنيسة ثلاث وزنات من الفضة، كما ساعده كثير من المسلمين الذين يعرفون له حق قدره، فأنجز البناء في عشرين شهراً فقط.
توفي الربان هرمزد عن سبع وثمانين سنة، قضى منها عشرين سنة قبل انخراطه في السلك الرهباني، وتسعاً وثلاثين سنة في دير برعيتا، وست سنوات في دير الرأس، واثنتين وعشرين سنة في ديره، فهو بحق يعد من الشخصيات البارزة ليس في تاريخ قديسي الكلدان فقط، بل في تاريخ الإنسانية.
مكتبة الدير ومصائبها:------------------------------------------
من حسن الحظ أن خزانة هذا الدير ما زالت حتى اليوم حافلة بكثير من المخطوطات الثمينة، بالرغم مما أصابها من نكبات ومحن خلال القرون العديدة.
ولا يعلم أحد متى كان البدء بجمع كتب هذه الخزانة، والظاهر أنها أخذت تنمو وتتسع قرناً بعد قرن، بهمة رهبانه العالمين الذين عنوا بالعلم والأدب والدين، فاجتمع فيها شيء كثير من المصنفات الموضوعة باللغة الآرامية، نُضدت هذه الخزانة في أول إنشائها في بيت من بيوت الدير المنقورة في الصخر، ولكن الأحداث المختلفة، لا سيما هجوم الكرد على الدير نحو ستة 1844م أدى إلى تلف عدد من كتبها، وقد أفلح الرهبان وقتها بإنقاذ نحو من خمسمئة مخطوطة وإخفائها عن عيون أولئك المهاجمين، إذ أودعوها قبواً قديماً في الدير، ولكن لسوء الحظ أن هطل مطر غزير مدرار، فجرت سيول المياه من أعالي الجبال واجتاحت في طريقها ذلك القبو واكتسحت المخطوطات التي كان يضمها.
ولقد كانت تلك الأسفار جليلة القدر، روى الرحالة الآثاري (ريج) في حديث رحلته (.. بعض المخطوطات التي فقدت لا شك أنها كانت تلقي ضوءاً على تاريخ هذه البقعة العجيبة، فقد كان في هذا الدير سابقاً نحو من خمسمئة مجلد مخطوط قديم على الرق، لكن تلك الكتب مزقت وشققت ورميت في الوادي، فتقاذفتها الريح وصارت تداعبها، وقد أراني الرهبان بعض تلك الأوراق المبعثرة، فإذا هي من أنفس الآثار العتيقة).

ويذكر طرازي (.. أن المكتبة في عهدها الأول كانت تحتوي على عدد كبير من المخطوطات التي لا تقدر بثمن لنفاستها، وقد كانت مكتنزة في غرفة صخرية لا تزال موجودة، ولكن الظروف القاسية التي انتابت هذا الدير وما أحاط به من نكبات وخاصة عندما هجم الأكراد عليه حوالي سنة 1844 فنكبوا الرهبان، وأعملوا على التدمير وأولعوا النيران في البناء وقتلوا كل من عثروا عليه)، ثم يذكر قصة الـ 500 مخطوط المخبأة في القبو وما أصابها من ماء المطر وهلاكها، وقال... وهناك عدد عظيم من المخطوطات كان قد أتلفه الأكراد فقطعوها إرباً على مرأى من الرهبان، ورموا بأجزائها في تلك الوهاد التي لا قعر لها ولا حد، فساقها تيار الوادي الذي كان يسيل بجانب الدير.
إن حادثة الأكراد لا ينكرها إلا كل جاحد، فقد توسع المؤرخون في ذكرها، وخلاصتها خروج إسماعيل باشا بجنوده الأكراد من بغداد لمحاصرة العمادية عام 1844، وفي طريقه صعد بجنوده إلى الدير، فسبى أمواله وسجن رهبانه ونكل بهم أشد التنكيل، وعذبهم فكوى رقابهم بالحديد المحمى، وفرقوا جميع المخطوطات التي عثروا عليها بهمجية طائشة، ودمروا محاريب الكنيسة، واقترفوا مختلف الأعمال الشائنة داخل الكنيسة، وحاولوا أن يحرقوا الكنيسة بكاملها.. لكنهم لم يفلحوا...!.
مصيبة طهماسب:-----------------------------------------------
ومن المصائب التي أصابت الدير بما فيه خزانة كتبه، تلك المصيبة التي حلت به بقدوم نادر شاه (طهماسب) حيث كان قدومه ثالثة الأثافي، إذ أنه محق الدير وغيره من الأديرة عن آخرها تقريباً، وشتت أصحابها، فقد هاجم الموصل مرتين في عام 1732 و1743، وجاء من جزيرة ابن عمر فأعمل السيف برقاب المسيحيين، واجتاح نساءهم وأطفالهم، ودمر المدن والقرى، حتى قال أحدهم.. أصبحت آشور كلها صحراء بسببه، حيث عششت فيها البومة، ثم أحرق الأديرة وحزَّ رقاب الرهبان، واستحوذ على جميع ممتلكاتهم، فلم يبق من الأديرة التي بلغ عددها 300 ديراً إلا بضع الأديرة في جوار الموصل، ودير الرهبان هرمزد الذي لم يمح نهائياً، لكن فرغ من الرهبان ومن العبادة والعلم.
ومن مصائب هذا الدير ما حلَّ به زمن الأب جبرائيل دنبو في بداية القرن التاسع عشر، عندما سعى مبغضون لإبعاده عنه، فهجم المسلحون على الدير وأعملوا في خرابه وكسروا ذراع الأب جبرائيل، فتشتتت الرهبان، وفي عام 1832 هرب الأب جبرائيل من الدير خوفاً من الأمير محمد باشا أمير راوندوز الذي هجم على الموصل وأطرافها وقتل كثيراً من اليزيدية والمسحيين، ثم هاجم ألقوش بجيش كبير

ومن مصائب هذه الخزانة أن بعض مخطوطاتها قد احترقت، وما بقي منها نقل بانتقال الرهبنة إلى دير السيدة سنة 1869م، ومن ثم صار يطلق عليها اسم (مكتبة دير السيدة).
وقد ذكر (فلايتشر) في كتاب رحلته سنة 1842م شيئاً عن المكتبة التي كانت بهذا الدير قبل نقلها إلى دير السيدة فقال: (....وفي الصباح زرت المكتبة التي كانت أيضاً مغارة (صومعة) وكان قد انتشر على أرضيتها أوراق المخطوطات الممزقة والأغلفة النصف محترقة، تلك التي تحملت بعض التحمل تدمير المخربين، وقد كان الرهبان مكبين على استنساخ شيء من تلك القطع التي لا تزال قراءتها ممكنة، وذلك على ورق مشابه للرق في مظهره، أما الحبر الذي يستعملونه فيمتاز بلونه اللماع الجميل، وهم يكتبون بأقلام القصب، ويضعون الورق على ركبتهم).
ومع كل ما حل بالدير وخزانة كتبه، بقي الدير يغالب الدهر وظروفه، مع العلم أن معظم الأديرة اندثرت.
وضع المكتبة 1940م: -------------------------
يقول كوركيس عواد (.. وتضم الخزانة في يومنا هذا في دير السيدة عدداً صالحاً من الكتب، لا سيما المخطوطات الآرامية النفيسة، وأكثرها في الدين والأدب والتاريخ والفلسفة والشعر وغير ذلك. وهي مخزونة في ثلاث غرف صغيرة بالطابق الأرضي، الواحدة بجانب باب الكنيسة والاثنتان الأخيرتان بصدر الدير)، ويقول طرازي في موسوعته... (وتضم هذه الغرف عدداً كبيراً من الكتب، كما أن فيها الشيء النفيس من المخطوطات، على أن بينها عدداً وافراً من الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية والدواوين الشعرية التي صدرت منذ مئات السنين حتى اليوم، وقدر عدد المخطوطات بـ 350 مخطوطاً، ولكن النساخ ينسخون الكتب التي لا وجود لها والتي فقدت في نكباتها ليتسع عددها وليسهل على الرهبان دراستها بوجودها).
فهارس المكتبة: ------------------------------------
لهذه المكتبة فهرسان مطبوعان لغاية عام 1940، وهما:
1ـ فهرس وضعه بالفرنسية العلامة العراقي المطران (آدي شير1867 ـ 1915) وصف فيه 153 مخطوطة، وطبعه ونشره بباريس في المجلة الآسيوية الفرنسية.

