هموم شنقيطية : جناية لا سابقة
كنت قد كسرت محبرتي وسكبت الحبر وعقدت العزم على الامتناع عن الكتابة ، وسطرت ما أسميته ( استقالة ) ، والتي جاءت في 33 ورقة ، وبصمت عليها بتاريخ 10/5/1421هـ وكانت البصمة تعبيرا عن انكسار القلم .
ثم ألح علي داء الكتابة ، فكتبت ( حتى لو دخلوا جحر ضب ) والذي جاء في 41 ورقة ، وظننت حينها أني قد ارتحت من الكتابة فإذا ببعض الأفكار المتعلقة بقضايا مجتمعنا الصغير ( الشنقيطي ) تطاردني ، حتى أرهقتني فقررت التخلص منها بسكبها على الورق .
الإشكال الأول الذي واجهني هو حساسية بعض المواضيع وتفسيرها على غير ما أردت – أرجو ألا يكون ذلك دليل عجزي عن توصيل الأفكار التي أود طرحها – نقطة أخرى لا أدري إن كانت طبيعتي الانعزالية – إضافة إلى الإصابة بحساسية الأنف – قد لعبت دورا فيها أم لا ، وهي أني لا أعرف من هم المثقفون عندنا – الشناقطة – وتوجهاتهم ، ومجال اهتمام كل منهم بعيدا عن التخصص ، فأنا بالكاد أعرف أن فلانا يحب الشعر أو له اهتمامات أدبية ... وهذا ناتج عن انعدام ( رابطة ) تجمع المثقفين والمهتمين بالثقافة وترعى المواهب التي قد تذبل بسبب عدم الاهتمام والرعاية ..........
هذه مجرد خطوة من غير المتخصصين ، فلعلها تفتح الباب نحو إجراء دراسات موسعة على مجتمعنا ، لا أخفي هنا أني تحرجت من الإشارة إلى خشيتي من دخول مجتمعنا نفق ( الذواقين والذواقات ) ، كما اكتفيت بـ (أقصوصة ) عن ظاهرة أرى أنها تستحق الدراسة أعني ( الغيظ ) ... أو ذهاب المرأة إلى أهلها عند نشوب خلاف بينها وبين زوجها ، وهذا الفعل يمثل الخطوة الأولى نحو تفاقم المشكلة ، حين تتحول من مشكلة خاصة إلى مشكلة عامة يناقشها الجميع ، ولذلك عندما تنتهي لا بد من تقديم (الترضية) وإقامة وليمة وليس المهم إن كانت صغيرة أم كبيرة ، بل المهم هو إقامتها ، لأن المشكلة بين الزوجين أصبحت عامة فلا بد من إشراك الجميع عند انتهائها .
وإن كنت أتساءل إن كانت تلك الإجراءات بمثابة ( التعويض ) للمرأة عن (الخير ) الذي كان سيصيبها جراء الطلاق ؟!!
عموما هذه بعض الآراء سكبتها هنا بعد أن أطلت التفكير فيها ، وهي كغيرها من أفكار البشر قابلة للأخذ والرد ، فلا يخلو فكر بشري من الأخطاء ...
وهذه الأسطر إن كان خطؤها أقل من صوابها فهذا يكفيني ، احتفظوا بالصواب وردوا علي خطئي.
تلويحة الوداع : جاء في كتاب ( قصة الحضارة ) لـ ( ديو رانت ) :
(( شكا عالم في عهد سنو سريت الأول أي حوالي 2150 ق . م من أن كل ما يمكن أن يقال قد قيل من عهد بعيد (..) وقال في أسى وحزن : ألا ليتني أجد ألفاظا لم يعرفها الناس ، وعبارات وأقوال بليغة جديدة لم ينقضي عهدها وليس فيما تلوكه الألسن أقوال تافهة مملة ولم يقلها آباءنا من قبل )) ص117// ج2 // مجلد 1

بسم الله ..... الحمد لله .... والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ....
لا ينتهي الكلام عن المرأة ، لكن الكلام عن المرأة الشنقيطية له طعم آخر ، فقد حصلت على مكانة لم تحصل عليها المرأة في المجتمعات الأخرى ، وحظيت بتعامل تُحسد عليه، كل ذلك قبل أن تثار قضية المرأة في الغرب و الشرق .
يقول الشيخ محمد الإمام عن المرأة الموريتانية (( النساء عند عامة أهل القطر ، كأنهن لم يخلقن إلى للتبجيل والإكرام والتودد لهن ، فلا تكليف عليهن ولا تعنيف .
فالمرأة هي سيدة جميع ما يتعلق بالبيت من متاع وماشية والرجل بمثابة الضيف فلها أن تفعل ما شاءت من غير اعتراض عليها ولا مراقبة .
وليس من العادة أن تفعل شيئا من الخدمة بيدها إلا أن تكون في بيت فقير فتفعل من ذلك ما لا يناسب الرجل مباشرته . (..) وتمتاز نساء الزوايا بالقراءة فيشاركن الرجال في جميع الفنون مع الصيانة وعدم التبذل ، وإن نزل بهن الأضياف فلهن أن يفعلن ما يفعل الرجل من إكرام الضيف لو كان حاضراً ويقبح عندهن الاعتذار بعدم حضور الرجل .
والأغلب فيهن عدم الاحتجاب مع العفة في بعضهن أنفة منهن وعزوفا عن الفاحشة وقد يحتجب بعض نساء الزوايا ويتوارث ذلك الحجاب بعض البيوت من أهل الشرق.)){ص 179 - 180المختار بن حامد / حياة موريتانيا .. الجزء الثاني الحياة الثقافية / الدار العربية للكتاب / ليبيا / 1990م }
بل وصل بها الحال إلى إفساد بعض الصفقات التجارية عند تبادل الصمغ مع الفرنسيين،يذكر الرحالة كايي :
(( أنه كان شاهد عيان عندما تم توقيف عمليات التبادل يوما في المحطة لأن خالة الأمير فاطمة بنت المختار اشتكت إليه من أحد التجار {الفرنسيين} كان قد قدم إليها قهوة ارتأت أنها غير لذيذة )) ص 346
{ص 346 محمدو بن محمدن / المجتمع البيضاني في القرن التاسع عشر / منشورات معهد الدراسات الأفريقية / الرباط / 3001م}
وعندما زار الصحفي السعودي بدر الغانمي موريتانيا أعد تحقيقا نُشر في حلقات تحت عنوان (عين على أرض المرابطين ) لفتت نظره المكانة المميزة للمرأة هناك فكتب (( لا يمكن أن نجد في أي بلد عربي دورا للمرأة كما هو في موريتانيا )) { ج .عكاظ العدد 13485 في 29/5/1424هـ }
ويقول في مكان آخر : (( انفتاح العلاقة بين الرجل والمرأة لا يمكن أ يفهمه أي قادم إلى هذه البلاد لأول وهلة ... فالقيادة الحقيقية بيد النساء (..) لا تتعجب إن دعتك سيدة إلى العشاء ولا تذهب بظنونك في كل اتجاه فالدعوة هنا تقدير يقوم به أفراد الأسرة (..) ويعتبر ركوب الفتاة مع رجل وإيصالها إلى مصلحة أو مكان أمرا عاديا بل وينظر الموريتانيون إلى العلاقة بين الرجل والمرأة على أنها مفهوم حب تعريضي أكثر من كونه حقيقيا وقد يكون هذا أحد بوابات انتشار مرض ( السيدا ) بل وامتدت الآثار إلى درجة أن المجتمع الموريتاني يعيش نسبة عنوسة بدرجة مخيفة جدا )) {ج .عكاظ 13482 26 / 5 / 1424 هـ}
يعجز القلم عن الإحاطة بتميز المرأة الشنقيطية ، ولعل من أبرز إنجازاتها ، أنها حملت لواء رفض تعدد الزوجات ، وبما أن المجتمع الموريتاني مجتمع عرف بتدينه فقد لجأ إلى قاعدة ( المؤمنون عند شروطهم)
ومن هنا تميز عقد النكاح عندنا بالشرط الشهير ( لا سابقة ولا لاحقة ) .... (( ويكون الزواج ــ غالبا ــ على الشرط بأن لا سابقة ولا لاحقة وإلا فأمرها بيدها أو بيد وليها وقد لا يلفظ بالشرط ويطبق عمليا .
وقد تتعدد الزوجات عند بعض ذوي الجاه و المال )) { المختار بن حامد / حياة موريتانيا / ذكرسابقا }
ومن يطيق رد أصحاب الجاه والمال ؟؟؟! وكان بعض (شيوخ) القبائل يمارسون التعدد من أجل التحالفات أو ضمان الولاء ــ كما يحصل على مدار التاريخ ــ كما فعل الأمير محمد الحبيب : (( حيث تزوج امبيريكة بنت عمير سعيا إلى رأب الصدع الناجم عن اغتيال أخيها محمد فال بن عمير (..) ومد محمد الحبيب كذلك جسرا لإعادة الاتصال مع قبيلة أولاد دامان فتزوج فاطمة بنت محمد بن سيدي أحمد زعيم تلك القبيلة (..) وفي نطاق زواجات محمد الحبيب تلك وسعيا إلى ضم مملكة والو الزنجية ضما ( شرعيا ) تزوج هذا الأمير جنبت ولية عرش والو رغم تدخل الفرنسيين وبذلهم قصارى الجهد لمنع هذا الزواج ص265 (..) وكان لزواجات أحمد بن عيدة المتعددة دور مهم في هذا المجال إذ خلف ابنين من مباركة بنت اسويد أحمد أخت أمير ادوعيش بكار بن سويد أحمد وابنين من اعويسية وابنين أم كل منهما من اديشلي.)) {ص 269- 270محمد بن محمدن / المجتمع البيضاني / ذكر سابقا}
لا شك أن شرط ( لا سابقة ... ) لا يوضع للحد من تعدد الزوجات ، ولكنه وُضع لإلغائه ، ولا شك أن الإسلام عندما ( أباح ) التعدد فإنه لم يبحه من أجل أن يذل المرأة أو ( يُرققها ) ، ولكنه حل رباني لبعض المشاكل التي قد تعترض سبيل الأسرة المسلمة ، ولكن الإفراط والتفريط انحرفا بالتعدد عن مساره ، فبعض المجتمعات أفرطت في التعدد فجعلته غاية في حد ذاته ، فالحديث كله عنه ، والأماني كلها تنصب على الحصول على زوجة ثانية ، حتى لو كانت زوجة واحدة ... كثيرة على المتمني ... وتحول الموضوع إلى هوس .
أما مجتمعنا فقد أخذ الاتجاه المعاكس ، ( فحظر) التعدد وان بطريقة قانونية ، ولم يكتف بذلك ، بل صحب الشرط ( الشهير ) حملة دعائية ، تصور التعدد ، إهانة لكرامة المرأة ، أو ( ترقيقا لها ) .. حسب العبارة الدارجة ، ولم يسأل أحد نفسه إن كان ذلك يعني أن أمهات المؤمنين والصحابيات كن ( مرققات ) ؟؟!؟.
وهنا تبرز إحدى عجائب المجتمعات البشرية ، فحين يعجب المجتمع بشيء ، فإنه يضع له ألف مبرر ، وإذا كره شيئا صاغ له آلاف العيوب ! .
عندما صور مجتمعنا تعدد الزوجات على أنه ( ترقيق ) للمرأة ،فقد سعى من خلال ذلك إلى جعل الدم يغلي في العروق حمية ، ولا يقبل أي رجل أن ( ترقق ) قريبته .
المفارقة أن نفس الرجل قد يعقد لقريبته على 4 أو 6 رجال دون أن تتحرك قطرة واحدة من الدم في عروقه ... هذا حلال وهذا حلال ... ولكنها ( الثقافة ) تتلاعب بنا فتحبب إلينا ما تشاء ... وتبغضنا في ما تشاء !!!!
كما أن المجتمع الشنقيطي حمل الموضوع أكثر مما يحتمل ، وإلا فما هي نسبة الذين يستطيعون تطبيق التعدد لو تركت الأمور على طبيعتها ؟؟ ، يقينا أنها نسبة ضئيلة جدا ، يقول بدر الغانمي :
(( تصل نسبة العرب البيض ممن لهم زوجتين 4% )) {ج. عكاظ العدد 13485 في 29 / 5 / 1424 هـ}
لا أعتقد أن نسبة المعددين بإمكانها أن تتجاوز هذه النسبة كثيرا حتى لو انعدم شرط ( لا سابقة ...)
إذا أين المشكلة ؟؟
تكمن المشكلة في أن تبعات هذا الشرط أثرت تأثيرا سلبيا على المجتمع ، وألغت ... أو كادت تلغي ما يمكن أن نسميه .. الاستقرار الأسري ، وذلك بخلق بعض الظواهر :
حمى الطلاق .. قلنا من قبل أن مجتمعنا مجتمع متدين بطبيعته وبالتالي فهو يعرف أن الطلاق هو أبغض الحلال عند الله ، ولكن هذا الشرط حل ( الطلاق ) من عقاله ، حتى أصبح سمة من سمات مجتمعنا ، فالطلاق الذي هو وصمة عار على جبين المطلقة في معظم مجتمعات الدنيا ، وهو عكس ذلك في مجتمعنا : (( أكدت موريتانيات كبيرات في السن أن زواج المطلقات لا يتعارض مع العادات الاجتماعية التي كانت سائدة قبل دخول المستعمر الفرنسي بداية القرن العشرين حيث كان الموريتانيون يقمن ( هكذا ) بعض الاحتفالات بالطلاق )) {ج. الرياض العدد 12425 في 20 / 4 / 1423 هـ}
وكأن الغانمي يرقص طربا لهذا المجتمع المختلف عن بقية المجتمعات وهو يقول :
(( الطلاق في موريتانيا ليس عيبا ينال المرأة قط .. وما يحدث من انكسار للأم والأولاد في كل البلدان له وضع مختلف لا تشعر به المطلقة في موريتانيا حيث يتكاتف معها أهلها ويفتحون أمامها أبواب العيش والرزق ويغلقون أبواب التشاؤم والخوف 37% نسبة الطلاق بين النساء الموريتانيات وفق آخر إحصاءات أعدتها وزارة شئون المرأة )) تقول مريم بنت الناجم رئيسة جمعية المطلقات :
(( مما يسعد النفس في المجتمع الموريتاني أن كثيرا من الرجال يقبلون على الزواج من نساء مطلقات أكثر من زواجهن ( هكذا ) عازبات لإدراكهن ( هكذا ) أيضا أن أسباب الطلاق في بلادنا تافهة وهذا جانب إيجابي يجب الإشارة إليه عكس ما يحدث لدى الرجل الشرقي .)) { ج .عكاظ العدد 13485 في 29 / 5 / 1424 هـ }.
الحقيقة أن الطلاق في مجتمعنا لا يقع لأسباب تافهة فقط ، بل يقع دون أسباب أحيانا .. مثل ذلك الذي قالت له زوجته أنها ترغب في شراء ( شراشف ) بدلا من القديمة التي لها أكثر من عام ، فقال لها : لي معك أكثر من عام ؟ ... اذهبي إلى أهلك !! ، لتكن هذه الحكاية مجرد طرفة أو كاريكاتير ــ وهي ليست كذلك ــ فإنها معبرة جدا .
المؤسف أنه ليس لدينا أرقام نستطيع الاستناد عليها ، ولكن لينظر كل منا عن يمينه وشماله ... أو في أي اتجاه شاء .. فسوف يرى قطعا حجم الكارثة ... فتيات بالكاد وصلن إلى سن الزواج ، نجد الواحدة منهن لديها أطفال من زوجين ... ولم تنجب من الثالث ... وهي مطلقة أيضا !!!!
يظهر أن عملية تكرار الطلاق هذه جعلت للمرأة الشنقيطية ( سيكولوجية ) تختلف عن بقية نساء العالم .
تقول الدكتورة فوزية الدريع : (( غالبا الرجال أكثر من النساء تكيفا مع الطلاق الرجال أقل ضررا، أقل ألما ، أقل خسارة هذه حسبة منطقية كلنا ندركها .
دعك من حكاية " وصمة الطلاق " على المرأة ومعاناتها وخسارتها المادية والمعنوية ، هناك الخسارة الأعظم التي تحصل عند المرأة المطلقة ، خسارة صحتها ، هناك نساء هن طلبن الطلاق ، ولكنهن مرضن بعد حدوثه .
هناك نساء كان عليهن ضرر نفسي وربما بدني ومادي من بقائهن في الزواج ولكنهن تعبن ومرضن أكثر بعد الطلاق ، فلماذا تمرض المرأة حين يتركها رجل ، سواء كانت تحبه أم لا تحيه ، تريده أم لا تريده ، متضررة من بقائها معه أم غير متضررة ؟!
هناك في العلاقة بين الرجل والمرأة تفاعل كيميائي ، دراسات عديدة تجريبية وجدت بالفحص الطبي أن المناعة في جسم المرأة والرجل تتأثر بنوع العلاقة التي يعيشانها من تفاهم أو شجار .
ولكن وجد أيضا أن درجة تأثر المرأة أكثر بكثير من درجة تأثر الرجل . (..) الحاصل من وجهة نظري أن المرأة بعد أن تنفصل عن الرجل يبقى هذا الرجل بداخلها .
المرأة بفطرة تركيبتها تملك خيالا ، وخيالها درامي عاطفي سريع اجتراري ، كثيرات يتصرفن في حياتهن وكأنهن مازلن على ذمة ذلك الرجل ، (..) البعض الآخر من النساء تدرك جيدا أنها مطلقة ، هو ذهب من حياتها ولكنها مازالت غاضبة منه ، تجتر الأيام المرة ، تتحدث عنه بغضب ، تعيد وتزيد تجربتها المرة ، إذا هي تعيش مع شبحه ، وهنا نقول أنه وجد علميا أنك حين تفكر في إنسان وبشكل قوي فإن ذاكرتك وخيالك يستحضران كيميائية بدنه حين كان معك يتفاعل جسمك بتعب ومرض كما لو كنت معه ، بل أكثر ، لماذا ؟ لأن في حالة التواجد الفعلي هناك انفعالات لفظية واللفظ والتلافظ فيهما مجهود مشترك فعلي بين الرجل والمرأة .
ولكن حين يكون التصارع مجرد أفكار فالمرأة تؤدي الدورين معا وخيالها يرهق بدنها ، بالضبط مثل الممثل الذي يقرأ دورين في وقت واحد لفيلم واحد . )) { مجلة فواصل العدد 95 / ابريل / 2002 م }
أجزم أن كل ما سبق لا ينطبق على المرأة الشنقيطية ، فهي الوحيدة ــ حتى الآن ــ التي تطلق الزغاريد عند طلاقها .
كما أن هنالك ما يشبه ( الدعاية) للمرأة المطلقة ، سبق وأن قرأنا قول رئيسة جمعية المطلقات ، أن الرجال يتزوجون من المطلقات أكثر من اللواتي لم يسبق لهن الزواج ... (( ويرى ( المزواجون ) أن المرأة الموريتانية كثيرة الطلاق محببة إلى الرجل ! )) {ج .الرياض العدد 12425 في 20 / 4 / 1423 هـ}
وفي نفس الصحيفة إحصائية تقول : 18% من المطلقات يتزوجن أكثر من ست مرات .
وإليكم هذه المعادلة : (( تقول فاطمة بنت أحمد ( 38 عاما ) التي تعيش الآن زواجها الثامن ، إنها حققت تجربة كبيرة من خلال عمليات الزواج التي قامت بها خلال الأربع والعشرين سنة الماضية وتضيف (..) أنها أنجبت سبعة أبناء من ثلاثة من أزواجها ، اثنان من زوجها الأول وواحد من زوجها الرابع وأربعة من زوجها الخامس )) { الرياض / السابق }
من الطبيعي في مجتمع هكذا ألا تنطبق ( توصيفات ) الدكتورة فوزية الدريع على المطلقة الشنقيطية ، فبدلا من الحزن والمرض عند وقوع الطلاق ، تنفتح نوافذ الحلم لدى المطلقة عندنا .
ولذلك نجد الرجل إذا طلق زوجته ، ما إن يقول ( طا ) .... لا يصل لحرف القاف إلا وقد وصلت هي إلى منزل أهلها !! وما يمنعها وقد استقرت لديها الحقائق التالية :
1- يعلم الجميع أنها طلقت لسبب تافه أو دون سبب حتى .
2- تدخل بورصة ( آسواقا ) وتحاط بهالة إعلامية ــ إن صح التعبير ــ من ( يخطر ) عليها ؟ من خطابها ؟؟
3- احتمال الدخول في تجربة زواج جديد ، وما يصحب ذلك من أحلام واستعدادات و ( ندويات ) { حدث ذلك أم لم يحدث فهو مشبع للمخيلة }
تعاقب الأزواج والزوجات
بما أن تعدد الزوجات ( مصطلح ) يدل على وجود زوجتين أو أكثر في عصمة رجل ، وبما أنه أيضا لا يوجد في الإسلام تعدد للأزواج من الرجال ، فإن ( تعاقب الأزواج ) هو التعبير الصحيح لما يحدث في مجتمعنا ، وهذا الواقع منبثق من رحم الشرط الطيب أعني ( لا سابقة ... الخ ) .
يقول الغانمي : (( والمرأة الموريتانية لا تقبل بالضرة أبدا والرجل بين خيارين في حياته إما أن يطلقها ويتزوج ثانية أو يُبقي عليها ويتوجه للزواج سرا أو أية خيارات أخرى يمكن أن تقبل بها المرأة إلا أن ( يشد ) عليها بزوجة ثانية )) { ج عكاظ العدد 13482 في 26/5/1424هـ }
لا تعليق على ( خيارات أخرى ) ! وسنكتفي بالإشارة إلى زواج السر ... فهو من العجائب ... تفر المرأة من التعدد ثم تتزوج بالسر ... هو تعدد وزيادة !.
أعتقد أن الرجال يجب أن يشكروا المرأة لأنها قدمت لهم امتيازا ما كان لهم أن يحصلوا عليه لولا بركة الشرط ( الطيب ) ، لو أن الأمور سارت بطبيعتها دون ذلك الشرط ، لكان الرجل الشنقيطي كغيره من الرجال ، يتزوج امرأة ليكون أسرة ، فإن تعذر التعايش معها لجأ إلى أبغض الحلال وطلقها ليأخذ غيرها ، فإذا كان عاثر الحظ فربما يضطر لتركها .... الخ .
وهكذا فإنه في أقصى الحالات قد يتزوج الرجل بثلاث نساء في حياته كلها ، ولكن الشرط ( الطيب) فتح الأبواب على مصارعها ليتيح للرجل فرصة الزواج بـــ 6 أو 8 أو حتى 20 امرأة ــ واحدة بعد الأخرى طبعا ــ ... وفتح الباب لزواج السر أيضا .
للإنصاف نقول أن المرأة لم تقدم هذه الخدمة للرجل مجانا ، فقد استفادت كما استفاد الرجل وربما أكثر :
1- لم يبح لها الشرع تعدد الأزواج ، فاستفادت من نظام ( تعاقب الأزواج ) .
2- تخلصت من (رهاب) الطلاق .. وأصبحت تحتفل بوقوعه ، لأن وراءه ما وراءه .
3- تخلصت من إرهاق طاعة الزوج ، وخصوصا ( من ماتت وزوجها راض عنها ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام ... فهي لا تدري عند أي زوج تموت !!! وهنا أفتح القوس لأنبه إلى خلط يقع في الأذهان بين الرضا الذي هو شعور ينبع من داخل الإنسان ، وبين السماح أو التنازل عن الحقوق ، والله أعلم . أغلق القوس .
الجناية الكبرى للشرط الطيب
هل يعقل بعد كل هذه الإيجابيات أن نقول أن الشرط الطيب قد جنى على المجتمع الشنقيطي ؟؟ نعم لقد فعل ، وذلك أنه جعل الزواج عندنا ليس زواجا بالمعنى الذي ترسخ في الأذهان ، ولكن ما يحصل عندنا ( حالة ) زواج .. أو زواج شابه طلاق ، فعند عقد القران يحضر شبح الطلاق ممثلا بـــ ( لا سابقة ولا لاحقة ) .
( حالة ) الزواج هذه جعلت المرأة تشعر في قرارة نفسها أنها ليست ( ركنا ) في أسرة .. أو رفيقة درب ، وإنما هي في حالة زواج مؤقت .. لا تدري متى تطلق ولأتفه الأسباب ، وبالتالي فهي تعاني ( عدم الشعور بالأمان ) ، وربما قاد ذلك بعض النساء المتزوجات ــ حتى المشهود لهن بالعفة ــ حين يُتغزل بهن في ( بيت ) أو ( قاف ) أن ( يكصرن ) آذانهن لذلك !!.
وهذا ما يفسر في ــ نظري ــ تلك الظاهرة التي لفتت انتباه بعض الأفاضل ، فاعتبروها السيئة الكبرى في المجتمع الموريتاني ، أعني ( التغزل ) أو ( التغني ) بامرأة على ذمة رجل آخر قبل أن أذكر بعض الشواهد من الشعر الشعبي ، إليكم هذه القصة : (( قول أحمد بن أبده البرتلي ، من قصيدة ذكرت في الوسيط ، يعتبر بحال البخاري بن أهبال ، وكانت تعشق زوجة ابن الديك أحد أولاد غيلان ففداها منه بمال ، فبينما هو ينتظر انقضاء عدتها ليتزوجها وقعت الذريذرة على أهل الساحل ، وهي جدب وبلاء وفقر مدقع أصابهم بأثر وقعة تنواقة سنة 1282هـ ، فخرجت تلك المرأة مع نساء هاربات على أقدامهن فأضر بهن الجوع فوجدن بقرا لمحبوبها فذبحت منه تبيعة فوافاها عاشقها وكلمها كلاما عنيفا ، وهددها بالضرب وطلب منها أن تقضي تبيعته )){ ص 139المختار بن حامد // حياة موريتانيا // سابق }
ثم أورد القصيدة والتي لا تهمنا في شيء. لكن الذي يلفت النظر أن القصة أوردت وكأنه من الطبيعي أن يعشق رجل زوجة رجل آخر ... بل ويدفع له ( نقلان قدم ) !!
صاحبت أحمد ذي الدار // مابق عنه لغيار // مني وان صبار // وذليل من العصمة
واللا لو لا لي خوف العار // الرق هي والحشمة // يظهر ياسر من لكعار // دارق كان فظلمة
نصرق قاف المختار // لعم كلمه كلمه // نبغ صاحبة أحمد ذي الدار // عزت لبقر للمه
وعزت لادم لبلد فيه لقاطت لحمه { الخلل من الذاكرة }
ويقول زيني ولد مشيّخ :
ياربي وكتنك قاد // تواسين ول الكباد // محمدّو هي المراد // واسيهال تكفين
يكان نجبر سبت لوجاد // الل منه دام حنين // ولين نراه زاد // رجّعن ول مشيخ زين
ويقول آخر : صيدك من تعظام // ملقاي لك قام // يهبز من لكلام //الشين ويطلق
والل حصل تام // من ذل بيه ظلق // قالن ملقاك // // نبغيه أصل صدق // والله يذاك // الل قال الل حق
ونختم بهذه ( الطلعة ) التي يتغنى بها المطربون :
قولو لأحمد مازين عليه // عيبول فالناس وشمت //
أمان هو مانسميه // نبغيه أنبغ صاحبت // حلوف فيّ يلبعاد // النّ يكتلن ماه مقاد // اللّ باغ كثرت لمراد//
أمّان روحي لازمت // اللّ يكتلن واللّ زاد // تتكتلن عزت صاحبت .

خاتمة :
إن ما دفعني للكتابة هو هذه التغيرات التي تطال كل شيء في العالم ، وانعكاس ذلك علينا أفرادا ومجتمعات ، كانت الحياة في غاية البساطة ، وفي حالة الطلاق ، كان يمكن للأطفال أن يتربوا عند أحد أجدادهم أو لدى أمهم المتزوجة أو عند زوجة أبيهم ، فالحياة بسيطة ، والناس طيبون وعلى الفطرة ، وقلوبهم مليئة بالرحمة ، أما الآن فقد طال التغيير معظم الأشياء ، فلابد من نظرة جديدة تواكب هذه المتغيرات .
هنا لا بد أن أسجل كلمة سمعتها قبل سنوات طويلة ولايزال صداها في أذني ، وهي أن أخشى ما يُخشى على الرجل الشنقيطي – في الآخرة - إهماله لأطفاله ( لا نفقة ولا رعاية ولا تربية ) ، فهو يتزوج مجموعة من النساء وينجب من بعضهن ، ثم تتعرض الصلة للبعد والانقطاع ، وتلعب الزوجة الجديدة ــ أحيانا ــ دورا في ذلك حين تعتبر أن تواصل الأب مع أبنائه ما هو إلا بقايا حب لطليقته ، وقد تكون عادة إهمال الأبناء نشأت في الأصل من رفض بعض الأسر أن يصرف الأب على أبناء ابنتهم بعد أن يطلقها ، (( تحول بعض التقاليد الموريتانية دون تقديم الزوج المطلق أية مساعدات لمطلقته وأبنائها ويعتبرون ذلك إساءة إلى أهلها وهو ما يجعل الكسوة والنفقة تكاليف غالبا ما يدفعها أهل المطلقة ولا يعني هذا رفضا من جانب الزوج للقيام بهذه الواجبات وإنما عزة نفس لدى أهل المطلقة )){ ج. الرياض العدد 12412 في 20 / 4 / 1423هـ .}
هكذا نشأت هذه العادة في مجتمع بدوي بسيط ، محدود الاحتياجات ، ثم ترسخت هذه العادة ، والحقيقة أن الصرف على الأبناء يكون أحيانا في حكم المستحيل ، فقد يكون لدى الرجل أطفالا من 3 أو 4 زوجات ، وفي عصمته زوجة وله منها أطفال ، وهو محدود الدخل أو ليس له دخل ثابت أصلا !!
المشكلة الحاصلة الآن وهي مرشحة للتفاقم ، تكمن في تعدد الوسائل التي تؤدي لانحراف الشباب والشابات ، فإذا كنا نجد الأسرة الملتئمة المراقبة لأبنائها ، تكاد تعجز عن ضبطهم ، فما بالنا بأسرة مفككة ، الأب فيها قد أنشأ أسرة ثانية أو ثالثة ، والأم كذلك .
ولعلنا نسمع بين الحين الآخر عن انحراف بعض الشابات ــ وهذا مؤشر له دلالته ــ نحو تعاطي المسكرات .. وغيرها من الانحرافات .
وشيء آخر في غاية الأهمية يتعلق بالمرأة ، كانت المرأة تُطلق وتتزوج أكثر من مرة ، دون أن يحتج أبناؤها ، فقد تربوا في مجتمع هذا ديدنه ، إضافة إلى تربيتهم تربية إسلامية ، تعظم مكانة الأم ، وترسخ فكرة البر بالوالدين ، وتزرع في النفوس الخوف من العقوق ، أما الآن فإن أجيالا تربت في زمن المتغيرات ، وساهمت في تربيتها وسائل الإعلام المختلفة ، لا يُستنكر انقلابها على بعض العادات التي درج عليها المجتمع واعتبرها من الأشياء البديهية ، وعلى رأس تلك العادات ممارسة الأم لحقها في الزواج مرة أخرى ــ أو مرات أخر ــ وسنرى شبابا ــ بل و شابات ــ يرفضون زواج أمهاتهم ، وهنا يكمن الخطر ، فهل ستضحي الأم بحق من حقوقها كي لا تخسر أبنائها أم تضحي بهم ؟؟
لا شك أننا نؤمن أن من حق المرأة أن تعيد تجربة الزواج فهذا حق كفله الشرع لها ، كما أن هذه حياتها ، ومن حقها أن تفعل ما ترى فيه المصلحة ، ولكننا لا نستطيع أن نخطّئ هؤلاء الشباب والشابات ، حال كوننا عاجزين عن تصور مشاعرهم ، وربما ليست لدينا القدرة على النظر من نفس الزاوية التي ينظرون منها .
لعل حجر الأساس في تباين وجهات النظر ، هو تلك النظرة القاصرة لـ ( فكرة ) الزواج من الأساس ، فحين ينظر للزواج على أنه مجرد وسيلة لإشباع الجسد ، فإن ذلك يجعل فكرة زواج الأم مرة أخرى ، فكرة مغلّفة بالسلبية ، بينما يفترض أن نرسم في الأذهان أن للزواج أهدافا أكبر من مجرد إشباع الجسد فهو حسب التعبير القرآني الشامل ( سكن ) ، والإنسان في رحلة الحياة هذه في حاجة إلى رفيق درب يضع يده على كتفه ، خصوصا عندما تتساقط أوراق الشباب ، وتهطل أمطار التقدم في العمر ، حينها لا يمكن للتلفاز أو الإنترنت أو حتى الكتاب ، أن يكون بديلا لقلب ينبض .
وهنا مفارقة ، يرى الشاب ــ أو الشابة ــ أن من حقه أن يمنع أمه من تكرار تجربة الزواج ، ولكن حين تتدخل الأم في مسألة زواجه ــ أو زواج البنت ــ يعتبر ذلك تدخلا في شئونه الخاصة ، وذلك ما تنص على منعه ( بروتوكولات ) المسلسلات المتلفزة .. ! وهذا تناقض عجيب !
وختاما يظهر أن المرأة في الأندلس والمغرب كانت هي الأخرى تشترط عدم الزواج أو التسري عليها ، والسؤال هل تجاوزت المرأة المغربية هذه المرحلة ؟
( وهذا نموذج عقد زواج وما يتضمنه من شروط للمرأة ) :
((... أما بعد فقد أصدق فلان بن فلان الفلاني زوجه فلانة بنت فلان الفلاني أصدقها على بركة الله ويمنه كذا وكذا ديناراً (..) وأن تكون عنده بأمانة الله تبارك وتعالى وبما أخذه عن وجهه للزوجات على أزواجهن المسلمين من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
وعليه أن يتقي الله في صحبتها ويحمل بالمعروف عشرتها جهده كما أمره الله تعالى وجل ، وله عليها مثل ذلك من حسن الصحبة وجميل العشرة ودرجة وطاع الناتج المذكور لزوجته المذكورة بعد أن ملك عصمتها استجلابا لمودتها وتفان لمسرتها بان لا يتزوج عليها ولا يتسرى معها ، ولا يتخذ أم ولد عليها ، فإن فعل شيئاً من ذلك فالداخلة عليها بنكاح أو مراجعة طالق ، والسرية وأم الولد حرتان لوجه الله تعالى ، وألا يضارها في نفسها ولا يأخذ شيئا من مالها ، فإن فعل شيئاً من ذلك فأمرها بيدها وأن لا يغيب عنها غيبة بعيدة أو قريبة طائعا أو مكرهاً حيث ما توجه من أسفاره من ستة أشهر إلا في أداء حج الفريضة عن نفسه فإن له في ذلك مغيب ثلاثة أعوام ، فإن زاد على هذين الأجلين أو أحدهما فأمرها بيدها (..) وأن لا يرحلها من موضع كذا إلا بإذنها ورضاها ، فإن رحّلها مكرهة فأمرها بيدها وإن طاعت له بالرحيل ثم سألته الرجعة فلم يرجعها من يوم تسأله إلى ثلاثين يوما فأمرها بيدها ، وعليه مؤنة انتقالها ذاهبة و آيبة أن لا يمنعها زيارة أهلها من النساء وذوي محارمها من الرجال . {(( الجزيري المقاصد المحمودة ص 2-3 )) { مجلة دراسات أندلسية // ظاهرة الزواج في الأندلس إبان الحقبة المرابطية من خلال نصوص ووثائق جديدة // د . إبراهيم القادري بوتشيش }
لعل الفرق البارز بين شروط المرأة الأندلسية والمرأة الموريتانية ، أن الأولى حصنت نفسها ضد التسري ، وهذا ما فات على الموريتانية ، كما أن الأندلسية اشترطت طلاق أختها ، بينما تطلق الموريتانية نفسها ، وإن كان ذلك أقرب إلى الشرع ، لورود النهي عن طلب المرأة طلاق أختها ... فكيف إذا اشترطته ؟
كما في البدء الحمد لله والصلاة والسلام على حبيبنا رسول الله .



المدينة المنورة في 10/5/1425 هـ
28/6/2004م