نزيه شيخ السروجية
غيض من فيض ( 13) :
بين يدي الآن كتاب :
**دمشق فترة السلطان عبد الحميد الثاني 1293/ 1325 هجري ــ1876/1908 م **تأليف الدكتورة ماري دكران سركو
ذكرنا سابقاً إن المؤلفة قد قسمت عناصر السكان في دمشق كما ورد في الفترة الزمنية موضوع البحث الى 13 قسماً بدأنا بالقسم السابع(أهل الذمة)
وتكلمنا عن القسم الثالث (نظارة الأوقاف ومتوليها) والقسم الثامن(البرجوازية الوسيطة) والقسم الأول(فئة الحكام والموظفين ) و القسم الرابع (فئة الأعيان)
وسنتحدث عن القسم الثاني :
************فئة العلماء ورجال الدين والأشراف*************
احتفظت مدينة دمشق، عبر الأزمنة والعصور، بتقاليدها القديمة، وعُرفت بكثرة علمائها ومشايخها. وقد وجد في دمشق علماء من رجال التدريس والتعليم ممن يؤدون الوظائف العلمية، “منهم الشيخ سليم كبير آل بيت العطار الذي ألقى دروسه في جامع السليمانية .
وكان على الشيخ، التدريس في المسجد في الأشهر الثلاثة المباركة (رجب وشعبان ورمضان) . ويجلس لسماع الدروس، المشايخ الكبار وأصحاب الوجاهة. وكانت المجالس حافلة متنوعة تراعى فيها حرمة الحديث. “ومنهم الشيخ محمد الطنطاوي المصري الأزهري عالم الشام، وكان له اليد الطولى في علوم الآلات وعلم الفلك والميقات”.
وكذلك، الشيخ عبد الجواد القاياتي الذي استقبله، في رحلته إلى الشام في مدينة دمشق أبو خليل القباني صاحب الكوميديا والتشخيص بالشام ومصر. ومنهم أبو أحمد الجراح المشهور بفن الجراحة في الشام .
وعاش العلماء والمشايخ، في معظم الأوقات، في المساجد، حيث تعقد فيها حلقات العلم، ويجلس كل منهم وسط إحدى الحلقات فيلقي درساً على تلاميذه المداومين على سماعه، من طبقة الوجهاء وغيرهم. مثل الجامع الأموي وغيره من جوامع دمشق العريقة.
وقد استطاع الشبان الدمشقيون المثقفون في تلك المرحلة، ولا سيّما المستنيرون منهم الذين قادوا حركة النهضة في الفترة المدروسة بعد أن شعروا بضرورة التقدم أن يوجهوا انتقادهم إلى فئة العلماء، بعد أن ضعفت الحياة العلمية في أوساط هؤلاء العلماء، حيث انْتُقد جهل الفقهاء والقضاة ” بقلّة معرفتهم، وأنَّ الأحفاد ضعفوا عن اللحاق بالأجداد، في العلم والفقه وليس لهم من العلم إلا زيه ((محمد كرد علي ،بيروت1969م ج1 ص 32)) .
وكان الكثير من العلماء لا يحضُّ التلاميذ على المطالعة.. بل يحثهم على ترك القراءة لأنهم هم أنفسهم لا يرغبون في القراءة والاستزادة من العلم، ” وإنَّ قيامهم إن هو إلا قيام على العلم وليس مسحة دين يغارون عليه ولا سياسة يدافعون عنها. وإنما هي تقاليد ورثوها يودون الاحتفاظ بها. فإذا سقطوا من الأنظار لا تعود لهم مزية ولا مجد يرفع من أقدارهم ((فارس الخوري (أوراق) تنسيق وتحقيق وتعليق كوليت خوري دار طلاس دمشق 1989م ص 359/360. ))
وبالمقابل وُجد كثير من العلماء والمشايخ الزهاد (المتصوفة) الذين لبسوا الصوف على الصفاء والنقاء، وحافظوا على أرواح الناس وحقوقهم، وأبعدوا عنهم الشرَّ والأشرار، فكانوا يوجّهونهم إلى دروس العبادة والخوف من غضب الله، ليبتعدوا عن إيقاع الأذى بالناس في أجواء الفوضى السائدة بينهم. وما يؤخذ على الدولة العثمانية رعايتها للتصوف، وتقريب السلطان عبد الحميد الثاني لهم مثل أبو الهدى الصيادي شيخ مشايخ الطرق الصوفية وصاحب الحظوة لدى عبد الحميد الثاني .
وقد كثرت الطرق الصوفية المعروفة بزهد علمائها وكرامة مؤسسيها واتباع النهج السليم في حدود الشريعة الإسلامية السمحة، منها الطريقة النقشبندية، حيث كان لصاحبها مقبرة تعدّ من المقامات المقدسة في مدينة دمشق كمقبرة الشيخ خالد في قاسيون، حيث نقرأ في إحدى الوثائق:
“إلى والي ولاية دمشق الشام المحروسة، لإعطاء براءة للوقف لخدمة مقبرة الشيخ خالد النقشبندي إلى أحفاده بعد وفاة جدهم عمر النقشبندي ((أوامر سلطانية المجلد 7 و 28 ت 1278هجري ـ 1855م)).
وقد أنشأ والي دمشق المرحوم مراد باشا تكية للطريقة النقشبندية ((انتشرت في دمشق أواخر القرن17 على يد (مراد المرادي)ومن بعده أبنه (محمد)وأصلهم من بخارى والطريقة النقشبندية تنسب الى الشيخ (أحمد الفاروقي) الذي عاش في الهند وأشتهر بالمجد المصدر رافق ،بحوث أقتصادية ص 22)) ، هي اليوم جامع النقشبندية في حي السويقة بدمشق. وكان شيخها في فترتنا الدراسية، الشيخ محمد أفندي الخاني. وكذلك فقد هاجر الشيخ خالد من بلاد الأكراد في العراق إلى دمشق، وكان يقيم ويدرس في جامع العدَّاس بالقنوات. وقد توفي عام 1244هـ، 1827م وأوصى بدفنه في قاسيون، في التربة المعروفة باسمه اليوم. وخلفه بعد وفاته الشيخ (أفندي الخاني). وبعد وفاة هذا الأخير، أخذ ولده عبد المجيد أفندي أصول هذه الطريقة خلفاً له، بعد بلوغه سن الخامسة والخمسين من عمره، بموجب هويته العثمانية.
ونقرأ في الأمر السلطاني، تأكيداً على ما يتمتع به ابن الشيخ من علم وصلاح بصفته من خلفاء التكية المشار إليها وطريقتها المتبعة الظاهرة لدى المؤمنين. وأنه لهذه الصفات، يمكن العهدة إليه بمشيخة التكية(( اوامر سلطانية،دمشق المجلد 11 و 102 ، 1316هجري 1899م)).
وقد ورد في البراءة العالية، تخصيص راتب أو معاش من جانب مالية الخزينة للمذكور. وهذا إن دلَّ على شيء، فهو يدل على مدى وعي الناس والاهتمام بأهمية من يُعلِّم الناس أصول الدين ويوجههم.
وكان ينفق على هذه الطرق، من الأموال التي تدرّها الأوقاف الواسعة التي كانت موقوفة عليها وعلى غيرها. وكان شيوخ هذه الطرق على درجة عالية من العلم والمعرفة. وهم من العلماء الأفاضل حيث قيل: “العلماء ورثة الأنبياء”.
وفي إحدى الوثائق نلاحظ أنه يوجد “جرد حافل لمقتنيات من الكتب الثمينة التي ضمتها مكتبة شيخ الطريقة السعديةالجباوية ...(( الزاوية السعدية الجباوية تقع في الميدان الفوقاني كانت أصلاً تربة للأمير إينال نائب الشام الذي قتل عام 842 هجري في حوران ودفن في تربته ولم تكن قد أنتهت فجاء الشيخ السعدي الجباوي فسقفها وسكنها ،وبعده سعد الدين فرفع سقفها ثم الشيخ حسن يقال إنه من قطّاع الطرق فجاءه الفتح والكشف وتاب الى الله فصار له خاصية الكشف والبرء من الجنون لآل السعدي وخلفه إبنه حسين ،ثم إبنه سعد الدين ،ولهذه الزاوية شهرة كبيرة في دمشق وهي ماتزال الى اليوم ،ولهم زاوية في القيمرية .المصدر العلبي خطط دمشق ص 479))..التي وصلت إليه بالإرث الشرعي، فهو من إحدى عائلات العلماء والمفكرين .
وبينت لنا الوثائق الطريقة الشريفة السعدية الجباوية بدمشق الشام، وأن مدافنهم العاطرة ” داخل الجامع الشريف الواقع بفناء قرية جبة .
