جدلية الحضور والغياب ... حسن غريب أحمد




المؤثر الفني بين جدلية الحضور والغياب في مجموعة " أنثى لا تحب المطر " للقاص البحريني / أحمد المؤذن

كم كنت سعيداً عندما تلقيت هذه المجموعة القصصية " أنثى لا تحب المطر " سلسلة الإصدار الأول الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بمملكة البحرين 2003م للقاص الشاب / أحمد محمد محسن حسن المؤذن - وهو كانت قصة من البحرين ، من مواليد المحرق عام 1973م ويكتب في الصحافة المحلية وله العديد من المساهمات في الدوريات الخليجية والعربية هذه المجموعة بها ستة عشر قصة وهي كالآتي : -

"كلما رأيتها" و "صراخ" و "صندوق التفاح" و "أنا والأستاذ ناجي " و "صفعات العطش" و "يذوب العطش" و "و – تنتظرين" و "نافذة لا تفتح" و "أوراقك خسرتها" و "الحاج محمد" و "الدكان" و "يوم صيفي" و "سين أحبها" و "ما أروع الضجيج" و "أنثى لا تحب المطر" و "رجل للبيع"

القاص البحريني الشاب / أحمد المؤذن أنه صوت البحرين جاء من أقصى البحرين قرية تدعى "كرزكان" يصلنا منها وبعين لماحة وفؤاد جياش وقلم متمرس يصور لنا "أحمد المؤذن" هذا العالم القصي والداني – الوجوة المخبوءة والخشنة والناعمة والحالمة والممصوصة التي تطل من أطواق الهدوم المتسخة والنساء البدينات والعوانس والعاقمات – والرجال الذين يسكنهم خوف كبير وترقب هائل من الغائب والمجهول .

هذه هي المجموعة القصصية الأولى للقاص الشاب / أحمد المؤذن "أنثى لا تحب المطر" ورغم شاعرية العنوان ويعتقد البعض أنه لا يصلح إلا أن يكون عنواناً لديوان شعر إلا أنه في ظاهره أما في باطنه فهو يتحدث بحال لسان كل ذرة عن أنثى يبحث عنها ولا يكل ربما تكون أمه أو حبيبته أو صديقته أو زوجته يحمل الإيلام النفسية للمرأة وكأنه يعيش بها ومن أجلها وخلالها فهو يمزج في قصصه الذاتية بالموضوعية الشخصية العامة ، هو في الحب يعشق امرأة فيها حلاوة الوطن ووطننا فيه دلال المرأة ، والجمال المحبوب في رؤية القاص مزيج من جماليهما معاً "المرأة / الرجل" في ملامح الجسد وفي نوازع الروح والفقر والبخل - غير أن مسحة من الحزن تعلو فتغطي سطح هذه الصورة الجميلة فتبتعد عن ملامح الجمال تحت غلالة من الأسى ، لكنه أسى شفيف ، فتبدو وراءه هموم الديون الغارق بها والأنثى القوية التي تغلب الشيطان وتنتصر عليه بعد أن كان سيهزمها في فكرة الانتحار أنهما ملامح لشخصيته تخطت كل الصعاب والظروف فصارت قادرة منتصرة ، وتقف قصة "صفعات العطش" شاهدة على هذه المقدرة الفنية التي يمتلكها القاص "ويذوب العطش" ص 43 .

" الآن وفي أرض العمر الذائب وعطش السنين ، ستتوقف لترتوي ، تعرت تماماً! من كآبتها من غضبها من انكساراتها – انتفض الجسد المسكون بالخيبة – ارتفعت اليد ومسحت بخشوع ، مسحت أسفل بطنها ثم ارتعشت وارتعشت صرخت ، احتضنت زوايا الصورة تهز رأسها تتوه في الفراغ " .

لقد وضع القاص بلمحة فنيه شائعة نهاية غير متوقعة رغم أنني كنت أتمنى أن يجعل القصتين هما قصة واحدة غير منفصلتين عن بعضهما لأنهما متصلان ببعضهما البعض "صفعات العطش" - "ويذوب العطش" .

لقد نجح القاص في توظيف تكنيك القصة في تشكيل رائع على النحو الذي يلمسه جيداً كل من يقرأها – حيث أنها تجسم القدرة التصويرية في قطعة خشب دائرية عتيقة وديكورها عتيق ومقشف .. لقد صور القاص شخصية القصة في تمثال خشبي معتم لنجم له رونق منطفئ ، لكنه يحيا بوهم أنه مضيء وفاعل متجاهلاً أو جاهلاً - عدم القدرة على الإنجاب – إنها حقيقة مريرة وشبهها القاص بشكل موفق بالعتمة والظلام لأنها لا تستطيع أن تهدي أحداً لتحقيق رغبتها وهي في سن الأربعين إلا باعتمادها وإيمانها على الله .

