النكبة والدولة العربية
بقلم:سري سمّور

في سنين خلت كنت أكتب في ذكرى النكبة خواطر و مقالات تمتزج فيها عاطفة الحزن والأمل والشوق، مع تصورات للخلاص من عار النكبة...وهذا الوصف ليس خطأ مطبعيا؛ فالنكبة باستمرارها هي عار وشنار، وليست فقط مأساة وأكل حق!
وأنا أرى سني النكبة تتابع، وعمري الذي ينقص، وانقضت منه 40 حجة، كلها عشتها في عصر النكبة وتبعاتها، وأنا الذي أخرج أبي-رحمه الله تعالى- من قريته الوادعة(أم الشوف) وعمره حوالي 18 سنة بوحشية سلاح عصابات الإيتسل...ومع كل التغيرات الدولية والسياسية الإقليمية والدولية فإن الثابت في حياة شعبنا، الذي راقب وتابع بشغف كل ما يجري حوله وما حصل وراء البحار، هو استمرار النكبة!
وهذه المرة سأضع العاطفة جانبا؛ وقد ترجّح عندي أن صنمية الدولة العربية في وعي الشعب العربي في كافة أقطاره هي سبب النكبة، وقبلها سبب إجهاض الثورة الكبرى، ثم سبب استمرار النكبة حتى الآن!
فالفرد العربي،وبالتالي الجمهور لعربي، ابتلعته هواجس انهيار الدولة، وصار الحفاظ عليها همه الوحيد، فجعل من الدولة صنما يعبد من دون الله، وجعل يتقرب لهذا الصنم بعبادة الزعيم الفرد...فكان مشركو مكة قبل 1400 سنة أفضل حالا منه، لأنهم عبدوا هبل واللات والعزى حتى تقربهم-بزعمهم- إلى الله زلفى، فيما عبدت الجماهير العربية الفرد والزعيم الحاكم بأمره كي تحافظ وتبقي على الدولة التي قامت في ظروف غير طبيعية بعد زوال الاستعمار العسكري الأوربي، وصنعت على عينه وإشرافه...كما أن القوى والأحزاب وأصحاب الأيديولوجيات صار حلمهم هو السيطرة على الدولة وقيادتها وتوجيهها...فتصارعوا واستمرت النكبة!
إن الأمة شهدت عبر تاريخها في مراحل مختلفة(الأندلس مثلا) ازدهارا في العلوم والمعارف والآداب والفنون وحتى الاقتصاد، في وقت كانت الدولة تعاني الهشاشة والضعف والتمزق، لأن الناس لم يروا تحقيق ذواتهم، والنهضة بمجتمعهم أمورا لا تتم إلا من بوابة الدولة، ولم يجعلوا الدولة


صنما أو اعتبروها كالدم أو الهواء أو الماء، وعلى العكس فإنهم تحركوا بوعي فطري بأن الدولة معيق لهم وإذا كان من الخطأ أو الخطر الاصطدام بها، فمن الخطيئة تقديسها.
والغريب العجيب أن تعلق الأمم والشعوب التي قدمت لها دولها حياة جيدة جدا فيما يتعلق بالحريات السياسية والتعليم والصحة والرفاه وفرص العمل والضمان الاجتماعي، أقل بكثير من تعلق العربي بالدولة، علما بأنه لم ير من هذه الدولة سوى الذل والهوان والفقر والتخلف والأمراض الفتاكة، وأوصلته إلى ما دون الذيل في قائمة الأمم، ومع ذلك هو متعلق بها فيما يشبه الحالة المرضية!
قد تبدو الفكرة غريبة والطرح يستبطن الترويج إلى حالة(اللادولة) والتي تعني العودة إلى عصر القبيلة وعصر العيش في كانتونات طوائفية أو عرقية؛ والنماذج أمامنا مرعبة في العراق وسورية والصومال وربما اليمن؛ فالدولة هي الضامن الحقيقي لوحدة التراب والأمة بمختلف مكوناتها...هذا صحيح ولكن هذا من أعراض المرض أو نتيجته، وليس المرض ذاته؛ فالدولة العربية بذرت بذورا أنبتت الكوارث التي رأيناها، لأنها دولة ليست لكل مواطنيها، وحالها حال فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، وقامت على الترغيب والترهيب والتضليل، وليس على الانتماء الحقيقي، وتحول الفرد في ظلها إلى ما يشه طفلا يرفض الفطام، فيرى أنه لا يستطيع العيش بلا حليب أمه!
والدولة العربية أوهمت الإنسان العربي بأنها بصدد تحقيق الوحدة القومية، فرسخت القطرية، وجعلتها قمة الوطنية، ولعدة عقود وعدت بتحرير فلسطين كاملة أو جزء منها فكرّست بسياستها الخرقاء، وهوانها واعتمادها على الأجنبي وجود إسرائيل.
إن الدولة لها مهمات يجب أن تقوم بها، وأهمها حماية البلاد من الخطر الخارجي، وهنا قامت الدولة العربية وما زالت باختراع أعداء، أو تضخيم أعداء، مما جعل إسرائيل تقوم وتنمو في القلب من دولها وكياناتها، ورأينا الدولة العربية تحارب كل المعارك إلا معركة إزالة النكبة!
وكلما تقلصت هيمنة وسيطرة الدولة كان خيرا لها ولشعبها، ولو تأملنا السلطنة العثمانية مترامية الأطراف، التي دامت بضع قرون، لرأينا أن أحد أهم أسباب بقائها هو اللامركزية، وترك ما يوصف في عصرنا بالمجتمع المدني قويا وفاعلا وحرّا، فيما جففت الدولة العربية القطرية البوليسية منابع ازدهار المجتمع المدني بجعله مؤسسة تابعة لسطوتها وتوجيهها.


النكبة كارثة، ساوم العرب الشرق والغرب ففضلوا بقاءها كي لا تنهار الدولة، فدفعنا نحن شعب فلسطين المنكوب ولا نزال الثمن، و أدرك الحاكمون بأمرهم صنمية الدولة في عقول الناس، فجعلوا وجودهم بكل عوراته وسوءاته التي تزايدت بتسارع محموم، صمام أمان الحفاظ على الدولة...فصار حالنا:شعب منكوب في أرضه، مشرد أكثره في المنافي القريبة والبعيدة، ودولة عربية قطرية فاشلة في معظم شؤونها، وشعوب أكثر فشلا لأنها عاجزة عن فعل شيء لنفسها لاعتقادها بقدسية الدولة!

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الخميس 16 رجب 1435هـ ،15/5/2014م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين