تحدّثي عنّي يا شهرزاد، فأنا الحكاية..
أذكر أمي وأغنياتها المخنوقة، تطوي قنباز أبي المقصّب عند عودته قبيل كلّ مساء، وتسجّيه برفق فوق صندوق خشبي محدّب، كأنه قطعة من حكاياتك.

ثم تغسل حطتّه البيضاء الحريرية، وتبقى واقفةً على عتبة باب الدار تنفضها في وجه الريح حتى تجّف، تعلقُّها على المسمار، فتنصبّ برّاقةً مثل شفرة سيف مسرور.
يجلس والدي على حجر أسود عريض، مزروع منذ قرون في مكانه خارج باب الدار، يصفق بيديه، فتهبط رفوف حمامِ، تملأ ألوانها الزاهية الساحة الترابية، ينثرُ حبوب الذرة، فيبدأ صراعُ حميم بين الطيور الأليفة، ويضّج الفضاء بصوت الهديل.
كان القيد ثقيلاً يا شهرزاد.
كأنني ثور «أبو حسن» الذي جنَّ فجأة، وراح يطعن بقرنيه كل عابر سبيل، يومذاك شدّوا قوائمه بقيد واحد، أربعة أساور من حديد، تجمعها جنازير قصيرة.
وأنا هنا، مطويّ على صندوق أمي المحدّب، أطرافي الأربعة تتوجّع، وتبصقُ دماً وصديداً، لكنني بقيت صاحياً، لم أنم، وعندما شقَّ صوت المؤذن حلكة العتمة، يفسح الطريق أمام زحف فجر جديد، أدركتُ أن الشمس ستستبيح بأشعتها الصفراء الساحات والدور والبيادر كما في كلِّ صباح.
صوته يضرب أذنيّ في اللحظات الحالكات.
- البكا للنسوان يابا.
كنت أحمل بارودة، أعلّق على ماسورتها صبوتي.. اليوم أحملُ قيدي.
عيناه الزرقاوان الغائرتان، وفمُه الصغير الصارم الخالي من الشفتين كأنه يرجوني، يقسم عليّ لو أقول آهِ واحدة، ليخلصّني من العذاب.
كيف أعطيه تلك المتعة، وذلك النصر.؟
كان القيد ثقيلاً يا شهرزاد.
عندما أطلّ مدير السجون والمعتقلات، حملوني رفاقي فوق أكتافهم، رفعت يدي، وصرخت: - صامدون حتى سقوط المشروع الصهيوني.
كان القيد بانتظاري يا شهرزاد.
اخرجي يا شهرزاد من صمتك الأبدي، وتحدّثي عنّي، فأنا الحكاية..تسع وتسعين ليلةً، يا شهرزاد، وأنا مطويّ مثل قنباز أبي، في زنزانة تكاد تتسّع لكتفيّ.
همس لي حارس الزنزانة: - زيارة لك.
فجأة فُتح الباب السميك، فأرسل صريراً كثيفاً، كان الضوءُ مبهراً، فأطبقتُ جفنَيّ، جلستُ أمامه، أكاد لا أرى منه غير بزّته المبرقعة، وطيف ابتسامة تتعلّق وجنتيه المتوردتين، وشاربه الغزير: - سأسمح لك بزيارة.
سكتَ قليلاً وكأنه ينتظر فرحي، ثم تابع: - إذا صرت «آدمي» ووقّعت على صكّ «غفران» أعدك بتكرار ذلك، وأكثر.
بعد ثلاث عشرة سنة، تزورني أمي.. هل تفرحين يا شهرزاد.؟
حين تسرّب اسمي بين جداول المعتقلين، ردّتني الحياةُ إلى أمي، نَزَفَتْ فرحَتَها على عتبات مراكز الصليب الأحمر، وضباط الأمن، وحصلت على تصريح زيارة.
تحسستُ أطرافي ورأسي، وجدتُ أنني ما زلت، ورأيت أنه ما زال أيضاً، والمعركة مفتوحة.
كنتُ مطويّاّ مثل الحلم الموشّى بالقصب، لكنني جاهدت ووقفت، خطوت خطوتين في طريقي إلى الباب، صوتي ينزلق فوق لساني، صلباً كأنني أبدأُ الآن: - أمي ماتت من زمان.
أبي يربّت على كتفي ويتمتم: - البكا للنسوان يابا.
وقبل أن أغيب وراء الباب.. ركض ورائي صوته المعبأَ بالشك والدهشة:
- آمنة بنت صايل الزينات.؟
تريثت لحظة، حاولت رفع قامتي قدر ما أستطيع، وحرصت على أن يصل صوتي نقياً لا تخالطُه قطرات من عبرات، أحسست بطعمها المالح يجرح حلقي.
- آمنة بنت صايل الزينات.. أمي، ماتت من زمان.
يلوح لي قنباز أبي المقصّب من نافذة دارنا الشرقية، وصوت أمي المبحوح يزّف أغنية وهي تنفض حطّته الحريرية، وهديل الحمام يشقّ صمت الأفق.
دلّيني يا شهرزاد، كيف أنجو من هذا الاختناق.؟!