سورة النور
(مثل نوره كمشكاة)


اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 35

هذا مثل يصور حقيقة نور هداية المخلوقات بشكل عام والمؤمن بشكل خاص، مصوراً المثل بما يعرفه العرب من أشكال المصابيح التي يستعملونها في ذلك الوقت لإنارة ظلماتهم، كأقرب تمثيل لبيئتهم ، ويمكن تصويره بأحد المصابيح من النماذج الحديثة كالمصباح الكهربائي الحديث المثبت في سقف الغرفة، أو مصباح السيارة الأمامي، ليبين المثل صورة جميلة أيضاً للناس في هذا العصر الذين ربما لا يعرفون طبيعة المصباح الزيتي القديم.

ابتدأت الآية الكريمة باسم الذات الإلهية (الله)، وهو الاسم الجامع لجميع الأسماء الحسنى الأخرى كالرحمن والرحيم والحنان والمنان والعليم والعلام...
لا يتصور العقل السليم أن يخلق هذا الخالق العظيم بأسمائه الحسنى مخلوقاته ويتركها بلا هداية تتخبط في مسيرها أثناء حركتها وتنفيذها لما خلقت له...
إنه سبحانه وتعالى متكفل بهدايتها. وأما طريقة هذه الهداية فتختلف حسب كل مخلوق وطبيعته، فأطوال الأمواج الضوئية التي تناسب عين الإنسان تختلف عن أطوال الأمواج التي تناسب عيون باقي الأحياء الأخرى. حتى الجمادات لها طريقة خاصة برؤيتها، فهي ستشهد علينا يوم القيامة..
وهناك هداية من نوع آخر للمخلوقات المكلفة، إنها الهداية بالعلم والمعرفة النابعة عن علمه سبحانه وتعالى.

مَثَل هذه الهداية النورانية في قلب المؤمن بالله سبحانه وتعالى مثلُ نورٍ غاية في القوة والنقاء والصفاء، بحيث لا يدع مجالاً للظلمة في طريق من يستهدي به.
يصور المثل هذا النور بصورة مصباح منير يستمد نوره من زيت نقي منير يشتعل على شكل شعلة مضيئة في رأس فتيلة مُحاطة بزجاجة تقيها الرياح وتجانس إضاءتها بحيث تناسب عين الرائي ، وهذا المصباح محفوظ بمشكاة (كوة حافظة مرتفعة ) لينير الظلمة المحيطة به على أوسع مجال.

ماذا تمثل هذه الرموز في الواقع ؟
هناك عدة معان يمكن أن تنطبق على هذه الرموز والصور الجميلة ، منها :
المصباح : مصدر النور ، ويتمثل قديماً بشعلة النار التي تشتعل في رأس الفتيل المنغمس في الزيت، ويرمز إلى معرفة الله تعالى وأسمائه الحسنى وتعاليمه التي بينتها آياته الكريمة ( ما ينزله الله تعالى من كتب سماوية – وآخرها آيات القرآن الكريم ).
المشكاة : الكوة المرتفعة الحافظة في الجدار التي يوضع فيها المصباح لتحفظه من السقوط أو التعرض لتيارات الرياح ، كما تسلط وتعكس ضوءه لينير الغرفة التي تحتوي عليه. ولذلك يمكن أن ترمز إلى الصحف الحافظة للآيات ، أو صدر العبد المؤمن الذي يحيط بقلبه الذي يحفظ هذه الآيات ، كما يصح الترميز بالإشارة إلى المساجد التي تبث العلوم الشرعية بكل أصنافها بواسطة العلماء الذين يقيمون دروسهم فيها ( كل عالم مصباح )
الزجاجة : بالنسبة للمصباح هي الأداة التي تنشر نوره وتنسقه بشكل متجانس . وتتمثل ببيان الرسل لآيات الله التي تتنزل عليهم (سنن الأنبياء – وآخرها سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم).
الكوكب الدري المضيء : منظر مجموع الزجاجة وبداخلها المصباح المنير أثناء الإضاءة. ( الآيات والسنة المبينة لها محفوظة بقلب المؤمن).
الشجرة المباركة الزيتونة : الآيات الكونية الشاملة ، التي تمثلها الكلمات الطيبات التي تؤلف الآيات والسور والتي تبين حقيقة لا إله إلا الله وما يريده الله من عباده.
زيت الزيتونة المباركة : حقيقة لا إله إلا الله ، فهي الرحيق الذي يـمد المخلوقات بطاقتها الحيوية وتنير درب السالكين ، فكل شيء في الكون ينطق بهذه الحقيقة ويستنير بها ، فهي مضيئة بذاتها ولا تحتاج إلى اشتعال لكي تنير، فكيف إذا اشتعلت بالمصباح.
من هذه الرمزية نستحضر الصورتين التاليتين:
الصورة الأولى :
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (هداه المتمثل بآياته الكونية التي يختطها القرآن الكريم) ،مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ (القرآن الحافظ للآيات الشريفة) فِيهَا مِصْبَاحٌ (معاني الآيات وتعاليمها وهداها) الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ (السنة النبوية المبينة لمعاني ومراد الآيات)، الزُّجَاجَةُ (بما تبينه من آيات) كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ (الآيات الكونية المنتشرة في سائر الاتجاهات ) يَكَادُ زَيْتُهَا (طاقتها وحقيقتها) يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ (حقيقة لا إله إلا الله) ، نُّورٌ عَلَى نُورٍ (معرفة الله بأسمائه الحسنى على تعاليمه في آيات القرآن الكريم ) يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء (من يصدق في طلب الهداية) وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ (للتقريب والتوضيح)، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 35

