مركزية القدس والأقصى: فلسفة الإحساس بالمنطق (الحادية عشرة)
ولأن صديقي ممن يحسنون الاستماع والحوار، سأل بعد أن ذكرت له عداء لوثر وكراهيته لليهود: أنت تريد أن تقول أن اليهود استغلوا مارتن لوثر، وأنه لم يكتشف ذلك إلا في نهاية أيام حياته؟! قلت: نعم؛ وذلك ما أكده وكشف عنه بعض الكتاب الذين تتبعوا محاولات اليهود لاختراق وتدمير الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تعتبرهم يتحملون ذنب قتل ربهم المسيح ـ بحسب اعتقادهم ـ لأن عقيدة اليهود تعتبر أن ذنب الآباء لا يسقط عن الأبناء ما دامت الحياة، هذا الذنب الذي ظلت تُحملهم إياه الكنيسة الكاثوليكية طوال ما يقارب الألفي عام؛ استطاع اليهود تحقيق هدفهم أخيراً باختراقها وصدور قرار الفاتيكان عام 1965م بتبرئتهم من دم ربهم المسيح – كما يعتقدون – ليتفرغوا للعدو المشترك بينهم – المسلمون. ومن هؤلاء الكتاب القس الأمريكي الكاثوليكي (ميرنون) الذي كشف نهاية سبعينيات القرن الماضي في مقال له: أن اليهود يريدون تحويل الولايات المتحدة الأمريكية إلى مغتصبة يهودية، وأنهم سبق لهم أن حاولوا استغلال مارتن لوثر في مشروع لاهوتي كبير لتحطيم النصرانية. ومنذ ذلك الوقت لا يعرف أحد مصير هذا القس الذي اختفى عن وجه الأرض؟! (سأذكر تفصيل ذلك في حلقة قادمة). فسأل صديقي مستنكراً: إذن البيوريتانيون أتباع مَنْ إذا لم يكونوا أتباع لوثر؟!. البيوريتانيون أتباع كالفن اليهودي
أجبته: البيوريتانيون هم أتباع كالفن الفرنسي الجنسية اليهودي الأصل، وأحد الستة الكبار الذين عارضوا الكنيسة الكاثوليكية وأسس له مذهب وأصبح له أتباع، وقد كان مطلوباً للكنيسة ودخل مع جيوشها في حرب محدودة، وانتقل هو وأتباعه من فرنسا إلى سويسرا، وقد أنشأ له كنيسة هناك وانتشرت دعوته فيها، وبعد موته انتقل بعض أتباعه إلى هولندا ونشروا دعوتهم فيها. أما كيف وصلوا إلى بريطانيا وتربعوا على عرشها، ومن ثم انتقلوا منها إلى وطن الهنود الحمر لحاقاً بمن فروا قبلهم من البيوريتانيين من بريطانيا أيام الملك ادوارد الذي حل محله كرومويل البيوريتاني المذهب، وقد قضى على الكثلكة في بريطانيا إلى غير رجعة في النصف الثاني من القرن السابع عشر، لقد حدث ذلك في ظل الصراعات المذهبية داخل أوروبا والاحتلالات والتوسع خارجها، وعندما اشتد الصراع بين بريطانيا وهولندا وأوشكت الحرب على الوقوع بينهما، دعا كرومويل البيوريتانيين المقيمين في هولندا للانتقال إلى بريطانيا لتوطيد الحكم البيوريتاني فيها، ولكسبهم إلى جانبه هم واليهود الذين دعاهم للهجرة إلى بريطانيا أيضاً ضد هولندا. ومما يؤكد عقيدة كالفن اليهودية وانتقالها إلى أتباعه البيوريتان؛ أنه اختلف مع مارتن لوثر في ضرورة العمل لصحة الإيمان والاعتقاد، وقال بعقيدة اليهود والقبالاه اليهودية: أن الإيمان يكفي ليكون الإنسان صالحاً ويدخل الجنة وينجوا من العذاب في النار؛ أي أن البيوريتاني يكفيه أن يؤمن فقط بالمسيح مثلاً، ولا ضرورة للعمل ليكون هذا الإيمان صحيحاً أو كاملاً، ولن يحاسب مهما فعل. وتلك هي عقيدة اليهود... بعد أن انتهيت من الإجابة على سؤال صديقي الدكتور، بأن البيوريتانيين هم أتباع كالفن اليهودي، وأن عقيدتهم عقيدة يهودية، علق صديقي بالقول: إذن الفهم الشائع أن البروتستنت البيوريتانيين خاصة هم أتباع مارتن لوثر غير صحيح أو غير دقيق!! قلت: نعم. فقال: هذه قد فهمناها أيضاً أكمل حديثك عن توراتية (الولايات المتحدة) الذي بدأته. الولايات المتحدة التوراتية
قلت: نعود إلى الحديث عن الولايات المتحدة التوراتية، وسألته: تحب أن ألخص لك الموضوع في نقاط متسلسلة، أم دش وأنت ترتبها في عقلك وحدك؟ قال: كما تريد. قلت نضعها في نقاط. أصبح واضحاً معنا أن البيوريتانيين هم أتباع كالفن اليهودي، وأن عقيدتهم يهودية وليس لهم من النصرانية إلا اسمها، نضيف:
* إن البيوريتانيين من شدة إيمانهم بأساطير وخرافات وشخصيات أنبياء التوراة قد تقمصوا أدوارهم، واسقطوا تلك الأساطير والخرافات التوراتية على أنفسهم والأحداث التي كانت تحدث معهم. فمثلاً عندما أشتد الصراع بين أتباع هذا المذهب والملك ادوارد واضطروا للهرب من بريطانيا إلى وطن الهنود الحمر عبر المحيط الأطلسي، تخيلوا أن الملك ادوارد هو فرعون مصر وأنهم هم موسى وقومه، وأن الله أنجاهم من ظلم فرعون بنقلهم عبر البحر إلى (الأرض الموعودة) وطن الهنود الحمر، ورأوا في الهنود الحمر سكان الأرض الأصليين أنهم القبائل الكنعانية والفلسطينية التي أمرهم الرب بإبادتهم، وأن الفرض الديني يُوجب عليهم إبادة سكان الأرض الأصليين ليتحقق لهم وعد الرب بامتلاك الأرض والسيادة عليها.
* بناء على ذلك بدؤوا حرب الاستئصال والإبادة كما أمرت التوراة لسكان الأرض الأصليين، وقد كانوا وهم يطاردون الهنود الحمر بأسلحتهم النارية الحديثة يهتفون بيشوع صاحب السفر الدامي في التوراة، الذي يتوعد فيه الرب (يهوه) من لم يبيد القبائل التي تسكن فلسطين، فإنه سوف يبيدهم بدلاً منهم.
* كما أنهم كانوا يرون في وطن الهنود الحمر، أنها فلسطين وقد أطلقوا على مدنهم أسماء القدس وغيرها من أسماء المدن الفلسطينية، كما كانوا يعتبرون بعضها قدس الأقداس ويحلمون باليوم الذي يعيدوا فيه (شعب الله المختار) اليهود إلى فلسطين، ويقيموا فيها (دولة الرب الموعودة)، وكانوا يعتبرون إقامة الكيان الأمريكي التوراتي هو توطئة لإقامة (مملكة الرب) لليهود في فلسطين.
* هذه الأمور ليست سراً ولكنها موجودة في كتب كثيرة ولم تكن مشاعر وطموحات العوام من جهلتهم فقط ولكنها كانت مشاعر وطموحات الرؤساء الأمريكيين أنفسهم، وعلى رأسهم جورج واشنطن قائد التمرد – الثورة – ضد هيمنة ملك بريطانيا، وأول رئيس للولايات المتحدة التوراتية، وقد عبر عن آماله التوراتية هذه علناً، وكذلك غيره من الرؤساء الأمريكيين إلى جورج بوش الابن.
وليس أدل على ذلك من الضرب بعرض الحائط بصرخة بنجامين فرانكلين أحد قادة التمرد – الثورة – عام 1789م وقد كانت السنة الأولى في رئاسة جورج واشنطن، الذي حذر الكونجرس الأمريكي من خطر اليهود على الكيان الأمريكي التوراتي الناشئ أثناء مناقشته (هجرة اليهود إلى أمريكا)، وأنهم إذا لم يمنعوا هجرتهم فإنهم بعد أقل من 200عام سيصبح الأمريكيين خدماً عندهم..!.
وذلك ما أكده القس ميرنون – سابق الذكر – وكثير من المفكرين والكتاب الغربيين، وحتى كتاب ومفكرين يهود وصهاينة يعترفون بهيمنة اليهود على الولايات المتحدة التوراتية ويعلنون أنها (مغتصبة يهودية)، وأنهم هم الذين يرسمون توجهاتها السياسية. وذلك ما بدأ يعترف به كثير من المفكرين والساسة الأمريكيين المعارضين لهيمنة اللوبي اليهودي على الإدارة الأمريكية، ومجلس النواب والشيوخ، وإن كانت هذه الاعترافات في السابق مقتصرة على تصريح من هذا المسئول أو الموظف أو ذاك في الإدارة الأمريكية، هنا أو هناك، فإنها بعد فوز أريئيل شارون برئاسة وزراء كيان العدو الصهيوني عام 2001م، بدأت تتبلور في شكل تيار معارض، فقد ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة من المفكرين والسياسيين الأمريكيين تطالب الإدارة الأمريكية بوقف تقديم المساعدات لكيان العدو الصهيوني، تلك المساعدات التي تؤخذ من جيوب المواطن الأمريكي، وكذلك وقف الإرهاب الصهيوني المتصاعد ضد الفلسطينيين.
ومن أشهر هؤلاء المعارضين (ديفيد ديوك)، وهو وحزبه من أشهر الداعين إلى تحرير أمريكا من السيطرة اليهودية، التي يعدها الخطر الأكبر على أمريكا والعالم. وقد ألف كتاب "أمريكا – إسرائيل وأيلول 2001"، وقد جمع فيه كثير من تصريحات سياسيين أمريكيين معارضين ومؤيدين لليهود، يعترفون فيها بهيمنة اليهود على الحكومة الأمريكية إلى درجة اضطرت ديوك أن يرى في أولئك الذين سمحوا لليهود بالهيمنة على الحكومة الأمريكية، خونة للولايات المتحدة التوراتية.
سأل صديقي الدكتور مستنكراً، فما قلته إن كان لدي عليه دليل. فهو يقلب مفاهيمه وبحثه الذي يكتبه رأساً على عقب، أنت من أين تأتي بهذه الأفكار؟! وما هو دليلك على ذلك؟!.
أجبت: على رسلك، وأضفت مازحاً: لا تقلب وجهك ألم أقل لك في بداية حديثي: أن كثير أو بعض الكتاب عند قراءة بعض الكتب لا يقرأ الكتاب كاملاً أو يبحث فيه فقط عما يريده أو يوافق وجهة نظره، لذلك يفوته الكثير وتبقى وجهة نظره ورؤيته للموضوع الذي يكتب عنه خاطئة كلياً أو جزئياً. يا سيدي الفاضل: جزء كبير مما قلته وسأقوله أيضاً موجود في كتب أنت أطلعت عليها ومثبتها مراجع في رسالة الدكتوراه الخاصة بك ولكنك لم تنتبه إليها. إما لأنها لم تكن من صلب رسالتك أو لأسباب أخرى، مثل محمد السماك، جارودي، روجينا الشريف، وغيرهم. هذا بالنسبة للمراجع ودليلي على ما سبق، أما ما قلته الآن انتظر.. وذهبت قلبت في بعض أوراقي على تلخيص لكتاب ديفيد ديوك بترجمته العربية، وقلت خذ اقرأ.
أما من أين أتي بهذا الأفكار؟ فهذا عائد لي، قد أتقاطع فيها مع بعض المفكرين والكتاب وقد اختلف، فأنا من كثرة ما قرأت وجدت دائماً أنه هناك وجه آخر للحقيقة والمسلمة التي قدمها لنا الكتاب العلمانيون عن حقيقة وأبعاد الصراع مع اليهود والغرب الصليبي، وأن لدى الكثير ممن كتبوا في ذلك موقف مسبق يرفض أسلمة المفاهيم والصراع، لذلك لووا عنق الحقيقة في كثير من كتاباتهم إلى درجة تعارضها مع العقل والمنطق فضلاً عن الرؤية القرآنية للصراع. وفي أحيان أخرى قرؤوا الحقيقة قراءة انتقائية، فيذكرون المعلومة أو الحدث الخاص بالغرب الصليبي، الذي ظاهره استغلاله لليهود من أجل تحقيق أهدافه، ويخفون المعلومة التي تكمل حقيقية المشهد، وتكشف زيف قراءاتهم، وتثبت أن اليهود هم الذين بادروا سراً إلى دفع الغرب لتبني هذا الموقف أو ذاك تجاه اليهود.
وقلت: يا رجل أنت بسؤالك هذا أبعدتنا عن إكمال الأدلة على حقيقة الولايات المتحدة التوراتية، ومع ذلك سأضرب لك أمثلة على ما قلته الآن، وأكمل لك بعدها الحديث عن توراتية الولايات المتحدة. أما أوضح مثال على لي كثير من الكتاب لعنق الحقيقة في كثير من كتاباتهم إلى درجة تعارضها مع العقل والمنطق، فضلاً عن الرؤية القرآنية لهذا الصراع، إجماعهم على أن رؤية حركة الاسترجاع النصرانية هي نفسها رؤية حركة القبالاه اليهودية! ورغم ذلك يقولون: أن الحركة الصهيونية نشأت في الفكر النصراني! إن كانت حركة الاسترجاع اليهودية سبقت حركة الاسترجاع النصرانية بقرون، فمن التابع، السابق أم اللاحق؟! إن أولئك الكتاب يذكروني بإنكار الله تعالى على اليهود في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (آل عمران:65).
ولكن قبل أن أحدثك عن القبالاه سأذكر لك نقطتين أبعد في تاريخ اليهود تؤكدان الأصل القومي لليهودية. فقال مستنفراً: آه تفضل، شو عليك؟. ... يُتبع