بســــــم اللــــه الرحمـن الرحيـم
جَــــــائِــــزَةُ الـتَّفَهُّـــــم
( بحال ) الخميس
15 / 3 / 2007
أرجو إلهيَ رزَّاقي بأكرُمِهِ
نهجُ الوفاءِ أناغيمُ الهدى جَمَعَتْ
جُودَ العنايةِ حُسنى شُكرِ أَنْعُمِهِ
تفكيرَ آدمَ في تدبيرِ أرحَمِهِ

مَن يستطيع أن يعرف بكلمة واحدة عنوان هذه الرباعية ، يملك الحق في الحصول على ( جائزة التفهم ) التي مقدارها مليون ليرة سورية .
هذا إعلان غريب أعلنه الأستاذ الدكتور أسعد علي ، ووضعه على عباءة ( لخاطر آدم ) ، وهو كتاب عالمي من كتبه الحديثـة . . .
إعلان غريب يوحي بأن الناس اليوم لم يعودوا يدركون قيمة التفهم ، وأننا يجب أن نغريهم بالكنـز الأصغر حتى يصلوا بأنفسهم إلى الكنز الأكبر .
إن هذا الإعلان هو أشبه بخارطة ترشد متتبعها إلى طريق يصل فيه إلى كنز ، والكنزُ عبارة عن صندوق ( قديم ) يحتوي على حجر من الأحجار الكريمة ، مدفون في إحدى المغارات على قمـة أحد الجبال ، والخارطة ترسم طريق الوصول إلى هذا الجبل ، وكيفية الصعود إليه ، إلا أن العجب العجاب ، الذي يطيح بالعقل والألباب ، أن متتبع هذا الطريق المرسوم في الخارطة سوف يمرُّ قبل أن يصل إلى جبل الكنز أمام ( جبال ) شاهقة مصنوعة من الأحجار الكريمة والكنوز الثمينة واللآلئ البراقة ؛ وهو في طريقه ليحصل على هذا الكنـز الصغير الذي لا يعدو أن يكون ذرة من ذرات تلك الكنوز التي سيمر بها ، فمن ذا الذي سيترك الكنوز العظيمة والأحجار الكريمة والجواهر الثمينة ، ويستمر بحثاً عن قطعة صغيرة ؟ ‍‍! . . .
إن سعادة الوعي ولهفة الكشف ومتعة الوصول إلى لحظة الغمر ، تسبق رغبة الحصول على المال .
كم هي جميلة تلك اللحظات التي أكرمني فيها الله . . .
في الأعوام ( 1988 ـ 1989 ـ 1990 ـ 1991 ـ 1992 ـ 1993 ـ 1994 ـ 1995 ) كنتُ أحضر إلى جامعة دمشق كلية الآداب الساعة السابعة صباحاً ، حيث كان بعض الطلاب يظنون أنني موظف في الجامعة ، وكان الأساتـذة آنذاك يتعجبون من حضوري المحاضرات مراراً وتكراراً ، حتى في المواد التي قد نجحت فيها ، وكان حريَّاً بهم ألا يتعجبوا لأنني كنت أحضر ( لأحجز ) لنفسي في المدرج الأول في المقعد الأمامي انتظاراً لمحاضرة الأستاذ الدكتور أسعد علي التي قد تكون عند الساعة الثانية ظهراً أو الرابعة عصراً . . .
وقد لاحظ الطلاب آنذاك حرصي الشديد على ذلك المقعد الأول ( ولا أخفي سراً إذ أقول إنني أحضرت كرسياً حديدياً مطوياً وقفلاً وجنـزيراً وأحكمت وثاقَهُ في إحدى أضلاع المنصة كي أستخدمه في حال لم ألحق الوصول إلى ذلك المقعد الأثير على نفسي ) ؛ ( وبهذه المناسبة أذكر أن أحد الطلاب أخبرني أن أستاذنا الدكتور أسعد علي قد سأل عني في إحدى المحاضرات التي فاتني حضورها ، وقال إن هناك طالباً يجلس هنا ؛ يرفض إعطاء مكانه لأحد ، وإنه لو دخلت دبابة على المدرج الأول لمَا غادره ) . . .
إلى أن سألَتني في ذلك الوقت إحدى الطالبات ( ريم زين العابدين ) وقالت : " إن المحاضرة مهما كانت ممتعة ، وإن الكلام مهما كان عظيماً ومفيداً ، لا يقلُّ نفعه ولا تنقص قيمته إن وصل إلى أذن المرء من أي مكان سواء أكان قريباً من المحاضِر أم بعيداً عنه "، فهززتُ لها برأسي وقتذاك ؛ لا موافقةً مني على كلامها ، وإنما لأنني لم يكن بوسعي آنذاك أن أجيب على سؤال كهذا .
( لماذا تحرص على الجلوس في الصف الأول ؟ . ) ، هذا السؤال وُجِّه إلي من عدة طلاب لاحظوا حرصي الشديد جداً على المقعد الأول ، أذكر منهم ( سمية الأحدب ، أحمد الصواف ـ سهام عبد الكريم ـ سمير الخطيب ـ هادية الكشة ـ هدية البيطار . . . ) وطبعاً لكلٍّ من هذه الأسماء قصة تستحق أن تروى . . . ما أشد دهشة هدية البيطار عندما عادت لتزور الجامعة بعد تخرجها بسنوات ، وكانتْ قد أصبحتْ مديرة ناجحة لإحدى المدارس فنظرت إلى المكان الذي كنت أجلس فيه فوجدتني ما زلتُ جالساً . . .
ومازلتُ لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال ، إلا أن استمراري في حضور محاضرات أستاذي الدكتور أسعد علي وفهمي لظواهر كلماتها ، لأنني لا أملك القدرة على الخوض في غمارها ، وقراءتي لكتابيه ( صناعة الكتابة ) و ( فن الحياة فن الكتابة ) وكتب أخرى كثيرة قراءةَ أسطرٍ ؛ لأنني لم أتمكن آنذاك من قراءة ما بين الأسطر ؛ إذ كيف يمكن لشبه العوَّام أن يصنع صنيع الغواصين المهرة ( وما زلت أحاول الخوض في غمار ذلك البحر العظيم ) ، إن استمراري في الحضور وتـتبعي للكلمات البراقة المعبرة ؛ جعلت مني قادراً على محاولة الإمساك بالقلم ، وعلمتني كيف أخطُّ الكلمة ؛ ولو كنتُ أملك القدرة على فهم المعاني العميقة ، أو أوتيت البراعة في إدراك كنه كلماته وأسرار جُمله وعباراته ؛ إذن لكنتُ قد أصبحتُ عالِماً فـذّاً ، ولَتعلمتُ كيف أبني في الهواء ؛ وكيف أمشي على الماء ، لكنني ولله الحمد ما زلتُ ذلك الطويلب الذي يحمل قلمه ويركض ليلحق بأستاذه ، علَّه يتمكن من التقاط كلمة من هنا ، وجملة من هناك ؛ قـد تساعداني في محاولة الإمساك بأحد أطراف الخيط الأول من خيوط ذلك الفن العظيم ( فن الكتابة ) .
فاستمعي اليوم أيتها الأخت ( ريم ) ، علِّي أتمكن بعد تسع عشرة سنة من الإمساك بأحد أطراف خيوط الجواب عن سؤالك القديم أبداً والجديد دوماً .
في إحدى محاضرات المدرج الأول / 1992 / الساعة الثانية ظهراً ؛كان الدكتور أسعد علي في محاضرته ، وكنتُ أجلس في المقعد الأول .
وكان الناظر إلى الدكتور أسعد علي آنذاك يحسُّ بأنه يتحدث من عالم آخر ؛ من عالم الأدب الخالص ، الأدب الذي شفَّ لصاحبه ؛ وارتحل به ، فكأنه يخاطبنا من عالَم النفوس أو عالَم الأرواح ، لقد دخل في شرنقة الأدب الحيّ ، فتمثل الأدب له ؛ ودخل في خفايا نفسه ؛ وكان يعرضه علينا بطريقة راقية وأسلوب بديع فنحسُّ وكأنه يحملنا جميعاً ويحلِّق بنا فوق الجبال الشاهقة . . . وبينما هو على هذه الحال كنتُ أحسُّ أن تياراً خفياً يسري في أوصالي ويجعلني أشعر أنني مندمج معه تماماً ، فأخذتُ أترقب بشغف وأستمع بإمعان . . .
وكان مما قاله الأستاذ الدكتور أسعد علي : { لا تُحمِّلوا الناس فوق طاقتهم ، لأن لكل نفس قدرة على العمل والتفكير ينبغي ألا نتجاوزها }، ثم أخذ يتساءل أمامنا ويقول ( . . . هذا الكلام الذي أقوله لكم الآن ؛ أما مِن أحد كان قد نظَمَه شعراً . . . ) .
وأحسست أن هناك كلماتٍ سوف ألفظها بصوتي ، لكن الحال يشير إلى أن ما سأقوله إنما هو صدىً لكلام الأستاذ الدكتور أسعد علي ؛ إذ كان لي الشرف بأن أكون أنا الذي يتلقى ( الإشارة الخفية ) فيصدر عنه الصدى ؛ قلتُ :
على قَدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ
وتأتي على قَدرِ أهلِ الكِرامِ المكارمُ

قال الدكتور أسعد علي : ( ياسلام عليك يا أنس ) .
أكنتُ سأحظى بكلمة كهذه لو لم أكن قريباً منه في المقعد الأول .
* * *
إنما أشرت في بداية حديثي إلى تاريخ المحاضرة لأقول إنني مازلت أحمل في نفسي تلك ( النشوة الممتعة ) التي أخذت بمجامع نفسي آنذاك ، ليس لأنني تمكنت من أن أقرأ بيتاً من الشعر فجاء هذا البيت مناسباً للكلام ، وإنما لأنني استطعت التفكير بروح الآخر ؛ استطعت الولوج إلى العالم الباطن ، وتمكنت من الوصول إلى مرحلة ( الاتحاد ) في التفكير . . .
إن هذه النشوة التي تهيج النفس ، وتؤجج التفكير ، و( تعصر ) الدماغ ؛ لتنـتقل بالمرء إلى عالم آخر ، تفعل ما لا تستطيع فعله أحدث آلات الطب ، وتقوم بما يعجز عنه أمهر أطباء العالـم ؛ لأنها تعتصر الخلايا في الجسد فتطرد منها الجراثيم التي يحتاج الشفاء منها إلى عشرات العقاقير التي تفيد وتضر في آن معاً ، أما تلك الكلمات ( الشافية ) فإنها تقدِّم الفائدة صافية نقية ؛ ودون أجر ، فأية آلة تلك التي يمكن أن تعطيك هذا ، وأي مبلغ من المال يملكه الأغنياء يتيح لهم الحصول على تلك النشوة بطعمها الأصيل ، وأي مشفى ( راق جداً ) يمنحك فرصة إجراء عملية معقدة جداً ، تتطلب عدة ساعات بأيدي عدة أطباء مهرة ، تجريها في هذا المدرج الذي تُلقى فيه هذه المحاضرة مجاناً ، وفوراً ، ودون أن تخشى من نسبة خطر العملية ، إنها الكلمة ، إنها لهفة الكشف ، ومتعة الرؤيا ، وبهجة التواصل ، وغنى التوحد . . .
يا لِتعاسة الأغنياء ؛ الذين لا يتمكنون بمالهم الكثيرْ ، من الحصول على لحظة التفكيرْ ، والوصول إلى قمة التأثر والتأثيرْ ، والتفاخر بالقدرة على دقة التعبيرْ .
من أجل ذلك وُضِعتْ جائزة ( التفهم ) ، جائزة المليون ، حتى يقال إن التفهم يعطي صاحبَه المليون ، لكن الملايين الكثيرة لا يمكن لها على الإطلاق أن تقدم لصاحبها ( التفهم ) .
في محاضرة أخرى في عام / 1993 / كنتُ قد ارتشفت شيئاً ما من هذا الرحيق الذي يقدمه لنا الدكتور أسعد علي ، فحاولت أن أقتبس شيئاً من كلامه . . . في هذه المحاضرة التي كان موعدها الساعة الرابعة عصراً ، كان الجو عاصفاً وماطراً ، فكان الحضور قليلاً ، وتأخر أستاذنا الدكتور كثيراً ، فلجأت إلى الهاتف العام في الجامعة واتصلت به ، ولا يفوتني أن أنوه إلى أنه من عادة الأستاذ الدكتور أسعد علي أن يمتنع عن الحضور إلى الجامعة في شهر رمضان المبارك ، لأنه ينعزل فيه عن المجتمع الظاهر لينخرط في مجتمع الحقيقة ، وأظنه في تلك الخلوة يذهل عن اسمه وعن جسمه . . . وقد جرت العادة أن الدكتور قبل مجيئه إلى الجامعة يرسل ابن أخته حاملاً كتبه ، وهو شاب نبيه عليه أمارات الذكاء ؛ اسمه ( رمضان ) . . .
إذن اتصلت مع الأستاذ الدكتور أسعد علي فجرى بيننا على الهاتف الحوار التالي :
ـ يا دكتور لقد تأخرت علينا ونحن بانتظارك فهل ستأتي ؟ .
ـ هل جاء رمضان ؟
( إن غفلتي جعلتني أظن أن الدكتور أسعد علي متلهف على نشوته التي يصل إليها في شهر رمضان ، وأنه ظنَّ أن الشهر المبارك قد حلَّ لذلك فهو لن يأتي إلى الجامعة ، في حين هو يسألني عن ابن أخته ـ رمضان ـ الذي يحمل كتبه عادةً ) فقلت :
ـ لا يا سيدي ، باقي له ثلاثة أشهر ونصف .
تعجب الدكتور من هذا الجواب البليه ، فسأل بحدَّة : من الذي يتحدث ، فـذكرت له اسمي ، فازداد عجباً لأنه كان يظنني طالباً نبيهاً ، فكيف أجيبه اليوم بهذه البلاهة ، فأردف يقول :
ـ هل العدد في المدرج كبير .
فأحسستُ وكأنه يمتحنني بهذا السؤال ؛ ليتأكد هل زال عني وعيي تماماً ، أم أنني مازلت أملك نطفةً من عقل ، فأجبته بقولي :
ـ إن العدد من حيث ( الكم ) قليل ، ولكنه من حيث ( الكيف ) كبير . فقال :
ـ آه . . . جميل جداً هذا الكلام .
قال هذا ببطء شديد وكأن ما سمعَه قد أوحى له باختراع ما ، أو أبرق في ذهنه بفكرة ما . . . وهذه دوماً حال العظماء في العالم ، تنطلق اكتشافاتهم من ( كلمة وحي ) أو لحظة تأمل . . .
هرعت فوراً إلى زملائي ؛ أخبرهم أن الدكتور قادم ، وكان عددهم لا يتجاوز العشرين ؛ أذكر منهم ( سميَّة الأحدب ـ وعد محيي الدين ـ محمد خير جنادي ـ هديل عدنان مراد ـ محمد معاذ الزعبية . . . ) فكانوا بين مصدِّق اعتاد دوماً أن يستمع مني إلى أخبار الدكتور ( الصحيحة ) ، وغير مصدِّق اعتاد أن يرى المدرسين يتكاسلون عن الحضور إذا كان الوقت مساءً والجو ماطراً . . .
وما هي إلا أن جاءت سيارة يتلألأ بياضُها في أشعة الليل ، تقطر منها قطرات المطر الرمادية التي كانت تزيل ما علق بإطار السيارة من أوحال وغبار ، فذكَّرني منظرها بما يكتبه لنا الدكتور أسعد علي في كتبه الجامعية ( الإبداع والنقد ـ صناعة الكتابة ـ السبر الأدبي ـ فن الحياة ؛ فن الكتابة ـ روضات معرفة الله والقيم النقدية ؛ ومنه " حنان الماء على الغبار " ) من فقرات يشعر القارئ لها أنها تزيل الصدأ المتراكم عن نفسه وعن قلبه ، وأنها تجلو بصره ليرى ما لم يكن يراه ، وتتكشف أمامه ( أوحال المدسِّسين ) فيعود ( إن شاء ) صافياً نقياً ، أو يبقى ( إن لم يشأ العودة ) يتـيه في تلك الأوحال ، ويضيع في تلك الصحارى والقفار . . .
ترجَّل من السيارة الدكتور أسعد علي ، وتصادف أنه كان يرتدي ملابس بيضاء اللون وكان يسير على مهل ، فظهر من بعيد بسمته المهيب ، ومشيته الفصيحة ، وعندما اقترب منا ، أحنى رأسه قليلاً ثم وضع يده اليمنى على قلبه ، وهذه تحية قلبية خالصة قلَّ من يستخدمها في أيامنا هذه ، ثم أشار بيده اليسرى إلى السحاب الذي كان يهطل مطراً . . .
في هذه اللحظة قلت في نفسي : كم تمنيت لو كنت أعلم بأمر تلك المحاضرات القديمة التي كان يلقيها الدكتور أسعد علي في الجامعة اليسوعية في بيروت ، لذهبت للاستماع إليها وقد كنتُ آنذاك أحبو حبواً . . . وما زلت .
دخل الدكتور إلى المدرج الأول ، وجلس يتأمل وجوهنا المتناثرة ، ثم أشار لنا بيديه كي نتحدَّ ونجلسَ مجتمعين ، وكانت المحاضرة المقررة في مادة النقد العربي الحديث ، وهي إحدى مواد السنة الثالثة قي قسم اللغة العربية ، ثم قال :
اتصل بي زميلكم وصديقكم أنس ؛ وقال لي : العددُ قليلٌ من حيث الكم ؛ كبيرٌ جداً من حيث الكيف ، ففرحتُ جداً لأنَّ ناقداً أدبياً يخاطبني . . . هذا الكلام لا يقوله إلا ناقد أدبي يميز بين الكم والكيف ؛ بين الحشود غير المدربة وبين القلة القليلة المدربة . . . أن نميز بين الكم والكيف ، تلك هي قضية النقد ، كلُّ قضيتنا . . .
لو حشدنا مليون شخص في مطار فيه طائرة ؛ يُراد لهذه الطائرة أن تطير ، فإنهم يمكن أن يرفعوا الطائرة ، يمكن أن ينقلوا الطائرة إلى مكان ما ، يمكن أن يقسِّموا الطائرة إلى أجزاء وأشلاء ، لكنهم لن يطيروا بها ، ولو جئنا بياباني قزم ( مدرَّب ) على استخدام الطائرة ، لحملَنا بالطائرة جميعاً ؛ وحلَّق بنا فوق المحيطات والجبال ، لقد سألوني في البيت عندما رأوا أنني هممت بالذهاب إلى الجامعة ، أَمِن أجل عشرين طالباً ستذهب إلى الجامعة ، فقلت لهم : نعم ، إن كل طالب من هؤلاء يعادل عندي مائة طالب .
ثم تحدث عن الطبيب القاطن في أمريكا الذي أراد صيد السمك ، فجلس بين الصيادين ، وتعجب وهو يراهم يملؤون شِباكهم باستمرار في حين لا تعلق بسنَّارته سمكة واحدة ، حتى إن صياداً لم يُحضر معه سنَّارة ؛ بل إنه يحمل شوكة يمدُّها إلى البحر فَـيُخْرِجُ السمكة ، فاختلط معهم ليكتشف السبب ، فقالوا له " نحن لا نصطاد السمك بشكل عشوائي ؛ الذي يريد وزناً معيناً من السمك يأتي بحجم معين من الطعم ، والذي يريد صنفاً محدداً من السمك يأتي بنوع معين من الطعم " ، فنظر الطبيب إليهم وقال : لقد أعطاني هؤلاء ثروة لا تفنى ، ذلك أن كمية السمك مهما بلغت فإنها ستفسد بعد أيام ، أما الثروة الحقيقية فهي أن يتعلم المرء ( فن الصيد ) فيصطاد كل يوم سمكة . . .
كانت هذه المحاضرة أثيرة على نفسي ، حفظتها وما زلت أرددها سنيناً وسنينا .
* * *
عشرات الأمثلة تتنافر في مخيلتي ، وتتسابق إلى الوصول . . .
أيمكن أن أنسى أن الدكتور أسعد علي حين رأى نظراتي الثاقبة له ، وأحسَّ بتواصلي المتحفز مع كلماته ورغبتي الملحة جداً في تشرُّب معانيها ، ابتسم ونظر إلى الآخرين وقال : إن أحدكم متلهف جداً على معرفة الأسرار ، ومتشوق لدخول عالم جديد ، يريد أن يصير عِنباً قبل أن يكون حصرماً .
أكان قال ذلك لي لو كنت أجلس خلفاً .
* * *
في محاضرة أخرى أعطانا من رباعياته الشهيرة رباعية كان لي معها شأن ما :
حكومةُ الأدبِ
إنْ شِئْتَ فانتسبِ
بالقولِ ذي العجبِ
لأجودِ الكُتُبِ

أقول كان لي معها شأن ما لأنها مرتبطة بجملة أخرى طالما ردَّدها لنا الدكتور أسعد علي ، وأنقذتنا من الوقوع في كثير من المطبات ، ووفرت علينا الكثير الكثير من الوقت ، وهي : " لا تقرؤوا الكتب الجيدة ، اقرؤوا أجود الكتب " .
جرى نقاش في أثناء المحاضرة بين الطلاب ، قالت إحدى الطالبات ( خديجة الأطرش ) شيثاً ما عن العجب ، فقد ظنَّت أن العجب في هذه الرباعية مشتق من الإعجاب ، فقلتُ ليس هذا هو العجب المقصود ، فأيد كلامي الدكتور أسعد علي ؛ وقال : أبداً ليس ذاك . . .
ذلك أنني ربطتُ هذا بمحاضرة قبل هذه تحدث فيها عن مجلس الشعراء ، عندما اعتبر الأصمعيُّ أن أشعر بيت هو في وصف الذبابة . . . وقال لنا الدكتور أسعد علي : ( يا للعجب من أذواق بعض العرب ) ، هذا هو العجب المقصود ، القول ذو العجب كان يقصد به ما قيل في تلك المحاضرة . . .
طلب الدكتور أن نقرأ الرباعية ، وقد جرت العادة أن تُقرأ ثلاث مرات أو أربع قراءة نظرية ، ثم يسأل الدكتور مَنْ منكم يستطيع أن يقرأ الرباعية من الذاكرة ، ففاجأتُه أنني رفعتُ يدي في المرحلة الأولى مرحلةِ النظر ، وقرأتُها فوراً من الذاكرة ، فكان ردُّهُ على ذلك أن ابتسم بشدة وقال :
( أَنسٌ في الجامعةْ ، وأُنْسٌ في المطبعةْ ، وآَنَسٌ وإِنْسٌ في الآخرةْ إن شاء الله .)
رغم أنني مازلت لا أعرف ماذا قصد الدكتور من كلامه هذا إلا أنني أجزم أنه يرفعني بهذا مكاناً علياً .
فهل كنت سأرقى إلى ذلك لو لم أكن جالساً في المقعد الأول .
* * *
تظاهرتُ في إحدى المحاضرات التي كانت تجمع بين السنة الثانية بكتابها ( السبر الأدبي ) ، وبين السنة الثالثة بكتابها ( الإبداع والنقد ) ، تظاهرتُ أنني لا أجد في كتاب السبر الأدبي الصفحة التي كان الدكتور أسعد علي يدلنا عليها ، مستغلاً في ذلك أن الدكتور لا يعتمد رأي الأكثرية دوماً وأنه يميل للاستماع إلى الرأي ( الواحد ) ؛ لأنه يقول إن العبرة ليست بالكثرة ، وأن الصواب قد يأتي من طرف واحد ، فقلت للدكتور إن هذه الصفحة التي تدلنا عليها غير موجودة ، وكان حديثه عن كتاب السبر الأدبي ، في حين أنني كنت أحمل بيدي كتاب ( الإبداع والنقد ) ، فقال الطلاب بل إنها موجودة ، لكنه كان قد التفت إلي فلا يسمعُ من الطلاب شيئاً ، وكانت تجلس بجانبي السيدة ميسَّر العسلي وأدركتْ أنني إنما أقوم بالتمويه وأنني أعلم أن الدكتور يتحدث عن السبر الأدبي وليس عن الإبداع والنقد ، فنهرَتني بكلامها بقوة وطلبت مني ألا أتظاهر بهذا ، لكنني لم أنتهِ ، والذي شجعني أن الدكتور أسعد علي نادراً جداً ما يظهر عليه الغضب ، فهو دوماً بشوش متسامح صفوح ، فأتممت ( بشجاعة نادرة ) ما بدأتُ به . . .
قال لي الدكتور كيف لا توجد هذه الصفحة ، أرِني كتابك يا أنس ، فخرجت إليه أمشي على مهل ، لأنني خشيت إنْ أنا أسرعتُ الخطا أن أقع على الأرض ، ذلك أنني كنتُ أرتجف بشدة من هول هذه ( التمثيلية ) التي أقوم بها ، وضعت الكتاب كتابَ الإبداع والنقد على المنصة أمام الدكتور قالباً الكتاب بحيث لا يُرى العنوان ، وعلى وجهي تبدو علامات الدهشة والتعجب من هذا ( الخطأ المطبعي الفاضح ) ، وعدت فوراً إلى مكاني ، وأخذ الدكتور يقلِّب في صفحات كتاب الإبداع والنقد ظناً منه أن هذا هو كتاب السبر الأدبي ، فيجد في هذا رسومات تشبه الرسومات الموجودة في ذاك ، ( ذكَرك الله بالخير يا دكتور علي حمدان ، رسام الاتحاد العالمي للمؤلفين باللغة العربية ) ، وأصوات الطلاب في المقاعد الأولى الذين رؤوا غلاف الكتاب تـتصايح أن يا دكتور هذا ليس كتاب السبر الأدبي إنه الإبداع والنقد ، والدكتور لا يسمعهم لأنه منهمك في البحث لا يلوي على أحد ، فهو يقلِّب بدقة صفحات الكتاب بحثاً عن المطلوب ، وهو يقول كلمات متقطعة غير مفهومة المعنى : ( يبدو . . .. . . ربما . . .. . .. لعلَّه . . .. . .. معقول . . .. . . ) ، في حين أن السيدة ميسر العسلي تنظر إليَّ وهي تهزُّ برأسها غضباً مني على ما قمت به من تشويه وتضليل ، إلى أن تناهى إلى سمع الدكتور أحد الأصوات المتعالية التي تقول هذا ليس السبر الأدبي ، فرفع الدكتور رأسه ، ناظراً إلى القائل ؛ وأغلق الكتاب ؛ فـقرأ على الغلاف ( الإبداع والنقد ) ، فرمى بالكتاب نحوي بقوة شديدة ، حيث كنتُ جالساً في المقعد الأمامي ، ونظر إليَّ بغضب بسيط ، ثم عاد إلى الطلاب وقال بصوتٍ عالٍ : { غفَّلني المغفَّل }.
والشيء العجيب الذي حدث بعد ذلك في المحاضرة نفسها أن الدكتور كان يفتح على صفحة ليستشهد بما يقول فيجد أنها ليست هي الصفحة المطلوبة ، فقال : اليوم . . . يبدو أنه أنا والسيد أنس . . .
( يقصد أن غفلتي المصطنعة أو الحقيقية قد سَرَتْ أجزاء منها إليه ، وأنا ما أدري هل أنا واهم بهذا أم هو حقيقة ، وإن كانت كذلك فهل هي مدعاة للفخر أم للخجل والندم . )
ثم قال لي في المحاضرة أنت أستاذٌ اليوم ، لأنك تقود غقلتي . . .
ثم نظر إلي بابتسامة عريضة وقال : { يا عبقري الانتباه } . . .
أكان سيقول ذلك لو كنت لا أجلس في المقعد الأول ؟ ‍‍‌‍
أكان سينتبه إلى انتباهي لو لـم أكُ أمامه ؟‍ .
* * *
خرجنا من المحاضرة وركب الدكتور في السيارة ، وكنت لا أحب أن أقف لأودعه مع الطلاب ؛ بل كنت أنظر إلى الخط الذي ستسير به السيارة فأذهب به ؛ ثم أنتظر من بعيد وصول السيارة طمعاً مني بكلمة يقولها لي وحدي ، فانتهى الدكتور من توديع الطلاب ، وسارت السيارة ليجدني أقف وحيداً منتظراً ، فمدَّ رأسه من السيارة بشدة ، وقال لي بصوت عالٍ : أنت أستاذٌ اليوم .
أكنتُ سأصبح ( أستاذاً ) لو لم أجلس في المقعد الأول .
* * *
ألا تساوي هذه اللحظات النفسية الممتعة ، وتلك المواقف البراقة المتميزة ، ملايين الليرات السورية ؟ ! . . .
أليست جميعها ( جوائز تفهم ) .
وكما أسلفت إن التفهم يعطي صاحبَه المليون ، لكن الملايين الكثيرة لا يمكن لها على الإطلاق أن تقدم لصاحبها ( التفهم ) .
أيمكن لأحدنا مهما بلغ ما يملكه أن يشتري بماله لحظة من لحظات الغمر ، أو ساعة من ساعات الصفاء ، إنها بضاعة نادرة جداً لا تُعطى مقابل المال ، بل تُمنح مجاناً لمن يستحقها ويقدِّرها ، ولا تصل إلى يد من لا يفقهها ، حقاً إن الأرزاق مقسَّمة بين الناس .
* * *
أعرفتِ ؛ أعرفتَ ؛ أعرفتم . . . أعرفتم لماذا كنتُ أحرص بشدة على الجلوس في المقعد الأول ، أتريدون بعد أسباباً أخرى لجلوسي في المقعد الأول ، أم اكتفيتم واقتنعتم ، كنتُ أحصد من وراء المقعد الأمامي الملايين .
إن المليون الحقيقي هو الذي لا يفنى ، هو الخِرج الذي تمدُّ إليه يدك فتأخـذ منه كل يوم مالاً يكفيك ويغنيك ولا ينفد ماله أبدا ، إن المليون الحقيقي هو أن نـتعلم ( التفهم ) ، هو أن نمتلك ( فن الصيد ) .
مليون ليرة سورية ينفقها المرء هنا وهناك ، تنتهي كأنها لم تكن ، لكنَّ فهماً ووعياً يـبقيا مع المرء طول العمر ملايين كثيرة .
من هنا فإنني سأبحث عن عنوان الرباعية بكلمة واحدة من أجل الوصول إلى ( التفهم ) واقتناء الملايين ، لا من أجل الحصول على المليون الواحد ، ولكن . . .
عندما كان اكتشاف العناوين والأفكار والجمل والكلمات ( مجانياً ) كنت أفلح في هذا ، وكنت أشعر أنني أملك طاقة كبرى تدفعني دفعاً قوياً لاكتشاف المزيد مهما كان صعباً ، ذلك أن جائزة التفهم كانت في ذلك الوقت كلمة استحسان كبيرة أو تشجيعاً مثيراً ، أما اليوم وقـد غدت جائزة التفهم مليون ليرة سورية ، فما أظن أنني سأفلح في اكتشافها ، لأن الرغبة الكبرى في الوصول إلى التفهم لا تكون هنا رغبة صافية نقية ، فقد مُزجت بما يعكِّر صفوها .
( ما أمتعني اليوم عندما أخاطب أحدَهم ، فيقول لي إنني أشتم رائحة الدكتور أسعد علي في كلامك ، أو يقول لي آخر : إن في كلامك روح الدكتور أسعد علي ) .
أما بعد :
منذ عشر سنوات كنت أحضر محاضرة للأستاذ الدكتور أسعد علي يلقيها على طلاب السنة الثانية في جامعة دمشق ؛ كلية الآداب ؛ قسم اللغة العربية ؛ في القاعة الخامسة ؛ . . . وبدأها بكلمة ( بسم الله الفتَّاح الذي يفتح علينا إلى آخر الكلام . . . ) وكنتُ أتـتبع كلامه بشغف معتاد وولع متواصل ، حتى إذ ما وصل إلى عمر بن الفارض ، وقال إن خمرية ابن الفارض هي أعظم قصيدة وصف في الأدب العربي وأخذ يتلو بعضاً من أشعارها بلهجة جهورية فخمة للغاية ، أحسستُ أن حواسي قد تجَّمعت وأوصالي قد تفتحت ، وسرى في جسدي تيار عنيف أخذ يهزني هزَّاً متواصلاً ، إلى أن وصل الكلام إلى الأبيات :
يقولون لي صِفها . . . . . . .
عليك بها صِرفاً وإن شئتَ مزجَها فعَدلُك عن ظَلمِ الحبيبِ هو الظُّلمِ
. . .
عند ذاك أخذت أنظر إلى ( نفسي ) ، وهذا لا يليق طبعاً ؛ لكن نفسي أغرتني أن أستوحي معاني تلك المحاضرة ليدخل هاؤها النقي إلى صدري ، ويملأُ ماؤها العذب رئتي ، وأتعانق معها لتندمج معي في حياتي الشخصية والعائلية . . . وصرت كلما يسألني أحد من هو هذا الإنسان ( الدكتور أسعد علي ) الذي ما فتئت تذكُرُه صباح مساء ، وتتهافت على كتبه ومحاضراته ، هلاَّ وصفته لنا ، أجيـبه ببيت عمر ابن الفارض الذي سمعته في تلك المحاضرة ، فأقول :
يقولونَ لي : صِفْهَا ؛ فأنتَ بوَصفها
صفاءٌ ولا ماءٌ ، ولُطْفٌ ولا هَواً
خبيرٌ ، أَجَلْ عِندي بأوصافها عِلمُ
ونورٌ ولا نارٌ ، وروحٌ ولا جِسْمٌ

وأؤكد بقولي ( هذا هو الدكتور أسعد علي ) .
ما أطربني اليوم ، وما أشد بهجتي وأروع سعادتي إذ تمكنت بفضل الله أن أجسِّد هذه الروح التي تملكتني من تلك المحاضرة عملياً ؛ نعم لقد حصل ما لم يكن متوقعاً ، وهو أبعد بكثير مما كنت أطمح إليه ، فكيف تكون حالي اليوم إن أنا وصلت إلى هذا ، و( أعوذ بالله من كلمة أنا ؛ إنها مصدر الأنانية ) .
اليوم ؛ وبعد تلك السنوات الطوال من التتبع والترقب حصل ما لا أستطيع أن أصفه . . .
بعد انتظار طويل وترقب مرير وصير جميل اقتنعت مديرية الثقافة في ريف دمشق متمثلة بالآنسة النشيطة سوسن رجب رئيسة المركز الثقافي العربي في بـبيلا بإقامة محاضرة تحمل عنوان ( الشعر الصوفي والخمرة الإلهية ) ، ولا يخفى ما يحمل هذا العنوان من إشارات قد تحمل بعض أولي الأمر على توخي الحذر و( إخلاء المسؤولية ) ، وكان لا بد من المغامرة ، ووافقت مديرة المركز المذكورة مشكورة على تحمل المسؤولية ، وتحدد موعد المحاضرة يوم الثلاثاء 27 / 2 / 2007 ، وبدأت بتطبيق التاءات الخمس ؛ تحديد الموضوع ؛ التقصي ؛ التخير ؛ التمثل ؛ التعبير ؛ وشرعت بالانغماس في كتب الصوفية ، والخوض مع كل من حولي في ( الشيخ الأكبر وجلال الدين الرومي والمولوية وسعدي شيرازي ومحمد إقبال والمنـتجب العاني وجبران خليل جبران والمكزون السنجاري وفن الحياة فن الكتابة والسبر الأدبي . . . ) وأخذت أعدُّ العدة لأهيئ ( جو ) المركز لتلقي محاضرة كهذه ، فجئت قبل المحاضرة بساعات وبدأت بتعليق صور النشوة الإلهية التي تطهر آيات الله في خلقه ، وألصقت الأبيات الشعرية الصوفية على الجدران ، وأشعلت البخور في القاعة اقتداء بقول حافظ شيرازي :
وأشعِل بخورَكَ فوق اللهيبْ ودعني ، بطِيبِكَ رأسي تَطيبْ
واتفقت مع أحد الأشخاص على أن يـبدأ قبل المحاضرة بإلباسي ( عباءة ) تناسب موضوع المحاضرة ، أفعل هذا كله وفي خاطري بشكل متواصل هيئة وهيـبة الأستاذ الدكتور أسعد علي ، بعباءته السكرية اللون التي يرتديها عندما يكون الموضوع يتطلب هذا ) ( ولقد أعلمت الدكتور علي حمدان أنني سأفعل كل هذا . . . )
بدأت المحاضرة وظننت نفسي قادراً على أن أحذو حذو أستاذي الدكتور أسعد علي ، فأرفع يدي بالكتاب المشار إليه لأعرضه على الجمهور ، وأقف ، عندما يحين الوقوف ، و( ألتف ) عندما يتطلب الأمر التفافاً ، أقرأ أبيات ابن الفارض . . . وفي ذهني صورة الدكتور أسعد علي ـ أطال الله عمره وأمده بالصحة والعافية والقوة ـ عندما كان يقرأ تلك الأبيات منذ عشر سنوات ، ولا أدري هل نِلتُ شيئاً من التوفيق .
ما أشد سروري عندما أتحفني وأفرحني وأكرمني الشيخ الكريم ( فرحات الكسم ) الذي كان حاضراً المحاضرة ، وأنا ألتقيه للمرة الأولى إذ قام بعد المحاضرة وقال كلاماً جميلاً جداً ضمَّنه جملة أذهلتني ، قال : ( طالما أن المحاضر قد وصل إلى الدكتور أسعد علي ، فهذا حسبه وهو بألف خير . . . ) .
ثم بعد المحاضرة بساعات أرسل لي رسالة على ( الموبايل ) تقول :
أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالَمُ الأكبرُ
كل هذا الذي رويته لا شيء أمام ما سمعته من الأستاذ الدكتور أسعد علي عندما اتصلت به في الليلة ذاتها ؛ فتكرم عليَّ بالحديث السخي وقال : ما هذه الأخبار التي نسمعها ، فقلت له : هذا الشيخ فرحات سمع جملاً من كتابكم السير الأدبي ؛ فبهرته أضواؤها ، فقال : لا إن الشيخ فرحات بطبيعته رجل مبهر وشخصية مضيئة ، وهو مرشَّح لنيل شهادة الدكتوراة الإبداعية ؛ وإن لقَبَه منذ الآن ( الدكتور فرحات الكسم ) ثم قال إن الدكتور فرحات اتصل به وقال له لقد ذهبت محاضرة الشعر الصوفي والخمرة الإلهية لأتذوق طعمها ، فرأيت الدكتور أسعد علي ، فقال له الدكتور أسعد علي ، وما الفرق إن الدكتور أسعد علي هو الخمرة الإلهية . . .
فأية متعة تلك التي يمكن أن تسبق هذه المتعة . . . وأية نشوة تطير بصاحبها بجناحين من فخر وزهو أعلى من هذا .
فيا دكتور فرحات لا تنسب إليّ سيئاً ، طالما أنك تقول أنك رأيت مولانا الدكتور أسعد علي في هذه المحاضرة ؛ فأرجوك لا تقل إن ( أنس تللو ) قد ألقى محاضرة جميلة أو بديعة أو ماشابه ذلك الكلام ، بل قل إن الشجرة الباسقة السامقة التي وصلت أغصانها وثمارها إلى القارة الأمريكية ، شجرة الخيرات الكبرى التي ينـثرها مجاناً الدكتور أسعد علي ، قد وجدنا ذرة منها في المركز الثقافي العربي في بـبيلا ، فلقد فنيت إرادتي في كلام وأسلوب الدكتور أسعد علي كما يفنى ضوء الشمعة الصغيرة في ثنايا وحنايا وخفايا وخبايا أشعة الشمس الكبرى .
لقد أحسست ( ليس بإحساسي أنا هذه المرة ، لأنني بإحساسي أحس أنني ذلك الطفل الذي يحبو ، ليلتقط الكلمة من هنا والجملة من هناك ) أحسست بإحساس الدكتور فرحات أنني قد تعلمت من أستاذي الكريم الدكتور أسعد علي ما يمكن أن أسميه { عبق الارتقاء في فن الإلقاء } ، أو ( ألق الارتقاء في الصعود إلى السماء ) ، أو ( سعادة اللقاء في فن الإلقاء ) . . .
وحسبي أن أتواصل لأحافظ على هذا ، أو ليس كلام الحكماء دواء . . .

دمشق : الأحد 18 / 3 / 2007 م أنس تللو