أسرى الأرض المباركة

طيب المواقف التي باسم الله مَجريها ، وعلى مرضاته ورضوانه مُرساها ، يخلّد في ذاكرة الزمان ذكراها ، ويُسقط عنها أزمنة النسيان ، لتتلقفها بعد ذلك أنفسٌ أبيّة تنسج مواقفها على منوالها ، وتظلّ الأجيال الناشئة تدور في رحاها !
ومن ذلك ما نقشته ذاكرة الزمان ، من مواقف ترسّخت في الجنان والوجدان ، فاستُخلِصت بحقها شهادات وقيلت بها مقولات جرت بين الناس مجرى الحِكَم ، يعيها مَن أوتي البصيرة والفهم !
من تلك المواقف : المواقف الخالدة لأسرى المسلمين إنْ في العصور الغابرة أو الأزمنة الحاضرة ، حتى أدّت مواقفهم تلك إلى تغيير قناعات وتصويب فهومات ، كما هي الحال عند العلامة ابن القيّم حين نطق بالحق فأفصح وأبان مفهوم الأسر وحقيقة الأسير في ضوء بطولات أسرى المسلمين وتضحياتهم فقال : (الأسير من أسَره هواه ، والسجين من سجنته شهوته ، والمقيّد من قيده شيطانه ، فكيف يسير إلى الله قلب أسير مقيّدٌ مسجون ؟؟) فهذا هو الأسْر الحقيقي !
من هنا تحفّظ بعض السلف كعمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه - عن نعت حبيسي المسلمين لدى العدو بالأسرى فكان يعدّها من باب المكروه اللفظي بحقهم ،الذي لا يرتقي إلى قاماتهم ومقاماتهم ، بل وصفهم بـِ ( الحُبَساء ) فقال : (فإنكم تعدّون أنفسكم الأسارى ، ومعاذ الله، بل أنتم الحبساء في سبيل الله) والحبيس : الممنوع ؛ فهؤلاء منعوا من مواصلة مشوارهم على طريق تحقيق مأمولهم الذي من أجله خرجوا ، ومقصوده إذن : أنّ هناك أسراً دون أسر ؛ فقد يقوى العدو على أسر الجسد ، لكنه ليس بوسعه أسر الفكر والروح والشعور ، إذ الأسر الحقيقي هو أسر الفكر والجسد والرّوح للنزوات والشهوات !
قالوا حُبستَ فقلتُ ليس بضائري .. حبسي، وأيّ مهند لا يُغمدُ؟
والشمس لولا أنها محجوبة ....... عن ناظرَيْك لما أضاء الفرقدُ
والبدر يدركه السرار فتنجلي ..... أيامـــــــــــــــــه وكأنه متجددُ
والحبس إن لم تغشه لدنِيَّة في ........ الدّهر نعم المنزل المتوددُ

قالوا حُبستَ فقلتُ ليس بضائري .. حبسي، وأيّ مهند لا يُغمدُ؟
نعم فأسرانا البواسل سيوف حقّ غمدت إلى أجل ، وثمّ فرق بين سيف متحرّف لقتال لبرهة غُمِد ، وبين سيف قد ثلِم فوُئِد ، أو كُسِر فأخمِد ، أو صَدأ في مخبئه لأنه عن ساحة الصراع حُيِّد !
والشمس لولا أنها محجوبة ..... عن ناظرَيْك لما أضاء الفرقدُ
فغياب شمس الحريّة لأسرانا البواسل يكشف لنا معادن نفوسهم النيّرة ، والشذرات الخيّرة الكامنة في حناياهم ، ففي غيابهم تنوير للمسالك ؛ مسالك التحرير ، وإطفاء لمسالك التغرير ، إذ ستظلّ تستبصر الناشئة الجُدد الأمر الذي من أجله نهضوا ، وفي سبيله عقوداً في غياهب السجن أمضوا وقعدوا ! فغيابهم أضاء نجم قضيتنا في أذهان الناشئة الجدد ووجدانهم !
والبدر يدركه السّرار فتنجلي ................ أيامُه وكأنه متجددُ
فبينما ينطفئ نور القمر أواخر الشهر وتتلاشى معالمه ، وكأنّه ذاهب إلى غير رجعة ، فإذا به يُصقل من جديد ، وكذا أسرانا البواسل ففي غيابهم تجديد لعزائمهم وعزائم مَنْ وراءَهم ، وإنعاش للحقيقة حقيقة الصراع من جديد ! ونفض للغبار عن همم فترت ، وآمال خبت ! وطموحات ركدت !
والحبس إنْ لم تغشه لدنِيَّة في ... الدّهر نعم المنزل المتودّدُ
فبينما يزجّ أناس في غياهب السجون لجنحة خلقيّة مخلّة ، أو لوثة خيانة مُضلّة ، أو لزلّة سلوكيّة مذلّة ، تجد أسرانا البواسل قد فتحت لهم أبواب السجون لأنهم تصدّروا للدفاع عن قضايا الأمّة ، وهبّوا لينفضوا عنها ما شابها من غبش في التصور ، ويمحوا عنها الثلمة ، وليبثّوا في رُوْع الأجيال الناشئة العزيمة والهمّة ، فهل يستويان مثلا ؟!
فيا أسرانا وأحرارنا : تذكروا مقالة الإمام مالك بن أنس: (لا تغبطوا أحداً لم يُصبه في هذا الأمر بلاء) وأسرانا البواسل قد تصدّوا لأمر عظيم ، أمر تحرير الأرض والإنسان ، وهو أمر له استحقاق جسيم ، لكنه في الدنيا يهدي إلى صراط مستقيم ، وفي الآخرة يفضي – بإذن الله تعالى – إلى جنات النعيم ! فبينما يُشغِل فريق من الناس فكرَهم في جمْع حطام دنيوي، يشغل أسرانا البواسل فكرَهم في جمع وعي الأمة على طريق سويّ !
ولما سُجن الإمام البويطي صاحبَ الشافعي ووُضع الغُلّ في عنقه، والقيد في رجليه، كان يقول: (لأموتنّ في حديدي هذا، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم) شأن الثبات على ثوابت العقيدة وحقوق الأمّة وتحرير الأوطان ، فغدا هذا الوعي له ما بعده ! إذ مهّد لأن يخلف فيه خلوف ، قارعوا الأهوال والحتوف !
وكان البويطي وهو في الحبس يغتسل كل جمعة، ويتطيب، ويغسل ثيابه، ثم يخرج إلى باب السجن إذا سمع النداء، فيردّه السجان، فيقول البويطي: (اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني) فتأمّل إلى هذا العلامة الفهّامة لم يكن أسفه على شبابٍ خلف القضبان قضاه ، ولا على مآكل ومشارب فاتته جرّاء الأسر فلم ينل منها مذاقاً يهواه ! ولا على أوقات لهْو ، ولا متاع وحطام دنيويّ زائلٍ لم ينل منه مُناه ! ولا على تكديس ثروات وحيازة أسهم وعقارات والظفر بمناصب ووجاهات كان سيجنّد للظفر بها مسعاه ! إنّما أسفه على فوت كمال فضائل تُجْزَل له بها المثوبة من لدن ربّه ومولاه ! ولكن بُشراه بُشراه !!فما فات المرءَ شيءٌ في سبيل الله ، إلا جاءه العوض إن في دنياه أو في آخرته وعُقباه !
وقد سجن ابن تيمّة سبع مرّات وهو القائل : ( إنْ سجنتموني فالسّجن خلوة ، وإن نفيتموني فالنفي سياحة ، وإن قتلتموني فالقتل شهادة )
فأولئكم أصناف من الناس قد وعظنا لحظهم ، ونفعنا لفظهم ، فقد أفادوا أمّتهم بقضّهم وقضيضهم!
في ضوء ما تقدّم : كم من رجلٍ يصبح آمناً في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه ، بل وقوت غده وبعد غده، ثم هو بعد ذلك في سياق هموم أمّته لمن المُفرَطين !
وكم من رجلٍ بنعمة الحريّة يرفُل ، ويشرب ويأكل حتى يثمُل ، ثمّ هو بعد ذلك غافلٌ عن ذكر ربّه ، ساهٍ عن أنه ذات يوم بين يدي سيمثل ،وهو في حقّ قضايا أمته لمن المُفرِّطين !
ومثله رجل ذو مال وبنين ، وجاه متين ، ومنصب مكين ، وأمثالهم رجال حازوا العلوم والمعارف ! لكنّهم لم يبثّوا في رَوْع أمّتهم عزيمة ولا همّة ، ولم يبادروا لكشف غمّة ، ولم نشهد لهم في معاقد العزّ وساحات التغيير عَزمَة ، وهم بعد ذلك لمن المُمْتَرين المثبّطين وعلى قضايا أمّتهم ليسوا بمؤتمنين !
في ضوء ذلك فإنّ كلّ شعب منكوب مكروب مغلوب على أمره بحاجة إلى تطمينات ، تطمينات تبعث فيه الأمل وتذكي فيه روح العزيمة والعمل ، وتكون زاداً له على طريق التحرير، ولما كان للتطمينات مشارب شتى منها تستقى ، فإنّ أصدق التطمينات هي التطمينات الربانيّة ، والقرآن الكريم هو المورد العذب لارتشافها ، فكتاب ربنا طافحٌ بالتطمينات الربانيّة التي جرت مجرى السنن الإلهيّة التي لا تتبدّل ولا تتغيّر ، فأحداث هذا الوجود لا تجري خبط عشواء إنما وفق سنن : ( وكلّ أمر مستقر)(القمر: 3) مستقر على سنن ؛ فللنصر سنن ، وللتحرير سنن ، وللانعتاق من ربقة الاحتلال سنن ، وللاستخلاف سنن ، وللتمكين في الأرض سنن !
