الطائفة الباغية
(1)
إن الذي خلق الشعراء وأملى لهم في التحصيل والتفكير والتعبير حتى أشرفوا على الناس من القمر، لقادر على أن يخلق النقاد ويملي لهم في التأمل والاستيعاب والتمييز حتى يشرفوا على الشعراء والناس جميعا من الشمس! بل لولا مثل هؤلاء النقاد ما كان مثل أولائك الشعراء؛ فهم الذين بعثونهم من رقاد، ونبهونهم من غفلة، وعطفوا عليهم من إعراض.
وإنما أهلك الأدباء قبلنا أنهم كانوا إذا أخطأ فيهم الشاعر الكبير تحرج من تخطيئه الناقد الكبير؛ فحمل خطأه النقاد الصغار على أحسن محامله؛ ثم لم يلبث أن يصير أسلوبا في الخطأ، بعد أن كان خطأ في الأسلوب، ويتسع الخرق على الراقع!
وربما خلا الناقد الكبير من ذلك الحرج إذا كان مع نقده الكبير شاعرا كبيرا؛ فعندئذ يجرئه على غيره علمه بحقيقة نفسه، وأنه ربما عجز عن التحليق فأسف، وعن الصواب فأخطا عفوا أو قصدا. فأما الناقد الصغير فيتقي كبر الشعراء بالإعجاب بهم، ويتقرب إليهم بتقسيم وجوه الصواب عليهم!
وهل أغرى بنقد الشعراء الكبار النابغة الذبياني والحطيئة...، وعلي بن الجهم وأبا تمام والمتنبي والمعري وبشارا وأبا نواس وابن الرومي وابن المعتز...، والجرجاني والمرزوقي وابن رشيق...، والبارودي والعقاد والمازني والرافعي وشاكرا وعبد الله الطيب ويوسف خليف وأبا همام... وغيرهم، إلا أنهم كانوا شعراء كبارا.
وقد أحببت النقاد الكبار الشعراء الكبار، حتى أطلعني حبهم على دخائل نفوسهم. وخالطتهم حتى دعاني فيهم خلاطهم. وزالت من قلبي هيبة الشعراء الكبار إلى هيبة الصواب؛ فرأيت أن أسلسل في تخطيئهم سلسلة أكون وإياها مثلا شرودا، لا تدور كل حلقة مزججة مسنونة منها إلا بمعايبهم مجلوة وألحيتهم ملحوة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!