مركزية القدس والأقصى فلسفة الإحساس بالمنطق (الحلقة العاشرة)
مصطفى إنشاصي
وبعد أن تركت تنظيم حركة فتح نهائي عام 1979 وكنت قبلها بدأت في العمل على تشكيل تنظيم جهاد في فلسطين وأثناء ذلك تعرفت على الإخوة المحترمين الذين تبين بعد 17 سنة أنهم لم يكونوا إخوة وها أنت شاهد على ما فعلوه بي، وأكثرهم أبناء مدينتي في فلسطين (أبناء رفح) يعني جيران أو معارف أن بًعد قلت لنفسي بعد حوارات شديدة وحادة وعميقة: ما دمنا لسنا مختلفين وقد كانت قيادات التنظيم طبعاً أكبر مني سناً وثقافة وتجربة وقاطعين مشوار بعيد في تشكيل الرؤية، وإن كنت من خلال بحثي وقراءاتي الحمد لله كونت رؤية متقدمة عن الشباب من سني وكنت أناقش الأخ المحترم الذي تم اغتياله نقاش ند وليس تلميذ كما كان الآخرين! المهم قلت: ما الحاجة لتشكيل أكثر من تنظيم وانضممت لهم وبعض الشباب الذين كنت منظمهم لفتح خليتهم يتركوا تنظيم فتح البعد تواصل مع فتح من ورائي!
وقد عرضت ما كتبته صيف 1979 على الأخ الثاني في التنظيم الآن هو دكتوراه في الكب البيطري ومحاضر في الجامعة الإسلامية أو معهد إسلامي في بريطانيا في مادة التاريخ الحديث فهو متمكن جداً من كل ما هو تاريخ، ومستشار في قناة الجزيرة وهو الذي أشرف على إعداد وتهيئة الوثائق التي قيل أنها سرقت من مكتب صائب عريقات عن التنازلات السرية للسلطة للتسوية عملت ضجة أيامها وفي أول لقاء على الجزيرة ليلة كشفها وكان في أحد ضيوف البرنامج قال له صائب عريقات: يا دكتور (...) أليس من الموضوعية وتحري الحقيقة أن تتصل بي ونحن بيننا تواصل وتسألني عن مدى صحتها قبل نشرها؟! وقد انسحب بعدها ذلك الأخ من البرنامج! عرضت عليه ما كتبته وبعد أن اطلع عليه قال لي أكمل لا تتوقف ولكني شغلني العمل التنظيمي وتثقيف وبناء نفسي فكرياً وبعدها التفرغ للعمل التنظيمي والعسكري في لبنان.
وبعد أن سافرت أنت لتونس عام 1984 لتكمل دراستك الجامعية أو تدرس سنة أولى وبقيت وحدي في الغرفة في فاكرها في معسكر الثورة في تبسة؟ حولت الغرفة إلى مكتبة عامة وفي عام 1985 بعد مقالة مستفزة عن تاريخ فلسطين كلها مغالطات تاريخية ومتناقضة كما هي الكتب التي يتم النسخ عنها، نشر (نبيل) إن كنت تذكره؟ فأجاب: لا أكره! قلت: عينه زياد الأطرش قائد قوات الثورة الفلسطينية في الجزائر وشمال إفريقيا (أيزنهاور فلسطين ههه) هو وأخوه داود (أبو أحمد) رداً على تمردي على وخروجي عن السيطرة بعد أن كنت أنا الموجه الثقافي للقوات القسطل عينوه فقط يصدر مجلة حائط شهرية، وقد راجعته في أخطاء المقالة ولكن لأنه كان ذنب لهم يبدو رجع لداوود قال له لا تزيلها! فما كان مني إلا أن كتبت مقالة بمعلومات صحيحة ولصقتها زجاج المجلة فوق مقالته مباشرة لتحج قراءة مقالته وقامت الدنيا في المعسكر ولم تقعد! ويمها أرسلت لقيادة المعسكر مع بعض مَنْ راجعني في ما فعلت أنه لو لفع مقالتي عن الزجاج سوف أحطم المجلة كلها! ما أنت عارف كم كانوا يهابوني ويتفادوا الصدام معي؟!
بعدها قررت أن أكمل ما بدأته أيام الدراسة الجامعية وأعد كتاب شامل لكل أبعاد الصراع، وبدأت السفر والتنقل داخل الجزائر بحثاً عن كتب في المكتبات وغالباً لدى المدرسين الفلسطينيين لأنه لم يكن هناك كتب كثيرة في المكتبات، وأوقات كنت اسافر ما لا يقل عن 3000 كيلو فقط لأستعير كتاب من مدرس ما، ما أنت عارف الجزائر شبه قارة!
إن حديثي مع صديقي الدكتور يطول، فنحن في ذلك اللقاء وغيره من اللقاءات تناولنا كل ما له علاقة بالحركة الصهيونية وجذورها الدينية، وأوضحت له كيف أن هذا الكاتب أو ذاك يقرأ تاريخ اليهود والحركة الصهيونية قراءة انتقائية، كما يفعل اليهود أنفسهم مع دينهم وتاريخهم وتاريخ العالم، حيث يختار الكاتب ما يخدم وجهة نظره وخلفيته الأيديولوجية ويقدمه على أنه الحقيقة المطلقة. كما أن بعض الكتاب أو القراء وأنا وأنت منهم، أوقات لا يقرأ الكتاب الذي يرجع إليه كاملاً بتدقيق وتفحص، ولكنه يقرأ ما يبحث عنه فقط أو ما يخدم فكرته، لذلك تمر عليه معلومات وحقائق لو توقف معها ودقق فيها قد يجد لها معنى غير السياق الذي وضعها فيه الكاتب، وقد يفهم منها معنى غير الذي رسمه لنفسه قبل البدء في الكتابة. والأمثلة على ذلك كثيرة ودون أن نذهب بعيداً. قلت له:
هل تذكر حديثنا عن بحثك الذي تُعده عن النشأة الأولى لكيان المغتصبين الأوروبيين الأوائل لوطن الهنود الحمر ـ الولايات المتحدة التوراتية – (صديقي يُعد أبحاثاً لنيل درجة دكتور مشارك منها ذلك البحث)، وقلت لك: إن النشأة الأولى للكيان الأمريكي هي (نشأة توراتية على الطريقة الصهيونية)، وأنه كيان يهودي توراتي صهيوني قبل أن يكون نصراني. وأن هذه الحقيقة قد اعترف بها أخيراً كولن باول وزير خارجية الولايات المتحدة التوراتية علناً أمام وسائل الإعلام، عندما أعلن: أن أمريكا دولة يهودية – نصرانية، وقد أنكرت على يومها رأي هذا، وسألتني ما هو دليلي على ذلك؟ وأجبتك الآتي:
البروتستنت يهود توراتيون
أن المذهب النصراني البروتستنتي الذي أسسه مارتن لوثر وكالفن وغيرهما وما تفرع عنه من كنائس، جميعها في الأصل عقيدتها توراتية صهيونية قبل أن تكون إنجيلية نصرانية. قلت لي يومها بانفعال وعصبية متعجرفة من شدة الاستنكار، كيف هذا الكلام؟! قلت لك: قبل نشأة المذهب البروتستنتي كانت الكاثوليكية تتمسك بنظرية القديس أوغسطين التي تقول: بأن ما ورد في الكتاب المقدس بشأن مملكة الله قائم في السماء وليس على الأرض. وعلى ذلك فإن القدس وصهيون ليسا مكانين محددين على الأرض لسكن اليهود ولكنهما مكانان في السماء مفتوحان أمام كل المؤمنين بالله.
أما البروتستنتية فقد وضعت تفسيرات أخرى تقول بالواقع الأرضي لمملكة الله، وبوعد الله المقدس لليهود، وبوكالتهم عن الله في إقامة مملكته، وبالعودة الثانية للمسيح وشروطها، وبالألفية وحتميتها. وبعد أن كانت الكنيسة التي يمثلها البابا هي صاحبة العصمة في الكاثوليكية فإن العصمة في البروتستنتية أصبحت للكتاب المقدس بجزئية: العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الأناجيل الأربعة والرسائل)، كما أن المذهب البروتستنتي جعل شرط صحة الإيمان فيه: الإيمان بحرفية ما جاء في التوراة عن اليهود.
وسألتك يومها: هل تعرف ماذا يعني ذلك؟ وأجبتك: يعني عودة القداسة لليهود كـ(شعب مختار)، والإيمان بخرافات العودة وإقامة (دولة يهودية) ... الخ مما جاء في التوراة. وذلك يعني أن فلسطين والقدس لم يعودا وطن المسيح، والأرض المقدسة التي من أجل استعادتها من المسلمين وإقامة (دولة نصرانية) عليها أعلنت الكنيسة الحروب الصليبية، قد أصبحت وطن اليهود وأرض (دولتهم الموعودة).
إن عودة اليهود إلى فلسطين التي يركز من يؤمن من الكتاب بعلمانية الحركة الصهيونية على أنها في عقيدة اليهود عودة سلمية وبتدخل إلهي، وأن الحركة الصهيونية خالفت ذلك – هذا موضوع آخر نرد عليه في حينه – وعودة المسيح في عقيدة النصارى أيضاً التي تحدث في نهاية الزمان أيضاً بإرادة إلهية قد تحولتا في العقيدة الجديدة (البروتستنتية التوراتية الصهيونية)، إلى: أن عودة اليهود إلى فلسطين تسبق عودة المسيح وأنها شرط لها، وأنه يمكن لهاتين العودتين أن تتحققا بإرادة وفعل البشر. أضف إلى ذلك أن البروتستنت أعيادهم هي الأعياد اليهودية، وصلواتهم هي الصلاة اليهودية وباللغة العبرية، ومواعظهم ودعوتهم ترتكز على نشر خرافات التوراة، وعملهم منصب على تحقيقها .. الخ. أي ليس لهم من النصرانية إلا اسمها. (هذه الأمور لم أفصلها وقتها لتسارع الحوار لذلك بعد الانتهاء من نشر حلقات الحوار سأعود لتفصيلها إن شاء الله).

لذلك أنت من المفترض ألا تذكر في عنوان بحثك (الولايات المتحدة الأمريكية)، خاصة وأنت تتحدث فيه عن النشأة الأولى للكيان الأمريكي، ولكن عليك أن تسميها الولايات المتحدة التوراتية، فقال مستنكراً: لماذا؟! هذا أيضاً يحتاج إلى تعديل؟! قلت له: نعم. كما هو تاريخنا كله محتاج إلى إعادة قراءة وكتابة وصياغة من جديد، وكما هي الحركة الصهيونية أيضاً، فإن تاريخ الكيان الأمريكي وبدايات نشأته الأولى التي رسمت مستقبله إلى أن يأذن الله بتفككه وانهياره تحقيقاً لسنته تعالى في نشوء وسقوط الإمبراطوريات، كانت نشأة توراتية، وكما قلت لك أن كولن باول اعترف بأن أمريكا اليوم هي دولة يهودية ـ نصرانية، فما بالك بالأمس؟! فقال والفكرة ما زالت لم تُقبل عنده بعد: كيف؟ فهمني إياها؟!.
قلت: بالنسبة للولايات المتحدة التوراتية، فذلك يعود إلى معتقدات وممارسات وطموحات النواة الأولى التي أسست المجتمع الأمريكي ومن بعده الكيان الأمريكي التوراتي الآن وهم البيوريتانيين، أو التطهريين، وأتباع مذهب العصمة، والمعمدانيين.. ولعلمك البيوريتان ليسوا أتباع مارتن لوثر كما يتصور الكثيرين، لأن المذهب البروتستنتي ارتبط به أكثر من غيره من قادة هذا المذهب الذين تباينت آراؤهم ومواقفهم من التغييرات التي يجب إحداثها في الكنيسة الكاثوليكية، وإن كان القاسم الذي جمع بين معظمهم هو: إعادة القداسة لكتاب اليهود (التوراة) وهذا ما يثير الشكوك حول الدور الذي لعبه اليهود في اختراق وتدمير وشق الكنيسة الكاثوليكية لصالحهم.
وقد يرجع سبب هذا الارتباط للمذهب البروتستنتي بمارتن لوثر إلى سببين بتقديري: -
الأول: أن الظروف وصراعات بعض الملوك وأمراء الإقطاع في أوروبا الذي تزامن مع النهضة الفكرية المتأثرة بالأفكار الإسلامية التي بدأت بعد الحروب الصليبية والاحتكاك المباشر بين الغرب والمسلمين ونتج عنها هزيمة الصليبيين على الرغم من كثرة عددهم وعتادهم، تلك الصراعات مع البابا في ذلك الوقت من أجل مصالح وأهواء شخصية وفرت له حماية بعض أولئك الأمراء، بخلاف من سبقوه.. وهذا ما ساعده على تثبيت مذهبه والدفاع عنه بالقوة، وقد خاض وأتباعه بمشاركة بعض الأمراء حروب طاحنة ضد جيوش البابا وحلفائه، إلى أن استطاع أتباعه تحقيق الانفصال والاستقلال عن الكنيسة الكاثوليكية. مما جعل الكتاب والمؤرخين يعتبرونه قائد الحركة الإصلاحية (التخريبية) ضد الفاتيكان، ومؤسس المذهب البروتستنتي، وهي تسمية غير دقيقة للمذهب، لأن (بروتستنت) معناها: معارضين، أو محتجين، وهم كثر كما قلت. -
الثاني: قد يكون راجع إلى الدعاية اليهودية وأنصارها في الغرب وربطها بين المذهب البروتستنتي ومارتن لوثر، لإضعاف تأثير آرائه ومواقفه وتوعده وتحقيره لليهود بعد أن اكتشف حجم استغلالهم له في تحطيم الكنيسة الكاثوليكية لصالحهم على أتباعه، وذلك في أخريات حياته، وبعد أن أصبح غير قادر على التراجع عما أحدثه من تغيير في النصرانية لصالح اليهود، بجعله شرط صحة الإيمان والاعتقاد البروتستنتي أن يعتقد البروتستانتي بحرفية ما جاء في التوراة عن اليهود!وقد عبر عن ذلك في كتابه "كذب اليهود" الذي وضعه عام 1544م ، أي قبل موته بعامين، وقد كشف فيه بأسلوب نادر وبليغ عن مدى انحطاط اليهود، وأسرف في الحديث عن عقيدتهم الوثنية، وعبادتهم للمال، وقتلهم الأنبياء، قريب جداً مما ذكره عنهم القرآن الكريم، وتوعدهم أنه إذا امتد به العمر ليقاتلنهم ويخرجنهم من وطنه إذا لم ينتهوا عن ممارساتهم. وفي ذلك الكتاب قال عبارته التي يستغلها البعض في إقناع عامة النصارى الصهاينة بواجب مساعدة وإعادة اليهود إلى فلسطين دينياً: "لماذا لا يعود اليهود إلى وطنهم (يقصد فلسطين) ونحن نقدم لهم العون بالمال والسفن التي تنقلهم إلى هناك، إنهم آفة وجودنا". ويخاف اليهود من فقدان تأييد كثير من أتباع لوثر، لذلك يحاولون أن يربطوا النصرانية الصهيونية به، علماً أن كثير من اللوثريين يعارضون اليهود والصهيونية.