وممّا استقرّ من التطمينات في الأذهان فبدت شاخصة للعيان ، وساقتها لنا تصاريف الزمان: أن كل احتلال إلى زوال ، وكل سجن وسجّان إلى اضمحلال ، فانتصار الحق ، ورجوع الحق السليب إلى أهله سنّة كونيّة كخلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، سنة لا تتخلّف ولا تحيد ، قد تبطئ ، تبطئ لحكمة يعلمها الله تعالى ، وتتحقق بها غايات يقدّرها الله تعالى ، ولكنّ السنة ماضية ، ( وعْد الله لا يخلف الله وعْده ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون )(الروم6) فسيزوي الله تعالى سلطان المحتلين المتجبّرين ، وليقصمنّ ربّك ظهر الطغاة السجّانين، وينشر سلطان أصحاب الأرض المرابطين ، وينتصف للمشرّدين المقهورين المظلومين المحتلةِ ديارُهم ، المدنّسةِ مقدساتُهم ، المستباحةِ حرماتُهم ، المحبوسةِ شبابُهم ، المنهوبةِ ثرواتُهم !
قد يغلب على الأرض جبابرة وظلمة وطغاة ، وقد يغلب على الأرض غزاة متبربرون سجّانون ، لكنهم بموجب السّنة الربانية لن يكونوا سوى غزاة عابرين وسوف تخلد سنة الله رب العالمين ( ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) ( الأنبياء105 )
ولا يتمّ الإيمان إلا باعتقاد صدق وعوده وانتظار تحقق بشاراته ، وبالقطع الفكري والاطمئنان القلبيّ إلى ظهوره وظفره ونصره ، فإنّ لنصر الله أجلا ، وإلى أن يحين ذلك الأجل ، على أهل فلسطين أن يلبسوا لكل حالة لُبوسَها إمّا نعيمها وإمّا بؤسها !!
واللُّبوس الذي يتوجب على أهل فلسطين أن يرتدوه هو لُبوس تحرير الأسرى وفكّ قيدهم ، تأسّياً بنبيهم – عليه الصلاة والسلام – الذي ما أن وطات قدماه أرض طيبة الطيبة في بواكير مرحلة التمكين حتى شرع يصوغ دستور الأمّة ومشروعها الرياديّ للمرحلة القادمة فجاء في صحيفة هذا الدستور الخالد " بِسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ ، أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ دُونَ النَّاسِ ، الْمُهَاجِرِونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ ، وَهُمْ يَفِدُون عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رَبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الأُولَى ، وَكُلُّ طَائِفَة تَفْدي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ ذَكَرَ عَلَى هَذَا النَّسَق بَنِي الْحَارِثِ ، ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ ، ثُمَّ بَنِي جُشَمَ ، ثُمَّ بَنِي النَّجَّارِ ، ثُمَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، ثُمَّ بَنِي النَّبِيتِ ، ثُمَّ بَنِي الأَوْسِ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا مِنْهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ " .

فتأمّل كيف بدأ المشروع الإسلاميّ بالحضّ والتحضيض والتحريض على فكّ ( العاني) أي الأسير ، وفاءّ لهم وعرفاناً لتضحياتهم ، وتبرئة للذمم أمام الله تعالى والناس ، فأسرى المسلمين البواصل كانوا جسورَ العبور إلى مرحلة التمكين ، ومعابرَ إلى الظفر والنصر المبين ، فكان لزاماً على أفراد الكيان الإسلاميّ البدء بمشروع كسر قيدهم وفك أسرهم
هذا وقد اصطبغ الفقه الإسلامي لدى جهابذة علماء المسلمين بهذه المفاهيم الشرعية النيّرة ، فهذا الإمام ابن تيميّة رحمه الله يقرّر قائلاً : (( إذا سُبيت امرأة في المشرق وجب على أهل المغرب فكّ أسرها ..)) [الفتاوى البزازية ]
ويقول الإمام أبو بكر ابن العربي ـ رحمه الله : ((والنصرة لهم واجبة بالبدن بألا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم ، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، كي لا يبقى لأحد منا درهم من ذلك)).[أحكام القرآن 4/182].
وعن كفالة أسر الأسرى ورعايتهم وخلافتهم في أهلهم بخير كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأسرى المسلمين في القسطنطينية: (( إعلموا أني لست أقسم بين رعيتي، إلا خصصت أهلكم بأكثرَ من ذلك وأطيبَه))
فيا أسرى الأرض المباركة : لقد كنتم لأمتكم الفتيلَ والقنديلَ الذي تستمدّ منه الأمّة ضياء ونورا ، ومَنْ دونكم الرّمادَ الهامدَ الذي إن نفخت فيه استحال هباء منثورا !
يا أسرى الأرض المباركة : لقد كنتم لأمّتكم الصارمَ المسلولَ الذي يُتقى به في النائبات ، ومَنْ دونكم العلّة والمعلولَ الذي يخذل مؤمّله في الملمّات !
يا أسرى الأرض المباركة : إستعينوا بالله ولا تعجزوا ، وأبشروا واستبشروا ، فإنّ أشدّ ساعات الليل ظلاماً الهزيع الأخير من الليل ، وبعده يبزغ الفجر بإذن الله تعالى !! سلام على شهدائنا في عليّين ... وسلام على أسرانا في العالمين !!