إن هذا التوفيق الذي حققه القاص في هذه القصة وغيرها تعطي مؤشراً بأنه يكتب بالانتماء للقيمة التي تتملك القاص ويمتلكها ، وترتفع في سماواته القصصية ، من أول قصة إلى آخرها ، ولنبق معه دائماً – في عالم الحب والأفراح والأتراح الشفيفة .

تجربة القاص " أحمد المؤذن " القصصية الأولى يختار عنواناً يماثله و يعبر عنه " أنثى لا تحب المطر" يشي هذا العنوان بطموح كبير لما هو أبعد من الحب والتحرر ، بل لتقديم نمط خاص لكتابة عالمه بما فيه من الحزن ، مثلما فيه الكثير من الحب ، بلغة قصد الكاتب أن تكون سهلة من دون أن تفقد جمالها ورعشتها التعبيرية المنسوجة من تمثيل جميل لعلاقات إنسانية واجتماعية يعيد الكاتب صياغتها بعين البساطة وبراءتها !!

في الخطوة الأولى " الإهداء الذي وجهه القاص " لامرأة نجد من خلاله أنه ينحاز إلى سردية شاعرية تنتقي موضوعاتها من رغبة القاص في التعبير عن علاقة الرجل بالمرأة – من وجهة نظره .. سواء كانت أمه أم حبيبته فلا فارق عنده بينهن . " إلى امرأة ثويت بأحشائها واستقام عودي على تربة شبابها في كنف حنانها روت لي أول حكاية إليك يا سيدة نجيبة السيد عبد الله أنفاس سطوري تخلت حلمنا المشتهي " .

هذا الكاتب القصصي الذي يقارب الشعر كثيراً – من دون أن ينتمي إليه .. ينطلق من رغبة لا في التعبير عن هموم ذاتيته فحسب ولكن رغبة في إظهار مصير العلاقات السلبية وما تؤيه من اختلال في المجتمع "تتكوم المواعين والصحون وتشمر أمي عن ساعدين رقيقين قويتين وتأخذ نفساً طويلاً ثم تتحرك في زوبعة سريعة فتخرج الصابون من يديها براقة" من قصة "كلما رأيتها" ص 7 .

إننا نواجه بهذه الهزائم كثيراً ، نواجه بالأحزان التي تملك النفس بالشفافية وتمنحها الرجاء ، الأحزان التي تسمو بصاحبها ، وتظل باعثاً لأمل ما زال يتردد بداخلها سرية مطلقة لا تبوح إلا بما يلامس الآخر – وهو المفاجأة والصراع بين الخير والشر والشيطان والملاك .. فكان الشر منتصراً وسرق اللعبة من عند التاجر ثم كانت في النهاية المفاجأة التي وقف فيها القاص لأبعد وأنجح الحدود

من قصة " كلما رأيتها " ص 14، 15

"سمعتها تقول له – هل عندك شاحنة بين الأحمر والأصفر لونها – يحلم بها ولدي في منامه – تيار كهربي يصعقني ودهشة لا حدود لها تصدمني فلا أنجح في تفسير ما يحصل ، والعجوز يبتسم وأمي تتناول شاحنة في غلافها جديدة ، بدت وكأنها أجمل من التي سرقتها ، شاحنة رائعة ، أمي أشترتها لي ! رفعت وجهي لسماء الظهيرة ، أنا مخطئ يا إلهي وسأصحح خطئي" قد تبدو هذه اللحظات فاصلة بين صراع الخير والشر ولكنها مع "أحمد المؤذن" تنكشف فيها الروح البريئة ، تنقلب في مرارتها ومسراتها لتظل الروح قلقة ، تتحدى بإخفاق تارة ، وبحنين متوثب تارة أخرى .

قصة " ما أروع الضجيج " ص89

" بصري ينغرس في محيط الشارع / أشاهد ما حولي ولكن لا أسمع ، ابتعلت ريقي بصعوبة وتراجعت للوراء . اختل توازني تأرجحت فوقعت بالقرب من باب شرفتي ، حتى سقطتي هذه لم أسمع لها صوتاً .. يا إلهي أنفاس لا أسمع لها صوتاً.."

ففي الوقت الذي يدرك فيه أنه لا يسمع – قبل أن ينطلق – في اللحظة الأخيرة حيث يعلم أنه لا يسمع ويخرج إلى الشارع ويشاهد ما حوله ويتراجع إلى الوراء حتى سقطته لم يسمعها وفي مشهد آخر من قصته "رجل للبيع " ص 103

"خنق الخوف قاع قلبه الواجف ومحيط الشارع مقبرة تنتظر نعشاً يحمل ذاته ، لا يرى فقط يسمع نفيراً التحذيرات من السيارات الغاضبة ويرسم صور النهاية"

نلاحظ هنا التضاد في قصته (ما أروع الضجيج) حيث كان لا يسمع أي شيء وفي قصته "رجل للبيع " حيث كان يسمع لكنه كان لا يرى شيئاً وهذا بشكل محسوس استخدم فيه الكاتب خاصيته القص والمزج بمهارة فائقة .

إن قصص " أنثى لا تحب المطر " على الرغم من إنها تبدو وكأنها عادية – إلا أنها في تقديري تبلور موقفاً شعورياً شديد التكثيف وتستبطن لحظات نفسية خاصة لشخوص محبطة صاغها الكاتب ببساطة وعمق – محددة الأغراض والدلالة والمشارب – فلكل شخصية دورها ، ولكل معنى هدف وهو ما يبين عن موهبة " أحمد المؤذن " وحساسيته القصصية ، قد تبدو للمتلقي – القارئ - بساطة اللغة الظاهرية في حين أن القراءة المتأنية تمنح معنى ما متوازيا خلف ما يمكن أن تذهب إليه العين أولاً .

كذلك يعتمد الكاتب في الشكل الفني للقص على جدلية الحضور والغياب وهو ما نجده في قصته "أوراقك خسرتها" ففي اللحظة الذي يحمل فيها ابن الرجل الغائب علبه كارتونية أنيقة ليضع فوق بيتهم الصحن الفضائي – نجد أباه يعظ الناس بعدم شراءه لأنه فساد وحرام – وهذا ينم عن منتهى التناقض في المجتمع المعايش وتعزف قصته "نافذة لا تفتح" على نفس الوتر حيث يعاني الرجل من الآلآم والوحدة ولا يجد حتى من هي بجواره إلا جسداً فيتحول الحضور إلى غياب أشد وطأة .

وهكذا نجد جدلية الحضور والغياب في معظم قصص المجموعة تخلف توتراً فنياً لا تعوزه المفارقة ولا ينقصه المدهش والحقيقي .

كذلك استخدم الكاتب الشاب "أحمد المؤذن" أكثر من تكنيك فني في معالجة مواقفه القصصية، فهو فوق كتابته للمخاطرة التي تعتمد على إفراغ المشاعر المتدفقة بأسلوب سردي مباشر نجد الكاتب يستخدم المنولوج الداخلي في أكثر من قصة، كما يتداخل الزمان بالمكان، الماضي بالحاضر بالمستقبل، وهناك أيضا القصة الأسلوبية التي تعتمد اللغة للتدليل على الحالة أو الفكرة في طريقة معالجتها كما في قصته "أنثى لا تحب المطر" وهي ذات القصة التي تحمل عنوان المجموعة القصصية .

فضلاً عن ذلك فإن بدايات القصص عند الكاتب غالباً ما تبدأ بجملة مكثفة يقول فيها القاص كل شيء ففى قصة "صراخ" ص 16 يقول الكاتب :

" فجأة تحول سكون الحي الكرزكاني إلى ما يشبه الصراخ المرغوب منفلتاً من حنجرة امرأة تتمزق أوتارها ويستنفر صراخها الناس التي احتشدت على الباب تتلون وجهوهم بالحيرة والأسئلة" .

و في قصته " أنا والأستاذ ناجي " ص 26

" لا أصدق إني واجهت أستاذ ناجي ، لا أصدق كأنني أحلم" ...إلخ

وبعد... نحن أمام تجربة قصصية يحكمها خيط نفسي واحد برؤى فنية متعددة ، تبحث جميعها الأزمة الثنائية بين المرأة والرجل في اغترابهما وبحثهما الدائم عن الأمان !!

ولا شك في أن الخطوة التالية للقاص الشاب البحريني "أحمد المؤذن" ستكون أكثر قدرة وتميزاً .. ببساطة هذه المجموعة تستحق أن تقرأ أكثر من مرة لقاص قادم يقول ولا يقول والأروع من هذا أن تكشف هذه المجموعة القصصية عن تجربة بعض أزمات الإنسان المعاصر ، وأن تتجاوز الموقف الذاتي إلى رؤية تنطق بلسان التجربة الأزلية التي هي أساس للشاعرية الحقة كما هي أساس للديمومة ، وفي قصص "أحمد المؤذن" هاتان القوتان الفاعلتان معاً وهذا هو سر إعجابنا بتجربته القصصية المتميزة .

وجميل من القاص "أحمد المؤذن" أن يتخذ من اللغة أساساً لغوياً لقصصه باعتبارها المستوى اللغوي المشترك ، كما كان جميلاً غلبة الرمزية والتصوير الكلي أو التصوير المركب والتعبير الشعري على أسلوبه القصصي فهو قاص محب حساس يحمل آمال وهموم وطموحات وطنه داخل قلبه وعاتق أكتافه


* حسن غريب أحمد / عضو اتحاد كتاب مصر

المراجع :

1- القصة القصيرة - دكتور سيد حامد النساج – دار المعارف بالقاهرة 1977م

2- البطولة في القصص الشعبي – دكتورة نبيلة إبراهيم سالم مطابع دار المعارف بالقاهرة 1976م