مركزية القدس والأقصى: فلسفة الإحساس بالمنطق (الحلقة الثامنة)
كان خلاصة ما أراد قوله صديقي الدكتور في الحلقة السابقة: أن التجرد والحياد من الخلفيات الأيديولوجية والفكرية عند الباحث أمر ليس سهلاً، وأن الكتاب العرب الذين كتبوا عن الحركة الصهيونية في معظمهم كانوا يحملون أيديولوجيات فكرية لا تؤمن بأي دور للدين في حياة الأمة، أي يفصلون بين الدين والسياسة.
قاطعته قائلاً: هذا ما أقوله وقال به بعض الكتاب من الذين فتح الله عليهم وخاصة الدكتور (جورجي كنعان) في كتابه "وثيقة الصهيونية في العهد القديم" الذي اعتبر خطأ كتابنا أنهم نظروا للصهاينة من خلال نظرتهم لأنفسهم، لذلك قبلوا اليهودية كدين ورفضوا الصهيونية (كقومية أو أمة دينية)، رغم أن الذي جمع اليهود في فلسطين هو كتاب الدين اليهودي (العهد القديم - التوراة) وهو نفسه القلب الذي يمد الصهيونية بالدم في فلسطين والعالم أجمع.وأضفت: هذا كلام إنسان عاقل، محايد موضوعي، لأنه لولا أنه يوجد في عقيدة اليهود ما يعتقدونه حق لهم في فلسطين، ووعد الرب (يهوه) لهم بالعودة إليها، ولولا جهود حاخاماتهم طوال قرون قبل أن يكون هناك احتلالات غربية صليبية لوطننا، والمحاولات المتعددة عبر القرون لتطوير مفهوم الخلاص المسيحاني عند اليهود وتحويله إلى خلاص بشري قبل أن يكون خلاص سماوي؛ أي خلاص الأرض - فلسطين - يسبق الخلاص السماوي .. الخ، ما كان هرتزل ولا غيره استطاع أن يحرك اليهود خلفه ويقودهم إلى فلسطين، حتى ولو كان معه معجزة، كما قال دافيد بن غوريون! فالأصل هو الإيمان اليهودي بـ(الأرض الموعودة)، الإيمان بأنه يمكن تحقيق العودة بجهودهم البشرية توطئة لقدم المسيح اليهودي المخلص، لتكون بداية نهاية العالم والسيادة اليهودية العالمية.وواصلت الحديث: أنا كثيراً ما أسال نفسي: هؤلاء الكتاب صدعوا رؤوسنا بالحديث عن (القومية اليهودية العلمانية)! أين هي (القومية اليهودية العلمانية)؟! أعود إلى النظريات العلمانية عن القومية، أقلبها يميناً وشمالاً فلا أجد واحدة منها تنطبق على ما يدعيه الكتاب العرب (قومية يهودية علمانية)! يعني النظرية أو المدرسة الألمانية تعتبر أهم أسس أو مقومات القومية اللغة والعرق إلى حد ما. وهذه المدرسة أخذ عنها أبو القومية العربية الأستاذ (ساطع الحصري)، والمدرسة الفرنسية تعتبر أهم أسس القومية أو أهم مقوماتها الأرض أو المساحة الجغرافية والتاريخ المشترك إلى حد ما. والمدرسة الماركسية تعتبر أسس القومية أو مقوماتها هي الروابط الاقتصادية حتى وإن جمعت شعوب وقوميات متعددة. وأخيراً المدرسة الأمريكية التي غالباً قوميتها تُكتسب بالهجرة والإقامة. هذه هي النظريات والمدارس القومية العلمانية في العالم التي لا تشترط الدين كأحد الأسس أو المقومات القومية من قريب أو بعيد.. واليهود ليسوا عرق واحد ولكنهم أعراق من جميع شعوب العالم، ولا هم يعيشون على أرض واحدة ولكنهم كلٌ يعيش في وطنه الأصلي، ولا تجمعهم لغة واحدة ولكنهم يتكلمون لغات شتى، وهرتزل نفسه لم يكن يجيد العبرية! وليس لديهم تاريخ مشترك.. ولا .. ولا مما يعتبر أسس للقوميات العلمانية، وأن كل عناصر ومقومات (القومية اليهودية) هي العقائد الرئيسة في الدين اليهودي. يعني اليهود ليسوا قومية ولكنهم (أمة دينية)، والصهيونية ليست (قومية علمانية) ولكنها إن صح التعبير هي (قومية دينية). وعقبت بانفعال لماذا لا يقول لنا هؤلاء الكتاب أين هي العلمانية في تلك القومية؟! قاطعني صديقي بانفعال قائلاً:أي أنت تريد منهم أن يعترفوا لك بأن اليهودية أمة دينية وهم أصلاً لا يؤمنون بالدين كأحد مقومات القومية؟ حتى تأتي أنت وغيرك تطالبهم بأن يكون للدين في وطننا دور أكبر؟! وعقب سريعاً، لا، هذا بُعدك.هنا أردت أن أتأكد من فكرة موجودة لدي حول موقف بعض الكتاب الذين اعترفوا بالمضمون والمحتوى الديني للإطار العلماني القومي للصهيونية ثم غيروا موقفهم بعدها، فقلت: ولكن هناك كتاب ممن يقولون بـ (القومية اليهودية) العلمانية اعترفوا أن هذا الإطار العلماني لـ(لقومية اليهودية) محتواه ديني أسطوري، وأن مضمون هذا الإطار العلماني وجوهره ديني تماماً. وذلك ما أدركه الحاخامات الذين قبلوا الانتماء للحركة الصهيونية، وقبلوا بأن يقودهم قادة الحركة الصهيونية لأنهم كانوا على يقين أن الصهيونية لن تخرج عما يريدونه، وذلك ما أثبتته التجربة ويُصدقه الواقع اليوم فعلاً. وكذلك اعترفوا أن اليهودية التقليدية واليهودية المحافظة هما نفس اليهودية ولكنهما ارتدتا الزي العلماني ظاهراً واستخدمتا نفس الأساليب والأدوات العلمانية للحركة اليهودية الإصلاحية (الهسكلاه) من أجل أن تفشلا خططها، ويحولا دون سلخ اليهودي عن انتمائه الديني.ثم قرأت له فقرأت مما كتبه أشهر المتخصصين العرب في الصهيونية الدكتور (عبد الوهاب المسيري) التي يعترف فيها بما قلته أعلاه، وعلقت لأدرك إن كان يدرك ما أدركته ولديه نفس فكرتي أم لا؟ هذا كتبه يوم كان شيوعياً ماركسياً! لأنني أعلم أنه تحول عن الشيوعية؟فكان تعليقه: أنا كنت سأسألك، متى كتب هذا لأنني أعلم أنه تحول عن الشيوعية؟؟قلت: في سبعينيات القرن الماضي، عام 1979م تاريخ صدور الكتاب الذي فيه ذلك الكلام.فقال: عندما كان شيوعياً كان لا بد أن يكتب ذلك، لأن الماركسية تعتبر الصهيونية أنها ذات مضمون ديني، يعني حركة رجعية عميلة (للاستعمار).أدركت ساعتها أن صديقي الدكتور يمكنه التمييز بين اتجاهات الكتاب وما هي المصطلحات التي يستخدمها كل تجاه في رؤيته للحركة الصهيونية، وأنه ليس كبعض من عرفت من العقول الجامدة التي تُبهر بالأسماء، لذلك عند الكتابة تخلط رأي الماركسي مع القومي مع الوطني فيخرج المقال (كوكتيل) عن الصهيونية، وذلك أمر خطير جداً على مستقبل الصراع وخاصة ما له علاقة بقضايا الحل النهائي. واليوم أكرر ما سبق أن كتبته وقلته ومازلت، أن خطأ القراءة للحركة الصهيونية في الماضي هو الذي يُفجع السواد الأعظم من السياسيين والمثقفين والعامة بطلب العدو الصهيوني منا القبول بيهودية كيانه الغاصب لفلسطيننا، وللأسف مازال الكثيرين يعيدون إنتاج تلك القراءة الخاطئة التي أوصلتنا إلى هذا المفترق فيما يزعمون أنه (عملية سلام)، ولا يكلفون خاطرهم إعادة النظر فيما يكتبون لأنهم ليسوا مثقفين ولا قراء ولا أصحاب رؤية، وتقصر بهم عقولهم وجهدهم عن الفهم أو المراجعة وإعادة القراءة في ظل الواقع، ويريدون أفكار جاهزة ومُعدة مسبقاً لينسخوا فقط ويلصقوا ويضعوا أسمائهم عليها، ويختال الواحد منهم ويطرب وهو يرى اسمه يتكرر في المواقع الالكترونية، ولتذهب الأمة والقضية إلى الجحيم!.واصل صديقي الدكتور حديثه، بعد أن ثبت نقطة مهمة في موقف بعض الكتاب عن الحركة الصهيونية الذين يتحولون من فكر لآخر بأن التحول يتم داخل نفس دائرة الفكر العلماني، الذي يفصل بين الدين والسياسة، وقال: أنا لست متخصصاً في الصهيونية، لا تاريخاً ولا ممارسة ومعلوماتي فيها متواضعة. ولكنني أشعر أن اليهود منذ قرون طويلة مضت وهم يعملون على تحويل دينهم إلى قومية. كيف لا أعلم؟!.