الصورة الثانية :
صدر المؤمن أو قلبه مشكاة أو حافظة المصباح (ويتمثل المصباح بمعرفه أسماء الله تعالى وعلوم آياته القرآنية) ، ويوقد هذا المصباح من طاقة إمداد حقيقة التوحيد (لا إله إلا الله) الراسخة في الكون في هذا القلب الشفاف والمستمدة من شجرتها المنتشرة في شتى أرجاء الكون (لاشرقية ولا غربية) فيجتمع في قلب المؤمن نور معرفة الأسماء الحسنى وعلوم آيات القرآن الكريم ويغذيها رحيق التوحيد .
وهكذا تتلخص الصورة الثانية من الآية الكريمة كما يلي:
اللَّهُ نُورُ (هدى) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ (هداه ) كَمِشْكَاةٍ (صدر أو قلب المؤمن) فِيهَا مِصْبَاحٌ (معرفة الله وتعاليم القرآن الكريم) الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ (السنة النبوية) ،الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ (بما فيها من مصباح) يُوقَدُ (المصباح) مِن (زيت) شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ (شجرة التوحيد : لا إله إلا الله) يَكَادُ زَيْتُهَا (حقيقة لا إله إلا الله) يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ (وسيلة الاشتعال) نُّورٌ عَلَى نُورٍ (معرفة الله وعلوم آياته) ، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ( من يصدق في طلب الهداية، وله بصيرة سليمة) وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ (للبيان والإيضاح والتقريب للأذهان) وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.35
وهناك صورة ثالثة تنقدح من الآية التالية للآيات السابقة وهي قوله تعالى:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ 36
فهذا النور موجود في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ...
لن أفصل هذه الصورة وسأتركها لمتدبر معاني الرموز السابقة وتصور هذا النور في المسجد.
والحمد لله تعالى.

ملاحظة :
خطرت ببالي صورة حديثة مطابقة للمكونات الأساسية في المصباح القديم يتجلى مشهدها بالمصباح الكهربائي الحديث المحفوظ في سقف الغرفة (مشكاة) وله غطاء زجاجي حافظ وناشر للضوء بشكل متجانس. ومثله أيضاً تكوين مصباح السيارة الأمامي ففيه المكونات التالية :
المصباح : هو اللمبة الكهربائية التي تضيء عند مرور التيار الكهربائي بدل نار الفتيلة سابقاً.
المشكاة : الحاوية أو التجويف الذي يوضع فيه المصباح سواء في السقف أو حاوية مصباح السيارة التي يكون سطحها الخلفي عاكساً للضوء باتجاه الأمام.
الزجاجة : الحافظة الزجاجية الأمامية التي تجعل نور المصباح متجانساً وقوياً وتحفظه من تيار الهواء وغيره من المؤذيات له.
الشجرة الزيتونة : مجموعة المولد الكهربائي والبطارية ومحرك السيارة بما فيه من زيت. أو مولدات الكهرباء الرئيسية في المدينة (بالنسبة لمصباح الغرفة الحديث)، رمزاً لتشعب الآيات الكونية المولدة للطاقة الكهربائية والحركية.
الزيت : رمز طاقة الإمداد في المصباح الزيتي القديم ، وبديله في مصباح البيت الكهربائي أو السيارة يتمثل بالطاقة الكهربائية التي تكاد تضيء بلا نار.
وأنا أرى أن هذا التمثيل القرآني للنور الإلهي يمكن إيجاد رمزيته في كل زمان ، والهدف منها تقريب المعنى المطلوب لعقول البشر في أي زمان حسب ما يألفون، للتعرف إلى طبيعة الهداية المرتكزة أساساً على معرفة الله تعالى وأسمائه وتعاليمه المنزلة في كتابه المقدس.
والله أعلم.