القدس والأقصى
بين المزاعم الصهيونية وحقائق الدين والتاريخ والواقع*
مصطفى إنشاصي
في ظل ازدياد وتصاعد وتيرة سياسة العدو الصهيوني التي يمارسها بصورة ممنهجة ومنظمة لاغتصاب أراضي القدس المحتلة عام 1967، والإسراع في استكمال تهويد المدينة المقدسة، وتغيير معالمها تاريخياً ودينياً وثقافياً وجغرافياً وسكانياً وحضارياً، لضمها للأراضي المحتلة عام 1948، واحتدام المعركة حول مستقبلها ومصيرها، وبعد أن وصلت الحفريات التي يقوم بها العدو الصهيوني تحت المسجد الأقصى مرحلة خطيرة جداً تهدد المسجد الأقصى بالانهيار، حيث أنها وصلت إلى منتصف صحن المسجد الأقصى، أي ما يسمى (قلب مدينة داود) كما يدعي اليهود، وأنها أصبحت تشكل خطراً على أساسات المسجد الأقصى لم يسبق له مثيل من قبل، بهدف تدمير المسجد الأقصى وإعادة بناء ما يسمونه (الهيكل الثالث) مكانه، الذي تعمل من أجل إعادة بنائه ما يقارب ثلاثة آلاف وخمسمائة جمعية ومنظمة يهودية ونصرانية بروتستانتية في الولايات المتحدة التوراتية، تنشط في جمع الأموال من أجل بناء (الهيكل). وأن تصميم العرش (الهيكل) الذي سيوضع داخله قد تم الانتهاء من إعدادهماً ووصلا إلى كيان العدو الصهيوني، بانتظار هدم المسجد الأقصى وإعادة بناء (الهيكل). كما أنه أعلن منذ فترة قريبة أن سلطات الاحتلال الصهيوني قد اتخذت قرار ببناء ما يزعمون أنه (الهيكل الثالث) في وسط ساحة المسجد الأقصى، المساحة التي تفصل بين المسجد القبلي الكبير ومسجد قبة الصخرة، باتجاه شرقي غربي.
وبعد أن أعلن العدو الصهيوني عن عزمه إفراغ المدينة المقدسة من أهلها، وتحويلهم إلى أقلية لا تزيد عن 12% من سكانها، وبدأ سياسة هدم المنازل التي تشمل أحياء بكاملها ولم تعد هدم منزل هنا أو منزل هناك، وقد تجاوز عدد البيوت التي تم إبلاغ ساكنيها بالهدم وهُدم عدد منها فجأة دون أن يتمكن أصحابها من أخذ أي شيء منها الـ1700 منزل، ما يعني تشريد 17000 ألف نسمة من القدس، كبداية لمخطط خفض السكان الفلسطينيين فيها عام 2020 إلى 12% فقط. أضف إلى ذلك محاولات الاقتحام المتكررة لساحات المسجد الأقصى المبارك والحفريات تحته، ومصادقة الاحتلال على إقامة مركز لشرطة الاحتلال في ساحة حائط البراق على مساحة 140 متراً مربع، كخطوة متقدمة لاستهداف المسجد الأقصى المبارك. أي أن إقامته توحي بأن العدو الصهيوني يخطط لاعتداء كبير يستهدف المسجد الأقصى ومدينة القدس. وآخر تلك السياسات رصد العدو الصهيوني مبلغ (600 مليون شيكل) لتغيير معالم القدس وتهويدها، علماً أن المدينة المقدسة من الناحية الفعلية والعملية قد تم اغتصاب معظمها وضمها إلى القدس المحتلة عام 1948.
زد على ذلك ما كشف عنه الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر الفلسطيني 1948، عن مخطط صهيوني لإقامة سكة قطار صغير ومصعد للسائحين الأجانب أسفل ساحة البراق في المسجد الأقصى، بعد حصول جهات صهيونية على موافقة إقامته في مدينة القدس، والمخطط يهدف لتغيير معالم القدس بالكامل. بالإضافة لحديثه عن هدم جزء من المسجد الأقصى, المتمثل بطريق باب المغاربة لبناء سلسلة كنس يهودية تخنق المسجد الأقصى من جميع الجهات. كل ذلك تنفيذاً لمشروع ما يسمونه (الحوض المقدس) وإعادة بناء ما يزعمون أنه (مدينة داود).
(أولاً) دواعي ومبررات اختيار الموضوع:
وفي ظل العلو والإفساد الإسرائيلي اليوم في الأرض ـ فلسطين ـ وإصرار العدو الصهيوني على هدم المسجد الأقصى بكل ما يمثله من أهمية ومكانة دينية وتاريخية في عقيدة ووجدان الأمة الإسلامية، وذلك بتكثيف الحفريات تحت أساساته بحجج وذرائع واهية، ومحاولات من يُسَمون (متدينين ومتطرفين يهود) هدم المسجد الأقصى، بدعوى أنه يقوم مكان (هيكل) سليمانu بحسب زعمهم، ذلك (الهيكل) الذي حولوه إلى رمز لسيادتهم العالمية، ومقراً لمسيحهم المنتظر، الذي سيحكم العالم عند مجيئه آخر الزمان. في ظل هذا الوضع وتلك السياسة الصهيونية التي تكاد تشكل معها تلك المخططات معركة العدو الصهيوني الأخيرة لحسم مستقبل المدينة المقدسة، والسيادة عليها؛ مستفيدين من حالة الانقسام الفلسطيني وانشغال الفلسطينيين بالصراع الداخلي على وهم سلطة تحت الاحتلال، ومستفيدين من حالة التمزق والتردي والضعف العربي والتبعية المنقطعة النظير للغرب، والاستسلام لمخططاته ضد الأمة والوطن، في ظل هذا الوضع العربي والفلسطيني والخطر الصهيوني المحدق بالمدينة المقدسة والمسجد الأقصى؛ قرع كثير من علماء الأُمة ومفكريها والحريصين من أبنائها على مستقبل الأُمة والمسجد الأقصى ناقوس الخطر الذي يُهدد مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى، مستحثين الأُمة للنهوض دفاعاً عن قدسها وأقصاها كلٌ على قدر استطاعته، بعد أن أصبح الخطر والشر الذي يهدد مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى غير خافي على أحد، ودخل في مراحله الأخيرة.
استجابة لتلك الدعوة؛ وضعنا هذه الدراسة كمشاركة متواضعة منا في الدفاع عن مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى.
(ثانياً) الهدف من الدراسة:
تهدف الدراسة إلى تحقيق مجموعة من الغايات والأغراض والأهداف التي نرى أنها تهم مستقبل الأمة في صراعها مع العدو الصهيوني، ولها علاقة وطيدة بأبعاد ذلك الصراع الذي مركزه وهدفه الرئيس هو المسجد الأقصى. ومنها:
1 ـ محاولة كشف زيف المزاعم اليهودية الصهيونية الكاذبة عن حقهم في مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى، ودفع الشبهات اليهودية الصهيونية وردها عليهم، من خلال كتبهم ومراجعهم الدينية الأصلية، التي يعتمدونها في تبرير مزاعمهم تلك.
2 ـ إبراز أهمية ومكانة مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى عند جميع أتباع الرسالات السماوية (الأديان الحالية: اليهودية والنصرانية)، وأن الحق فيها هو لنا نحن المسلمون وليس لأحد غيرنا، وذلك ما تؤكده كتبهم الدينية المحرفة التي بين أيديهم الآن (التوراة والأناجيل).
3 ـ إثبات أن النبوءات الواردة في التوراة اليهودية المحرفة والأناجيل النصرانية المحرفة أيضاً تؤكد قراءتها الموضوعية المجردة من أي تأويل سابق أو موقف ديني أو سياسي، أنها جميعها لا تخص اليهود ولا النصارى ولكنها تُبشر ببعثة محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن المسجد الأقصى لن يكون مقر للعرش ورمزاً للسيادة العالمية اليهودية، ولكنه سيكون مقر للخلافة ودولة العدل والإنصاف وحرية العبادة لجميع البشر.
* الدراسات السابقة: قد تناولت دراسات سابقة عربية وأجنبية مباحث هذه الدراسة ضمن موضوعاتها، إلا أنها إن لم يكن كلها فمعظمها سواء كان كتابها علمانيين أو إسلاميين، للأسف الشديد، وقعوا في أخطاء عظيمة وقاتلة، عندما نقلوا عن التوراة والأناجيل المحرفة دون تدقيق أو تمحيص أو نقد لرواياتها، فخلطوا كثير من المفاهيم والمصطلحات في كتبهم، بما يخدم في النهاية الأهداف والغايات التوراتية، ومخططات أعداء الأمة من اليهود والنصارى. أضف إلى ذلك أنها كانت في معظمها كتابات غير مرتبة أو مُعدة إعداداً يمكن أن يُقدم رؤية صحيحة نقية ونقدية وخالية من أي تشويه للقارئ عن حقيقة وأبعاد الصراع، وعن أصحاب الحق والورثة الشرعيين تاريخياً ودينياً لكل ما له علاقة بتلك الأبعاد
والأخطر من ذلك كله، الذي يمكن أن يُعتبر جريمة إن لم يكن فيه إثم شرعي كبير، ذلك الكم الهائل من روايات التوراة المُحرفة وما تضمنته من تناقضات، ووضاعة خُلق، وركاكة في التعبير، وخرافات وأساطير ...إلخ، التي يستشهد بها الكتاب وينقلونها كما هي بما فيها من إساءات للذات الإلهية، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، وما فيها من إساءات وتشهير وتشويه يعف اللسان عن ذكرها لمكانة وخلق ونزاهة أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
لذلك آثرنا في هذه الدراسة تقديم رؤية شبه متكاملة وواضحة المعالم قدر المستطاع حول القضية المركزية في الصراع العربي ـ الصهيوني "مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى". تكون تنقية من تلك الروايات التوراتية والأساطير والخرافات ومن كل ما فيه إساءة إلى الله تعالى وأنبيائه ورسله عليهم جميعاً الصلاة السلام، التي استشهدت بها الدراسات والكتابات السابقة، واستبعدنا ما حشدته تلك الكتابات من تناقضات، من خلال نقدنا وتمحيصنا لكل معلومة نقلناها أو أضفناها. كما أننا أضفنا ما سقط سهواً أو عمداً أو ذُكر عرضاً ولم يُعطى حقه من الدراسة والبحث من أحداث أو معلومات تاريخية في الكتابات والدراسات السابقة، أو ما لم تتعرض له أو تتناوله تلك الدراسات، أو مما استجد بعدها من أحداث أو مكتشفات تاريخية أو أثرية لها علاقة بموضوعات الدراسة وأبعاد الصراع، كما أننا آثرنا ترتيب المباحث بشكل تاريخي وديني يخدم الهدف والغاية من الدراسة وتقديم الرؤية لأبعاد الصراع، من خلال تقديم قراءة جديدة لنبوءات التوراة المُحرفة، وحقيقة (الهيكل) المزعوم في الكتب السماوية وعلم الآثار.


* المادة التي سأنشرها هي ثلاثة أبحاث مُحكمة نُشرت في مجلة شئون العصر اليمنية التي تصدر عن المركز اليمني للدراسات الإستراتيجية، في ثلاثة أعداء الأول منها نُشر في عام 2004، وهي في الأصل كانت فكرةمختصرة ضمن دراسة سابقة وضعتها عام 1985 هي والجزء الآخر نُشر بعضه في مجلة مُحكمة أخرى ولكن سأؤجل نشره.