فكرة الفصل بين القرآنين المكي والمدني بدعة لعلها أخبث ما تقيحه المبشرون والمستشرقون، وشر ما فيها أن كثيراً من المسلمين تلقوها عنهم بسلامة نية، وكان من أشدهم حماسة لذلك المرحوم الأستاذ سيد قطب.
اعتماد هذه الفكرة على أن النبي الأعظم صلى الله عليه وعلى آله كان مبدأ أمره ولا سيما أيام مكة متأثراً بما أخذ عن أهل الكتاب ولا سيما ورقة بن نوفل وبحيرى الراهب ، فكان يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وينظم آيات قرآنية - تعالى الله وكلامه عن قولهم - قريبة في سمتها وخصائصها وروحانيتها من العهدين القديم والجديد، تتناول ظواهر الكون وآلاءه ، وقدرة الخالق وعظمته، وتحض على مكارم الأخلاق.
فلما استوى له الأمر، وبات زعيم دولة في المدينة، كشر عن أنيابه - قبحهم الله - وذاق طعمة الرخاء والدعة، فتغيرت نفسيته، وتغير معها أسلوب نظمه لآيات القرآن، فغدت طويلة مسهبة لا تخلو من إملال ، وراحت روحانيتها تضعف بل تلاشت، وغدا ينظم أمر مجتمعه الجديد بقوانين لا تخلو من قسوة وتجبر.
كذا يقولون قبحهم الله، والرد عليهم يأتي من وجوه:
أولها: أن القرآن المكي كان الكتاب المتلو آناء الليل وأطراف النهار في المدينة المنورة إذ كان القسم المنزل من كتاب الله، وعلى هذا فإن يكن قد غاب تنزيلاً فلم يغب تلاوة وتأثيراً لحظة واحدة، وعلى هذا ينبني كذلك أن هذا الفصل القاسي المبتدع لا صلة له بالواقع.
وثاني الوجوه: أن سوراً مدنية كثيرة كانت على نهج السور المكية الذين يدعونه، فتلك الرحمن والرعد والحديد وآيات كثيرة من النور والبقرة وآل عمران.
وثالث الوجوه: ما ذكرته الأخبار من إعادة نزول سور مكية في المرحلة المدنية، وأشهر شاهد على ذلكم المعوذتان.