أوراق من حياة تابعي
(الورقة الثانية)
(الجزء الأول)
كان المجلس عامراً بذكر طاووس الإمام القدوة الفقيه عالم اليمن، والأميرُ محمد بن يوسف الوالي قد برزت كل معاني الإفلاس والحنق إلى وجهه، فلقد أثبت الجالسون وهم العارفون بأمر طاووس بالأدلة المتواترة أن الرجل ليس ممن يُقدَر عليه بوسائل السلطان من ترغيب أو ترهيب ، وعلى هذا فلا طاقة للأمير على كبح جماحه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قطع حديثهم ضجراً مطلقاً صرخة المتأفف:
- لكنني سأجبره على أخذ شيء مني، وليكفّ من بعد لسانه عني
أحرجته نظرات الجلوس المملوءة تشكيكاً في كلامه واستغراباً من انفعاليته الساذجة:
- تعال يا سنان، يا سنان، تعال يا لُكع
أقبل أحد حرسه، تبدو عليه معالمن البساطة والخضوع التام لمولاه
- أجل يا مولاي
- خذ هذه الصرة (وأخرج من جيبه صرة مملوءة نقوداً) ففيها سبع مئة دينار ، أعطها طاووس
العالم، سيحاول ألا يأخذها، فلا تترك وسيلة لإيصالها إليه إلا أتيتها، فإن جزاءك لدي إن كان ذلك عظيم عظيم
تنفس الرسول صعداء السعادة، أمسك بالصرة وقد برز له منها الجزاء الموعود، فسعى ينهب الطريق نهباً إلى طاووس تشيعه نظرات الجلوس الواجمة، فيما ابتسم الأمير ابتسامة راحة وتفاؤل بالنصر.
وصل سنان بيت طاووس الإمام ، دق الباب ففتحه ، كان وجهه العامر صفاء ووقاراً كافياً وحده ليشعر الحارس البسيط بهيبة تمنعه أن يفكر لحظة في شأن الصرة، بيد أن الجائزة ونظرات الإمام الفاحصة أرغمتاه على الكلام بلهجة متلعثمة:
- إمامنا، هذه صرة نقود أرسلها إليك مولاي الأمير
كان بصره معلقاً بمرأى وجه الشيخ الجميل جلالةً، فلم ينظر إلى يده لولا أن وجد يد الشيخ تدفعها بأنفة:
- أما يعلم أميرك أني لا أقبل مثل هذا، أعدها إليه، قل له قد ضللتَ الطريق
- إمامَنا .. أنا .. أنا
أغلق الإمام الباب بشدة ، فترك سنان محبطاً، لكنه تذكر الجائزة ، فجدّد العزم، وأعاد ضرب الباب مرة أخرى، فأتاه صوت الإمام من الداخل:
- أما زلت هنا يا هذا؟
- يا إمامنا ، أنا موكَل بإيصالها إليك، لا أملك أن ...
- لا تحاول يا بني ، ليس طاووس من يُشرى بالمال
(يتبع)