الخروج من الشرنقة...
أحكمت خناقها على جسده المنهك... بدأ تنفسه يتصاعد ويقصر مداه...يشعر أنه سيموت بعد قليل...
مازال يدفعها بكلتا يديه.. لا يريد الاستسلام أبدا, يحاول تمزيقها بقوة لهفته لاستمرار حياته...نعم من المؤسف أن يموت الان.
لقد ضاقت عليه تلك الشرنقة مؤخرا ...يخشى أن تخور قواه فجأة ...يراوح بين قدميه ويتكئ على الأخرى ويعيد المحاولة من جديد...
يحاول الاستراحة بين الفينة والفينة لئلا ينتهي الأوكسجين فيها.. فقد باتت رائحة الهواء فيها مقززة.
مازالت تستعصي عليه , ويزداد جدارها صلابة...إنه يقرضها بأسنانه.. يجب أن يعيش, نعم يجب أن يعيش.
يبحث عن نقاط ضعف في جدارها ليقضم أكثر...فينفد للخارج...
هل كل الشرانق هكذا؟, كيف صار فيها أصلا؟!!!,سؤال لا جواب له, لقد تأخر في اتخاذ قرار الهجوم والخروج...
انفرج ثقب فيها فجأة من غير توقع...أصابه الذهول.. هل حقا سأرى السماء والشمس من جديد؟...
عندما انفرجت عنه قليلا وهومازال يتمتم بأدعية حفظها منذ صغره....يسجد ويتمتم...يكرر ويعيد ما كان في الذاكرة.. ينبش فيها عله يجد تعويذة أقوى مفعولا...
تنفرج أكثر...يسجد.. يتضرع بحسنات أعماله...يعيد الكرة.. يسقط من رباعيته سناّ!! , يصرخ ألما...
يمسكه بكلتا يديه حزينا.. يضعه في جيبه..
-سوف يعيد سنه لمكانه عندما تتحسن الظروف...يحاول تكسير جدارها بأظافره.. يتكسر شيئا منها...
يرفس بقدميه ما تبقى من عزم له حتى تنفرج الفرجة أكثر.. يتذكر والده عندما هجر الناس قائلا:

-كلنا غرباء في هذا المكان...لكننا سنعيش.. سنعيش بطريقة ما...
لقد خربوا مكان معيشتهم و ما عرفوا كيف يبنون البلاد كما يجب , عاشوا على ما تبقى لهم من خيرات ونسوا كيف كانوا يرفعون منتوجها قديما ...لقد كان طرأ عيب في تفكيرهم ما استطاعوا إصلاحه أبدا...لقد تراجعوا حتى باتوا يتهمون العالم في ذلك.
إن المكابرة على العيوب كمن تأقلم على الظمأ طويلا...هل سيطيب له العيش وهل سيعيش سويا؟, وهل سيعمل دماغه بجدوى؟.
أي مكان هذا الذي كان يذكره والدي؟.. مؤكد ليست تلك الشرنقة ,فقد كان عالمه أوسع وأجمل.. كيف أفاق فجأة ليجد نفسه هنا؟.
يجلس متربعا يبكي حزينا لما آل إليه أمره, يخشى أن تكون قواه قد خارت...يتساءل محتارا:
-كيف وصلت لهذه لمرحلة الحرجة ؟, من نسج شرنقتي؟, من وضعني فيها؟, كيف حصل وأنا حي؟...
كف حصل وعيناي مفتحتان؟.
تخونه الذاكرة فهو لا يتذكر فعلا كيف حصل ...تقفز لذاكرته عبارة والده:
-كل ذنب يذنبه ابن آدم ويقترفه ينسج خيطا في مشنقته...
هل هذه هي المشنقة إذن؟.. هي لا تحاصر رقبتي؟!!..هي تحاصرني جميعا..

ينهض من جديد...تزداد الفرجة اتساعا ...يحاول الخروج...ومرارا.. وتكرارا...ينجح رويدا رويدا ..
لكنها تشد على خاصرته قليلا ...يدفع جسده بكلتا يديه فينقذف خارجا ويرتمي على الأرض...ينظر خلفه فيراها مكسرة ممزقة.
-أين أنا؟
جميل أن ينقذ المرء نفسه بنفسه...فرب منقذ هو في واقع الأمر غير منقذ...
يشتم رائحة حريق بائت...خطوات ترج الأرض تحت وطأتها وتهتز...ينظر حوله فلا يرى آدميين...
يفاجئه رأس مقطوع يمشي وحده.. يبتسم له ويمضي...
يتلفت فزعا.. ما هذا؟.
.فيراه يمضي دون أن يلتفت...أيادي تمشي وحدها...بعينين مزورتين...تنظر إليه ضاحكة وتمضي...
وقلوب تنزف دما على قارعة الطريق...قد تحررت الأعضاء منها...وطريق يغوص فيه ما به من قرار...
فيحاول المرور فيه بحذر...
يركض فزعا عندما تبدأ الرؤوس بلحاقه...تصرخ تنادي:
-مازال حيا...
يركض نحو اللا شيء...مازالت الجبال قائمة على أصولها...يركض نحوها...يتسلق صخورها بعيدا عن هجوم الرؤوس المقطوعة...تلحقها الأطراف صارخة:
-مازال حيا...
يقع مرات وتقرضه أسنانها....يحاول الفرار بنفسه.. متسائلا:
-ما هذا الذي أراه؟, هل هذه بلادي فعلا؟.
يرددون:
-مازال حيا...
يبكي.. يكاد ينهار...تمنى لو رأى ظل أحد يعرفه من قريب.. فيضمه كما كان.. يشكو له حاله, يقول له كلمة رفق واحد...
يدخل كهفا وقد أدمته كثرة الهجوم...يهدأ عندما يضع صخرة في فوهة الكهف...فيسده.
يتذكر كلمة والده:
-السكون موت...
ينظر حوله فزعا.. لا يرى شيئا سوى كائنات ميتة...في الأرض...
إلى من يلجأ؟, أليس الله هو الله؟...ينظر إلى الأعلى...يتدلى فوق رأسه العنكبوت...
يحاول النوم... فهو منهك حتى الثمالة , فلا يستطيع ,تتشكل خيوط رقيقة حول رقبته...يدفعها بعيدا عنه.. لكنها تتشكل رغما عنه.. كغزل البنات الطفولي , بلا لون و لا رائحة .. لا بل كخيوط عنكبوتي تريد إعدامه.
يشعر بالجوع يحرق معدته...تصطدم بصخرة الكهف أصوات هوجاء...ترجه , تنادي..
-مازال حيا...
يخرج القرآن من جوفه مرتلا...كان قد حفظه صغيرا...
أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..
يتخذها تعويذة...يكررها...يشعر بالراحة...ينام...ليستفيق على صوت نقر تقوم بها يداه ليخرج من شرنقته من جديد...
ريمه الخاني 29-5-2014
نشرت لأول مرة في موقع ديفيان آرت الغربي مترجمة ومجلة فكر الخليجية.