وقد قضى المطران آدي شير بضعة أسابيع من صيف عام 1902 في دير السيدة، وتمكن خلالها من أن يأخذ نقاطاً وملاحظات مهمة أفادته في فهرسه المذكور، والمخطوطات التي فهرسها تعد من أثمن المخطوطات الآرامية المحفوظة في هذه المكتبة، وهذه المخطوطات، 19 كتب مقدسة، 15 شروح وتفاسير للكتب المقدسة. 21 كتب فلسفة ولاهوت، 37 كتب طقوسية، 15 كتب في الحق القانوني، 19 في سير القديسين، 17 كتب في النسك والزهد، 12 كتب صرف ونحو وأبحاث لغوية، 11 كتب متفرقة.
2ـ فهرس وضعه المستشرق الفرنسي الأب (فوستي) عام 1926، بعدما أقام بالمكتبة أربعة أشهر أتقن خلالها اللغة الكلدانية، ووضع فهرساً يشتمل على وصف 330 مخطوطة قديمة، وقد صنفها حسب المواضيع فجاءت على الشكل التالي، 31 مخطوط كتب مقدسة، 20 شروح وتفاسير للكتب المقدسة، 40 فلسفة ولاهوت، 79 أبحاث طقسية، 11 في الحق القانوني، 46 في التاريخ العام وسير القديسين، 58 في أعمال النسك والزهد، 45 في الصرف والنحو واللغة ودواوين الشعر، 11 كتب متفرقة.
ويذكر عواد أن مخطوطات الدير في عام 1934 تبلغ 351 مخطوطاً، بزيادة 20 مخطوطة عما كانت عليه أيام وضع فوستي فهرساً لها، ثم جاء الأنبا شموئيل جميل فجمع كل المخطوطات السريانية والكلدانية وجعلها في مكتبة خصوصية، وجعل الكتب المطبوعة في مكان خاص فيها، وبعد استقرار أمور الدير وتخلصه من المناوشات والاضطهادات الكثيرة ازداد عدد المخطوطات، فهناك عدد من النساخ ينسخون للدير الكتب التي لا وجود لها في هذه المكتبة، فيتسع بذلك عددها.
نشر مخطوطات الدير وترجمتها: ------------------------
نشر جانب مهم من مخطوطات هذا الدير، وأعظم من قام بأعمال النشر أو الترجمة لها هم (بيجان وبدج وشايو ودوفال ومنكنا وملوس وفونسي وغيرهم..)، ومما نشر:
1ـ نشر الأب بولس بيجان:
ـ أشعار ما ر أفرام عن يوسف، في عام 1891.
ـ كتاب الرؤساء لتوما المرجي، طبعه في عام 1904.
ـ كتاب العفة تأليف ايشو عدناح مطران البصرة، 1901.
2ـ نشر المستشرق الفرنسي شايو عدة مخطوطات منها:
ـ المجاميع النسطورية، في باريس 1902
ـ تاريخ يوسف بو سنايا، مع ترجمة للفرنسية، نشره في مجلة الشرق المسيحي في باريس 1897 ـ 1899.
ـ العفة، طبعه وترجمه في روما، 1896.
3ـ نشر المستشرق الإنكليزي بدج:
ـ تاريخ الإسكندر الكبير، في كمبردج، 1889.
ـ الرؤساء لتوما المرجي، 1893.
ـ قصيدة سرجيوس في الربان هرمزد، 1894.
كما طبع منكنا كتاب سيامر نري 1906 في الموصل، وطبع هاريس قصة أحيقار عام 1898، أما المطران إيليا ملوس فقد طبع عدة قصائد كلدانية في عام 1868م.

أقدم مخطوطات الدير:
في الدير مخطوطات قديمة بالكلدانية والاسطرنجيلية والسريانية والكرشونية، غير التي غرقت وأحرقت ونهبت، وغير المخطوطات التي أبادتها الجيوش والعصابات، ومنها:
ـ إنجيل آرامي مكتوب على الرق، يرقى تاريخه إلى القرن العاشر للميلاد.
ـ إنجيل آرامي آخر على الرق، كتب لخزانة دير الربان هرفرد عام 1200م.
ـ كتاب المحاورات بالآرامية ليعقوب البرطلي المتوفى سنة 1241، نسخ عام 1255.
ـ مقالة في السكوت لداد يشوع القطري، نسخت 1289م.
وفي خزانة المتحف البريطاني مخطوطة آرامية كتبت على الرق في دير الربان هرمزد سنة 1074م.

هذا وكان في خزانة أبرشية الكلدان في أسعرد نسخة من الإنجيل بالآرامية، نسخت في دير الربان هرمزد سنة 1222م.
ومن مخطوطات الدير القديمة والمحفوظة في خزانته اليوم، الأناجيل الأربعة، حسب ترجمة توما الحرقلي، وهي مكتوبة على الرق بالخط الأسطرنجيلي، تعود للقرن العاشر الميلادي، ونسخة من العهد الجديد على الرق بالأسطرنجيلية، نسخت عام 596هـ، 1200م والسفينة الروحية لمسعود بن طور عبدين، نسخت عام 1481م، وغير ذلك من المؤلفات النادرة الوجود في أماكن أخرى.
هذه قصة مكتبة قديمة من مكتبات الشرق ضربت جذورها في عمق التاريخ، ومن الخير أن ننشر قصتها ونذيع خبرها، ليعلم جيلنا ما صنعه الأقدمون في بناء المكتبات التي ساهمت كثيراً في بناء الحضارة الإنسانية.
-----------------------------------------------------------------------------

الهوامش:------------------------------------
1ـ الاسطرنجيلية: هي الصورة الأولية للأبجدية الآرامية، ومنها تفرعت الكتابة الكلدانية والسريانية على نحو ما نراها مستعملتين اليوم، كما ذكر جرجي زيدان في الفلسفة اللغوية 1904.
2ـ الكرشونية: هي اللغة العربية إذا ما كتبت بأحرف آرامية، وقد نشأت ما بين متكلمي اللغة الآرامية الذين يسمعون ويتكلمون العربية دون أن يعرفوا الكتابة بحروفها.
------------------------------------------------------------------------------
المصادر: --------------------

1ـ أثر قديم في العراق ـ دير الربان هرمزد ـ كوركيس حنا عواد ـ العراق 1934.
2ـ خزائن الكتب العربية في الخافقين ـ فيليب دي طرازي ـ بيروت 1948.
3ـ خزائن الكتب القديمة في العراق ـ كوركيس حنا عواد ـ بغداد 1948.
4ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير.
5ـ معجم البلدان لياقوت الحموي.

--------------------------------------------------------------------
نشرت بمجلة شرفات الشام -وزارة الثقافة -دمشق.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي