لك الحقّ في الاختيار:
أن تتمرّد أو أن تُستعبَد

ولامكان للاعتدال!!




كتبها: فيصل الملّوحيّ

- النخبة:

لا بدّ لكل مجتمع إنسانيٍّ من متميّزين علماءَ ومتخصّصين في الطبّ والهندسة.. وروّاداًفي العمل الاجتماعيّ، فحاجته ماسّةإلى كلّ منهم في مجاله، وعلى كلّ واحدمن النخبة في مجال إبداعه أن يخدم مجتمعه إرشاداًوتوجيها وبناء. وعامّةالناس مضطرون إلى الاتباع يفهمون شيئاً وتغيب عنهم أشياء، قد يناقشون في بعض المسائل وقد يعجزون عن أكثرها.

ولكن قديختلف الروّاد في آرائهم واجتهاداتهم فيقع العامّةفي حيرة، ولا يدرون ما يفعلون، ثمّ يضطرون إلى اللجوءإلى من تطمئنّ نفوسهم إليه أكثر في علمه وإخلاصه، قدلا يكون في هذامسوّغ علميّ! ولكن ما باليدحيلة، سوى أن يُجرّب العامّةمثلا طبيباًمرّات ومرّات، وتتردّد على ألسنتهم:ماشاءالله هذاالطبيب يده كيدعيسى، وذاك الجرّاح مات على يده فلان وعلان!.

- التعالي على المتخصّصين:

قد يقع المثقّفون العامّة في عنجهيّة تفرض عليهم الحطّ من قدرعلماء بناء على المعلومـات التي تلقَّوها، وقليل العلم يطغي! فيتجرَّؤون عليهم في مجالسهم الخاصّة أو على صفحــــــات ما تيسّر لهم من صحف وشبكة دوليّة ومواقع التخاطب الاجتماعيّ.

- آمين:

قد يحدث العكس عندما يطأطئ بعض العامّة رؤوسهم، ويقولون آمين.

ومعنى آمين أنْ تدعوَ الله تعالى ليجيب ما ترجوه منه، ومن المنطقيّ الذي يلزم الشرع به أن تعلم ما تدعو الله له، ولا تدعوه إلا لخيرك ولغيرك، فإذا التبس عليك الأمر فكيف تدعــــــوه، كيف تقول لله عزّ وجلّ آمين؟! وربّما كان ضرّا،وأنت حين تستمع إلى دعاء الخطيــــب عليك أن تفهم هذا الدعاء و تقبل به ليكون لك لسان تنطق به أمام الله وتقول لله استجــــب، أمّا أن تردّد آمين بلا فهم فكيف يستجيب الله لك ؟ ليس في نفسك شيء، قلبك فارغ من أية رغبة!

ثمّ الثقة بالخطيب واجبة ، ولكن ليس لك أن تؤمن جازماً بكلّ ما يقول ما دمت لم تصل إلى العلم الذي حصّله، بل عليك السكوت فيما لا تستطيع أن تقتنع به.

- واقع المجتمع:

ينقسم المجتمع وغالباً ما يكون انقسامه بلا منطق، عندما يتعصّب أفراده دون دليل يفهمونه لمتخصّص، ويقفعون موقف العداء لمتخصّص آخر في كلّ ما فهموه وما لم يفهموه!! وأكثر ما يقع هذافي الجانب الدينيّ، وأخشى ماأخشاه على المجتمع من كلمة ( آمين ) التي تحوّلت عند كثير من المسلمين من معناها الراقي إلى كهنوت أي ترداد للكلمة وهم لا يفهمون دائما ما يقولــه الخطيب أو الذين اتبعوهم.
واقع المجتمع أن يؤمن بصدق عالم مثلاًفكلّ مايقوله حقّ، والمشكلةالكبرى عندما يدافع عن صاحبه تعصّباً بالباطل وليس لديه دليل مقنع.
الاتباع الأعمى كارثة على المجتمع، أضرب مثالاً يجري في عروقنا مجرى الدم، كنّا ثلاثة أحدنا طبيب، أحببت أن أسأله سؤالاً علميّا يتعلق بالحلّ والحرمة على فهم الجانب العلميّ - سألته لا لأنّه المختصّ فعلاً في الموضوع، لكنّه كان أقربنا إلى الاختصاص - كان السؤال : هل يتحول ( الجلاتين ) علميا من مصدره الخنزيريّ كتحوّل الخمرة إلى خلّ،؟ فالتفت ثالثنا، وقال: لقد أحلّ فلان–العالم عنده–(الجلاتين). إنّ هذا الموقف غير جائز لا شرعاً ولا علما، فالمفتي الذي أتقن قواعد الاجتهاد يطلب في هذا الموضوع رأي المختصين، ثمّ يفتـــــــــــي، كما تفعل المحكمة عندما تطلب الخبراء.
ليس للمفتي أن يتكلّم بثقافته العلميّةإلا للبيان بدون أن يبنيَ عليهاحكماإلابمعونة المتخصّص في معلومة علميّة،ومثله العالم لا يفتي إلا أن يُقدّم معلومته العلميّةإلى المفتي ليؤسّس عليها إفتاءه .وحبّذاأن تتكوّن لجان متعاونة للعمل على هذه الموضوعات لتداخل العلوم فيها كيلا يتعدّى أحد حدود علمه. رحم الله المجمع العلميّ العربيّ( الذي صار مجمع اللغة العربيّة رغم أن صفة العلميّ أدقّ للتعبيرعن أعماله )يقوم بعمله الأول في وضع مصطلحات العلم العربيّة لجنة ثلاثيّة: عضو لغويّ عربيّ، وعضو لغويّ مختصّ بلغة النصّ العلميّ،وعضو متخصّص في الموضوع المترجم عنه،ثمّ تُعرض نتائج أعمالها على مجلس المجمع للموافقةأوالتعديل.

والموقف المعاكس حين يُطلَب أن يكون الناس كلّهم مجتهدين، كما قال عالم: على كلّ الناس أن يجتهدوا كما كان كلّ الصحابة مجتهدين، والعجيب أنّه يخفي أن الصحابة لم يكونوا كلّهم مجتهدين، فالصحابة المجتهدون معدودون معروفون، مثلاً كان أبوهريــــــــرة محدّثا – ناقلاً للحديث- لا مجتهدا، رغم أنّه كان من أهل الصُّفّة – المنقطعين في المسجد -. يقول الحديــث الشريف: ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه - أخرجه أحمــــــــد والترمذي وأبو داود. أضف أن الناس جميعاً عرباً وعجما سيكونون قادرين في رأيـــه على فهم العربيّة وأصول اللفقه والحديث وتفسير القرآن الكريم..!!

المشكلة الكبرى:

- أن يكون لفيف من الناس مع عالم يدافعون عنه وهم لا يدرون ما يدافعون عنه غالبا، ولو اكتفوا بالصمت لهان الأمر وقُبل منهم.
- أو أن ينكروا على عالم آخر ويعادوه ويعدّوا كل مايقوله باطلا، وينفوه وهم لا يدرون ما يقولون.

موقع الأخبار في المجتمع:

الأخطر أن يتناقل المجتمع الأنباء بدون سند ولا إثبات وقد تنسب إلى شهود عيان، فما وافق آراءهم أخذوا به، وما خالفها اتهموا أصحابها بالكذب والتلفيق، بل الأخطر أنْ يردّدوها وهم مستعدون للحلف على صدق ما يقولون!! بل لا يشعرون أنّهم يكذبون أويفترون فما يقولونه حقائق لا تُفنّد! الرأي القاطع عندهم أن أصحابهم صادقون لا ينقلون إلا الحــــــقّ، وأعداءهم كذّابون لا ينقلون إلا الدجل.
النتيجة أن ينقسم المجتمع شيعاً وأحزابا يتناحر أفراده بالقول أحياناً وباليد وما تحمله اليــــد أحيانا، قد يتعايشون فيما بينهم مع بعض الحقد أو كثير منه ، وقد يرفضون الطرف الآخــــر فيحاولون إقصاءه، وقد يعملون على بتره.

يتأرجح المجتمع بين طرفين متناقضين:

- فإمّا تمرّد على جهة،

- وإمّا استسلام مطلق لجهة أخرى وعبوديّة لها.





- الاعتدال والدعوة إلى الوئام:

تعجبني نخبة في المجتمع تدعو إلى الوئام بين أفراد المجتمع والتعايش المسالم فيه وتعاون بعضهم مع بعض.
ولكنّ خطأهم العلميّ أن يعدّوا كلّ الأراء صحيحة، وهذا في الحقّ غير صحيح، الحقّ عند الله لا يتعدّد، و يتعدّد عند الناس، لكلّ رأيه الذي يأخذ به وربّما يعتزّ بما يحمل، ولكن ليس له فرض رأيه على الآخرين، إنّما يقول كما كان الشافعيّ وغيره: رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب. وللعلم إنّ التخيير بين عملين رأي واحد لا رأيان.

الغاية الأولى ألا يكون إجبار للآخرين وقهرهم على رأي مخالف إلا ضمن حدود القوانين والشرائع.

وأمر آخر يعرفه الجميع أن فلاسفة وعلماء يأخذون بالرأي الذي يقول: إنّ الحقّ لا يتعدّد، وأنّ آخرين يقولون: إنّ الحقّ يتعدّد، لكن ليس من باب أنّه حقيقة مجرّدة، إنّما هو وصف لواقع يعيشه الناس.
وقد يأخذ معنى الاعتدال عند فريق التوسّط في التطبيق بين حقّ وباطل!أي بين رأيي ورأي مخالف، فلاأتشدّدفي الأمر، كأن أكون وسطاً في الخمرةأتساهل مع من يشربها شرب العقلاء (raisonnable)في أوربة! لا أحرّم مطلقا، ولا أحلّل مطلقا: اعتدال وتوسّط،لا أسمح بلقاء
كامل في الجامعة بين زميل وزميلة ، ولكن أسمح باللمم كماينصح الأستاذ جمال أخو الإمام حسن البنّا!

هذا أمر عجيب، ما أراه أنّ الحقّ لا يُنصّف ولا يُجزّأ، المهم ألا أفرض رأيي على غيري.

ساد بين بعض الفقهاء أنّ الناس قد يكونون على صواب أحياناً حين ينقسمون على رأيين متناقضين كما حدث في توجّه المسلمين إلى بني قريظة. والحقيقة أنّ الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – لم يعترض على عملين فقط ولم يوافق على رأيين مختلفين( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة – متفق عليه ).يصعب على خطباء الغرب فهم المجاز لضعفهم في العربيّة، ولايشكّ عربيّ عاقل أنّ ماأراده الرسول– صلّى الله عليه وسلّم–أن يُعجّل المسلمون في الخروج لمباغتة بني قريظة – تدبير حربيّ -، ولا يمنع هذا من أدركته صلاة العصر في الطريق ورأى أنّهالاتؤخّره عن لحاقه ببني قريظة أن يصلّيَ، ومن صلّى بعـدوصوله فصلاته جائزة لأنّه صلاهافي وقتها أوقضاها، وغفر الله له فهمه. المهم أنْ نفهم ألاعلاقة للنصّ فعلاً بوقت صلاةالعصر،وإنّما سرعة التحرّك، وصلاة العصرتحكمها قواعدأخرى ليست في النصّ.

قال الألباني في «الضعيفة» (1981) -معلقاً على هذا الحديث-:

( تنبيه ) : يحتج بعض الناس اليوم بهذا الحديث على من يدعون إلى الرجوع فيما اختلف فيه المسلمون إلى الكتاب والسنة، يحتج أولئك على هؤلاء بأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أقر خلاف الصحابة في هذه القصة ، وهي حجة داحضة واهية ، لأنه ليس في الحديث سوى أنه لم يعنف واحداً منهم.

المهمّ أنّ فهم النصوص يحتاج إلى دراية وافية باللغة العربيّة وقواعدها المختلفة ، ثمّ إلى علوم أخرى كثيرة شرعيّة و اجتماعيّة...

خلاصة الموضوع:

أدعو أفراد المجتمع إلى إعمال العقل فيما يختلفون فيه على قدر استطاعتهم، وأن يحترموا آراءغيرهم بلا تقديس،وأن تسود بينهم المحبّة،وأن يفرضواعلى نفوسهم التعاون والتآزر؟

وأن يُجلّوا النخبة ولا يتمرّدوا عليها، وألا يكونوا في الوقت نفسه عبيداً لها يدافعون عن آرائها دون وعي، وأن يعتدلوا بمعنى أن يعتزّ كلٌّ برأيه دون أن يكون في اعتزازه تعدّ على الآخرين في سلوكهم وآرائهم.


والله من وراء القصد.