(10) الطوفان ينحرف أحيانا

قصة قصيرة، بقلم: يس الفيل
...................................

في صدر المنصة جلس .. على رأسه تخفق الأعلام وإلى سمعه تتهادى أنغام الموسيقى ، ومقاطع الأناشيد الوطنية .. تلاحق الصواريخ وهي ترسم على صفحة الأفق صورا بديعة ، بينما المذيع ينقل إلى العالم وقائع الاحتفال بعيد التحرير الأول .
الوزراء .. والسفراء .. وكبار القادة .. من حوله .. ورغم ذلك .. تغزوه الذكريات ، وتشده عنوة إليها .
في الزمن الذي سما بالعلم ، وعلى الأرض التي احتضنت خطى الإسلام الأولى .. وبين من عرفوا للجار حقه ، وللأعراض حرمتها ، وللحب مكانته ، وللكرم قدره .. في هذا الزمن وعلى هذه الأرض ، وبين الأهل والعشيرة .. يحدث ما حدث .. هو لا يصدق ، رغم أنه وقع ، فوق تصوره ما كان ، وفوق احتماله ، أن يندفع الطوفان ، فيأتي على الأخضر واليابس ، ويجتاح بلا رحمة المكان والبشر والماضي والحاضر ، بل والآتي أيضا .. كاد ينهي حياته بيديه، لولا بقية من إيمان انبثقت من أعماقه ولولا فرجة من أمل ، لاحت من قلب هذا الليل البهيم ، يغوص في ذكرياته ، ينتشل مذيع الحفل الداخلي ، حين يعلن أن مفاجأة تنتظر العالم في النهاية ، يطفو على السطح برهة . يمد بصره إلى بعيد ، آثار الدمار لا تزال ، قطع الأخشاب ، كتل الخرسانة ، حاجيات الناس ، دماء متخثرة ، كل ذلك مختلط بهمجية ، متناثر هنا وهناك لا يستطيع أن ينسى ، يعود بذاكرته إلى ملجئه البعيد .. حيث قضى الليلة الأولى مذهولاً .. شئ في داخله يتكسر ، يتشظى ، قطع من زجاج تجرح وتذبح .. في الليلة الثانية .. يزداد ثقل الهم بمرور الساعات ، لكنه يستطيع أن يلملم شتات نفسه ، ويحدد لإدراكه بعض المنارات التي قد يطل على الغد القاتم ، في الليلة الثالثة كان قد استطاع أن يستوعب الحدث تماما ، يتذكر .. وهو حبيس الجدران منفردًا .. ذلك القائد الذي فر منهزما وهو يتطلع إلى حائط مخبئه ، ليتابع نملة ، تحمل حبة قمح .. غذاء الشتاء القادم ، تقطع بها الجدار صعودا وتسقط الحبة مرة ومرة ، وعشر مرات ، وعلى أبعاد متفاوتة ، من عشها في أعلى الجدار ، فلا تمل المحاولة ، ولا تسأم التكرار ، حتى يتحقق لها – في النهاية – ما تريد.
يتذكر .. كيف ألهبت وجدانه حكاية النملة ، وكيف أحيت الأمل في قلبه ، وكيف حمته من السقوط .
ما كان يرمي جوارحه بعنف هو انعدام الوفاء ، وغلظة الخيانة ، وعدوان الجار ، وجاهليته ، في الزمن الذي لم يعد فيه الكون غابة ، ولا الناس وحوشًا.
عند هذا الحد .. غزت عينيه الدموع الحارة ، التي أوشكت أن تحرق مقلتيه ، وهو يستعيد ما كان .. استشعر الحرج ، أوشك أن يغادر المنصة ، شده الماضى إليه ، طفا على السطح ما اختزنته الذاكرة ، تجسدت أمامه صورة ذلك القائد ، الذي فرّ بدينه وكرامته إلى هذه الأرض ، تذكر كيف استقبله الأجداد ، وكيف أقام كريما ، ثم رحل عظيما ، مع بضعة من رجاله الشرفاء ، يسترد الحرم الآمن ، قطعة قطعة ، ينتزع الأرض من غاصبيها ويعاهد الله أن لا يلقي سلاحه ، رغم مرارة المسيرة ، وشدة المعاناة ، إلاّ بعد أن يضمد الجراح ، ويرفع الرايات على الثغور ، تكبر الله .. ويجعل الأمل في الوحدة عملا يقف شامخًا في وجه الأعاصير ، طفا على السطح موقف الجار المهيب ، ، وقد اكتسحه الإعصار سنينا .. وأوشك أن يجعله أثرا بعد عين ، وكيف أرخص من أجله كل غال ، التفاصيل قريبة العهد ، لم يطمس معالمها الزمن بعد ، قوت الأبناء ، دم الشباب ، الموقف ، الاستنزاف للموارد ، كل هذا تداعى إلى السطح ، دون أن يستدعيه ، راح يقارن بين من يفتح قلبه وبيته ، ويضحي بأمن بلده واستقراره ردًا لجميل طمست معالمه الأيام ، وبين أخ ظالم ، لم يكتف بالتنكر للجميل ، وإنما هو يحاول قطع اليد التي امتدت إليه بهذا الجميل .
شد انتباهه بعض الهرج في طابور العرض ، للحظات تابع المشهد ، صاروخ من صواريخ الاحتفال أوشك أن يخترق الصفوف ، خرج من المقارنة باللائمة على نفسه ، حين سوّى بين الصالح والطالح ، كان يمكنه أن يتحاشى همجية الطوفان لو أنه مد البصر قليلا ، ولم يأمن الذئب حين ارتدى مسوح الحمل هربا من الصياد ، كان يمكنه أن يؤمن الجسور ويقويها ، ويضع الخطر في حسبانه ، فلا يدعها عرضة للانهيار أمام أول موجة تعلو ، كان يمكنه أن ينام يقظا ، عينه على الثغور والممرات والحواجز .. حتى إذا ما فكر الطوفان في الاجتياح ، وبدت طلائعه مسعورة ، ردّه إلى حيث أتى ، كان يمكنه أن لا يترك هذه المداخل خالية من الحماية ، هو يملك المال والعتاد ، ويملك أن يطلب ذلك من الأوفياء ، وهم حوله كثير .. لكنه يعود .. ويعزي نفسه ، بأنه ما غفل ، وإنما هو أمن ، دون أن يدرك أن الخطر يجئ من الإفراط في الأمان .
دوامات من الألم تعصف به ، يخفف من حدتها .. أن الأرض لم تقهر ، وأن الوديان تستعصي على الطوفان وهي تتحول إلى أنفاق وخنادق ، تبتلع المدّ الغادر ، وتعلو تبابا تستحيل على الغزو تماما .
طلائع الجيل الجديد ، تعبر من أمام المنصة ، الحفاوة بها بادية على وجوه من حوله ، وفي استقبال الجماهير لها .. المسيرة لم تتوقف .. ولم يتوقف هو ، يتخطى الواقع ، يتحسس مواقع أقدامه بحذر ، يخطو متماسكا ، فوق أرض احتضنته ومدت له جسور الأمل ، ليعبر إلى الصامدين من الخنادق البعيدة ، وكلما خطى خطوة ، كلما انفتح باب جديد لأمل جديد .
كان قد تصور في لحظات اليأس ، أن الذئب قد ابتلع الفريسة ، وأن لا أحد في الغابة يستطيع أن يقول له إن الحمل لم يعكر عليك الماء .. لكنه وجد الغابة تتحرك ، وتثور ، ثم لا تلبث أن تصير ماردا ، لا يعبأ بالتهديد ، ولا ينخدع بالمناورات ، ولا ينطلي عليه الزيف .
صحيح أن الخطوات سادها الهرج والمرج في البداية مما مكن الغدر من التغلغل في الأعماق ، ليحرق كفاح الماضي ، وأمل الحاضر ، وليدنس التراب الذي احتفظ بشرفه على مر العصور نقيا .
صحيح أن الطوفان - في لحظات اليأس من التسليم له بالتهام الفريسة - قد راح يذبح ويسرق وينتهك ، بلا دين ، ولا ضمير ، ولا خلق ، وأن كبرياء الجرح ، كلما اجتث له ذراعا، بدا أخطبوطا بألف ذراع ، مما تصور معه أنه بات ملك الغابة ، لكنه كان قد نسي أن اليائس لا يخاف ، وأنه عندما يفقد الأمل وتؤدي كل دروبه إلى الخيبة ، فلا تكون إلاّ العاصفة الهوجاء .. نهاية لهذه المهزلة .
عند هذه النقطة أفاق .. كانت موسيقى الختام حادة صاخبة ، كأنها قطع الرصاص ، تصب في أذنيه .
بدأ يتململ ، بدأ الكل يتأهب للقيام ، حانت اللحظات الحاسمة .. لحظات الختام .
هو يعرف حرمة الجار حتى لو جار ، ويضن بالدماء البريئة أن تراق سدى ، ثم إنه لا يريد أن يتحول إلى شمشون جديد .. لكن ماذا يصنع ؟! ..والاختيار فوق الاحتمال .
الساحة أمامه تغلي ، السماء بدت ملبدة بغيوم لم يعهدها ، كل الدلائل تنذر بالانفجار ، الذيلا يعرف مداه ، وعلى الرغم منه .. كان عليه أن يختار.
وينطلق المارد من القمقم .. الأرض تقذف حمما ، والسماء تمطر لظى .. يطول الانفجار، وينهمر المطر .. يتوقف كل شئ .. كلٌ يحبس أنفاسه ، ثم بعد حين .. لا يلبث هذا الطوفان ، أن ينحسر عن الأرض ، وعن البشر ، وتكون المفاجأة أن يتحول الطوفان إلى إعصار وأن يتحول هذا الإعصار إلى الاتجاه المضاد .. ليغرق ذلك الذي أيقظ الفتنة النائمة .. وأن يكون لحن الختام.. كما كان دائما : على الباغي تدور الدائرة .
.................................
* كتبت عام 1992م.