وذكر أن الشيخ الجليل الذي كان يدرّس في الجامع الأموي الشريف يعتبر من العلماء الأفاضل، ويورث لأحفاده، إذا كانوا من الأولياء الصالحين ذوي السمعة الطيبة، عمله. وفي إحدى الوثائق نقرأ مايلي:
” حضر حامد أفندي وجدُّه العلامة بكري عطار زاده من أهالي ومعتبري دمشق الشام، وقرر ما يلي: ” إن جدي المشار إليه كان يدرّس درساً عاماً بين العشاءين( أي بين المغرب والعشاء ) عدا عن ليلتي الجمعة والثلاثاء في الجامع الأموي الشريف الكبير بدمشق. ففي الشتاء في المحراب الشافعي داخل الحرم، وفي فصل الصيف في ساحة الجامع المذكور، عند العمود المعروف بالمشعل الواقع بين قبة الساعات والبحرة، وذلك منذ خمس عشرة سنة لحين وفاته.
وإنّي بعد وفاته باشرت هذه الوظيفة، وصرت أدّرس الدّرس المذكور بنفسي بين العشاءين، في المحراب. وعليه ألتمس تقريري بهذه الوظيفة كما كان جدي. فأذن له. وذُكرت الطريقة الدندراوية، والبدوية، والرشيدية، والقادرية .
وتقلَّد بعض العلماء عدة مناصب في وقت واحد، مثل الشيخ الجليل محي الدين أبي الشامات حيث نقرأ في إحدى الوثائق التّالي:
” تمَّ تعيينه في وظيفة الخطابة في التكية الشاذلية( (هي اليوم زاوية أبو الشامات في باب الجابية ـ قنوات )) الشهيرة بالبلطة جيه الكائنة بالقنوات .
ونقرأ في الوثيقة التالية: ” تمّ تعْيينه في وظيفة الإمامة في مسجد التكية الشاذلية الشهيرة بالقنوات، نظراً لاقتداره وأهليته على أداء هذه الوظيفة، ونظراً لتحقق أهليته وولايته . وفي الوثيقة التالية نقرأ:” يُعيَّنُ في وظيفة التدريس في التكية المذكورة بالقنوات بالعلوم النقلية والعقلية وذلك حسبة(( حسبة لوجه الله اي بدون أجر)) لوجه الله تعالى، تقريراً وإذناً شرعيين مقبولين”. وقد قرأنا في إحدى الوثائق عن عدد من علماء دمشق وأشرافها في تلك الفترة الذين اجتمعوا وأكدوا على سُنّية التابعي الجليل ابن الإمام الصحابي أبي أيوب الأنصاري الخزرجي البخاري رضي الله عنه، وعن كافة أصحاب رسول الله، حيث كان منهم صاحب الطريقة السعدية بدمشق المحمية أمين السعدي، ومحمد القوتلي والعلامة طاهر أفندي مفتي دمشق الشام سابقاً”.
هذه الطرق والمؤسسات الدينية التي كانت لا تحيد في بداية أمرها وعهد شيوخها الأوائل، عن الشريعة الإسلامية قيد أنملة، عبث العابثون بها وتدخَّل الجهلاء فيما بعد في شؤونها، مما أدى إلى استفحال الأمر والتمادي في الغوص في البدع على مر الزمان، حيث ظهر منهم بعض الشيوخ الجهلة الذين لا يعرفون من أمر الدين إلا القليل، فابتدعوا للناس طقوساً ومراسم ليست من الدين في شيء.
“إلا أنَّ هذه الطرق قد تضاءلت، أوائل القرن العشرين، بانتشار العلم وكثرة المتعلمين، فلم يعد ثمة حاجة للرجوع والاعتماد على شخص أو أشخاص ليسوا كشيوخهم علماً ومعرفة، وإنما هم جهلاء مقلدون قد ضلُّوا سبيل شيوخهم وأفاضل علمائهم”(( أحمد حلمي العلاف،دمشق مطلع القرن العشرين ،منشورات وزارة الثقافة دمشق 1976م ص 80)) . وقد تحدَّث المعاصرون لتلك الحقبة عن حفلات الأذكار التي كانت تقام في أواسط طبقة المشايخ التي اقتصرت على المدائح النبوية المترافقة مع حركات إيقاعية، في مقدمها حفلات خاصة لدراويش المولوية، حيث كان يحضرها الوجهاء والرسميون والسّـيّاح خاصة(( العظمة مرآة الشام ،ص 133)) .
كما كان يقوم أصحاب الطرق ومؤيدوهم بزيارات خاصة لبعض الأضرحة المعروفة والأحياء والقرى المجاورة، ويسيرون باتجاه برزة حيث الكهف المعروف باسم مقام إبراهيم الخليل في يوم خميس يدعى خميس المشايخ. ونظراً لحدوث بعض الحوادث الدامية، فقد أعلنت الحكومة العثمانية منعها.
((انهينا فئة العلماء ورجال الدين والأشراف)) : وسنتحدث لاحقاً عن قسم آخر من عناصر السكان في دمشق في الفترة موضوع الدراسة إن شاء الله .))


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي