بسم الله الرحمن الرحيم

التحدي الإلهي بالقرآن الكريم
يظن كثير من الناس أن التحدي الذي أطلقه القرآن الكريم لإثبات عجز الإنس والجن ولو اجتمعوا كلهم على أن يأتوا بمثله(1) ، إنما هو تَحدٍّ ينصب على صياغة لفظية مماثلة له ، لكن الحقيقة التي تعلمناها من المنظور الرباني والنبوي والميزان الشرعي ألا ننظر إلى الأشياء بصورها الظاهرة فقط، بل إلى حقائقها الكامنة وراء الصور ، ففي الحديث الشريف: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم )، ولذلك أرى أن التحدي يرتبط بحقائق أساسية يستند إليها، وأهمها مضمون المعاني (العلمية والأدبية والتشريعية)، فكل كلام له صورة لفظية تعبر عن حقيقة ومضمون، ولا قيمة للصورة اللفظية إن لم تعبر عن حقيقة أو حقائق مفيدة (2) ، فالقرآن الكريم نزل بلغة عربية صحيحة فصيحة بليغة جزلة ، ومعنى ذلك أن أي كلام عربي صحيح الصياغة جزل العبارة يماثل كلام القرآن الكريم في صورة بنية الكلمة والجملة العربية (3)، بمعنى أنَّ وجه الشبه بينهما أنهما صيغا بلغة عربية سليمة، لكن الفرق الكبير والتحدي الأكبر يكمن في المصدر والمضمون والقدرة على صياغة بيان المضمون الهائل المعاني بلغة فصيحة جزلة قادرة على الإحاطة بالمطلوب، كأن تكون معبرة عن سائر الحقائق الكونية الخلقية الإبداعية بحيث مهما اتسعت الاكتشافات ستجدها محتواة ضمن النص ذاته .. وعندئذ نجد فرقاً هائلاً وكبيراً بين النصين الإلهي المصدر والبشري المصدر، ولذلك لم يتمكن أحد من الإتيان بما يداني القرآن لا صياغة ولا مضموناً.
فمثلاً ، حاول المضللون نشر عبارة لاحقة بسورة النجم بعد قوله : أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى )، على أن النبي عليه الصلاة والسلام قال بعدها وهو يصلي في حرم الكعبة : (تلك الغرانيق العـلى وإن شفاعتهن لترتجى (، بما يشبه ألفاظ السورة، فسجد لها المشركون على أنها من القرآن وقالوا بأن محمداً سيذكر آلهتهم بخير بعد ذلك، لكن الحقيقة واضحة فهي عبارات تخالف أساس الدعوة التي جاء بها النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فمعانيها إلحادية وشتان بين الحقيقتين. وكيف يقبل العقل بأن للحجر شفاعة عند الله تعالى رب الوجود كله؟ ، ثم قيل بأنها مما ألقاه الشيطان في أسماع المشركين.
وهكذا فالتحدي القرآني يشتمل على عدة حقائق مطلوبة ، ليبقى قائماً إلى يوم القيامة مهما تقدمت العلوم وتطورت قواعد اللغة وبلاغتها، بل على العكس رسَّخ تقدم العلوم وظهور مكتشفاتها الحديثة كلها صحة الحقائق العلمية التي جاء بها القرآن الكريم مما دفع الكثير من العلماء في الفلك والطب وسائر العلوم الأخرى أن يعلنوا إيمانهم وإسلامهم ، وتبين لهم أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من وضع بشر ، لأن حقائقه كانت خيالاً بالنسبة لعصر النبي عليه الصلاة والسلام، ولم تكتشف إلاَّ في عصرنا الحالي، منها مثلاً قوله تعالى عن الكون (وإنا لموسعون)، ولم يكن يتصور أحد أن الكون في اتساع إ، لكن هذه الحقيقة لم تظهر إلا في عصرنا الحالي، وبلا شك ستكتشف حقائق كثيرة أخرى وسيتضح مكانها في القرآن الكريم، وسنذكر فيما يلي أهم الحقائق المطلوبة ليتحقق التحدي:
1- المصدر : جاء النبي محمد عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام القرآني على أنه من عند الخالق الواحد المبدع الخلاّق لجميع من وجد في هذا الوجود . فالادعاء يقول بأن مصدر الكلام القرآني المنزل على قلب الرسول الكريم إلهي ، وبالتحديد من إله واحد لا شريك له. فإذا كان هذا الادعاء باطل فليأتوا بمثيل له من عند إله آخر غيره يدعون وجوده أو من عند أصنامهم التي يعبدونها، أو حتى من عند الله إن كانوا يؤمنون به (4) . وإنَّ الصدق في المضمون والحقائق هي التي تثبت مصداقية القول على أنه فعلاً تنزيل من الذي خلق هذه الأكوان والمخلوقات ونظم قوانينها.. فمثلاً ، كانت أول سورة نزلت هي سورة (العلق) ، جاء فيها : (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق.)
كان ابتداء التنزيل فعل أمر إلهي يتطلب إعمال الفكر بالاستقراء والقراءة الكونية من خلال التعرف على الأسماء الإلهية ومنها الرب الخالق ، فهو ابتداء نصح بسلوك طريق المعرفة ليرتقي الإنسان ويوسع مداركه ويقوي بصيرته ليتعرف على الحقائق بذاته فلا يغشه أحد ، وهذه النصيحة لا تصدر إلا من ولي ناصح مربٍّ خالق يريد الخير لعباده. كما بيَّـنَ صاحب هذا القول بأنه هو من خلق الإنسان من مكَوِّن قابل للعلوق في الرحم (5) ، فإذا كان لديكم أيها الإنس والجن إله غيره خلقكم فليقل لنا ما المكون الأساسي في خلق الإنسان.، حتى وإن كان لديكم علم أصح من هذه الحقيقة فلتأتوا بـها.. وهكذا تابعت الآيات سرد التعريف بالمصدر الذي يبدي نصائحه لخلقه...(اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم)، ثم أخبر عن أول الغيبيات وأهمها في صلاح الخلق، وهو يوم الحساب ( ثم إلى ربك الرجعى) ، وانظر باقي الحقائق التي تتكلم عنها السورة ، فإذا لم تكن مقنعة بصدقها من المصدر ، فليأتوا بمثلها من حقائق خلقها خالق غيره.
ثم إننا نلاحظ أن قراءة العبارات تشعر بالخطاب المباشر من المصدر لعباده وليس منقولا عنه نقلاً بصيغة إخبارية غيبية. فلتأتوا بخطاب من خالق غيره إن كان موجوداً ، ويبين لنا حقائقه.
2- الحقائق والمضمون: ثم يأتي التحدي الثاني في ميزان المضمون ، فالكلام له صورة وله حقيقة ، ويُقدَّر ثقل ميزانه بحسب ثقل الحقائق التي يشتمل عليها. فالمضمون الذي نزل به القرآن الكريم متعدد الحقائق والأهداف التي لا حصر لها ، وأهمها التعريف بالخالق الواحد وأسمائه الحسنى، ثم التذكير بفضائله ونعمه على الخلق ، ومن خلالها تبرز الحقائق العلمية التكوينية في المخلوقات، وهذه الحقائق لا يعلمها حقاً إلاَّ خالقها وبارئها. فإن كان لدى غيره خلافها فليبينها ويدحض بها ما جاء به هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. كما جاء هذا التنزيلي بحقائق الحكمة من الخلق والهدف منه ، مع القوانين الكونية والأخلاقية والتشريعية الناظمة لجميع الحقائق ، وبيان ارتباطها ببعض. فهل يستطيع أحد أن بضع قوانين تنظم هذا الخلق غير خالقه.
3- الإعلام بالغيبيات : لقد نزل القرآن الكريم بخبر السابقين ابتداء بخلق الخليقة ومنها خلق الكون والملائكة والجن ثم خلق آدم وما كان من قصص الأمم السالفة واللاحقة إلى يوم القيامة. فإذا كان هناك من يستطيع أن يفند ذلك فليأت بالحجة والبرهان. وقد علم صدق الإخبار عن التاريخ السابق مما ثبت في المدونات التاريخية المحققة والآثار المكتشفة ، وثم تأكد التوثيق أكثر بعد الإخبار عن المغيبات اللاحقة ، فمن يَصْدُق بما يخبر عنه بأنه سيكون في المستقبل فمن باب أولى أن يَصْدُق بما سبق وحدث. وهكذا تتوالى الوثائق الصادقة بالتطبيق الواقعي .
4- جوامع الكلم : جاءت صياغة الكلام القرآني مكثفة مركزة ببلاغة وفصاحة وجزالة معجزة في التعبير عن المضمون، فالمضمون يشتمل على حقائق يستلزم بيانها مجلدات عظيمة، فآيات خلق الإنسان من نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة ثم الإنشاء بصورة معدة لتكون خلقاً آخر... آيات معدودة الكلمات تضمنت علم الجنين كله. فهل يستطيع كائن من كان، من الإنس أو الجن أن يأتي بمثل تلك الحقائق والصياغة غير خالقها؟
5- أثر قراءة القرآن : إن من يتطهر ويقرأ القرآن الكريم بحب وصدق لطلب الحقيقة ،يشعر حقاً بطمأنينة نفسية ، كما يشعر بأنه بين يدي ربه وكأن الخطاب موجه ليس فقط لرسوله بل لجميع خلقه. وهو شعور تبثه حقائق كلمات القرآن الكريم المرتبة ترتيباً عجيباً خارقاً للعادة.، كما ثبتت فائدة التداوي بالقرآن الكريم منذ نزوله فهو دواء وشفاء. وهذا لا يكون إلا إذا كان الكلام إلهي المصدر.
الخلاصة:
يعتمد التحدي الإلهي بالقرآن الكريم على عدة حقائق تثبتها المصداقية الواقعية التطبيقية. فالمضمون بحقائق القرآن هو التحدي الأكبر(6) ، وكل خلل في مضمون الكلام يعبر عن حقيقة مصدره هل هو مصدر إلهي أم بشري. وشتان في الأثر بين المصدرين ..فالمصدر البشري صادر عن مخلوق جاهل فكيف يكون له أن يخبر عن خلق هو جزء منه ولا يعلم عنه شيئاً؟!! ما لم يكن هذا الإخبار عن وحي من المصدر الإلـهي الخالق المبدع الموجد.
ولما كان للكون إله واحد، لا يقبل العقل السليم سواه ، فمصدر القرآن الكريم هو هذا الإله الواحد العليم العلام الكريم الرحمن الرحيم... كما أن المصدر البشري خاضع ليس فقط للخطأ بل للتناقض لأن البشر يتطورون بمداركهم ، وما يبدو لهم صواباً الآن قد يثبت خطؤه في المستقبل، وأما القرآن الكريم فلا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة.
ومن هذا المبدأ كان التحدي وسيبقى قائماً إلى يوم القيامة، فلا يمكن لأحد أن يأتي بكلام جامع لحقائق الخلق وما كان وما سيكون إلا من المصدر الإلهي وهو الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي اختار المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام لتنزيل كتابه على قلبه الطاهر وتيسيره على لسانه الفصيح. والحمد لله تعالى.
===========
هوامش :
1- (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الإسراء -88
ثم كان التحدي بالإتيان بعشر سور : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) هود-13، ثم كان التحدي بسورة واحدة : (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) البقرة- 23
2- بيَّـن النبي عليه الصلاة والسلام هذه الحقيقة من خلال حديث الحارث . من طريق ابن لهيعة عن خالد بن يزيد السكسكي عن سعيد بن أبي هلال عن محمد بن أبي الجهم عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له :
يا حارث كيف أصبحت ؟ ٌ فقال : أصبحت مؤمنا حقاً، قال : انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة [ فما حقيقة إيمانك ] ؟ ٌ قال : لقد عزفت نفسي عن الدنيا وأظمأت نهاري و أسهرت ليلي و كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا و كأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها و كأني أنظر إلى أهل النار يتعادون – أو يتعاوون – قال : يا حارث نور الله قلبك ، عرفت فالزمْ ( ثلاث مرات).
3 - (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) يوسف – 2 ، (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) الزخرف- 3
4 - وهذا طبعاً لن يكون لأن الله تعالى اصطفى نبيه لتنزيل كتابه عليه.
5- بينت آيات كثيرة أن هذا المكون الأساسي هو النطفة التي لم تكتشف إلا بالمجاهر ، ومنها يمكن أن يتولد الذكر والأنثى، مثلاً في سورة النجم (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى 45 مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) ، وبين في سورة الحج تسلسل الخلق بقوله : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا...5)
6 - هذا القرآن نزل للعالمين أجمع مهما اختلفت لغاتهم، وما يهم هذه الشعوب الحقائق التي يتضمنها أي كتاب ناظم لحياة الإنسان، فالصياغة اللغوية مهمة لكن المضمون أهم.