جاء "مثل الجنة التي وعد المتقون" في سورتين من القرآن الكريم ("الرعد" ، و"محمد"، عليه الصلاة والسلام) وإليكم شيئاً مما اتضح من تدبر هذين المثلين:
سورة الرعد

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ 35
.

لم يرَ الإنسان الجنة التي في الدار الآخرة ، ولذلك يضرب الله تعالى لـها الأمثال من زوايا متنوعة ليقرب صورتها للأذهان.
وهنا في هذا المثل يصورها بـجنة من جنان الدنيا وارفة الأشجار المثمرة المتنوعة منها ما تعطي ثمارها صيفاً ومنها ما تنتج ثمارها شتاء بحيث يكون عطاؤها مستمراً دائماً لا ينقطع خلال العام، كما تشتمل من أكلها الطيب أيضاً على الطيور الجميلة المغردة التي تقف على أغصانها لتشدو بأصواتها أغان بألحان رائعة الجمال بـما لم تسمعه أذن من قبل ، وتحيط بها وتتخللها الأنهار العذبة المياه والتي تتسرب تحتها بحيث تغمر جذور أشجارها فلا ينقطع رواؤها أبداً ، وبذلك ليست بحاجة لأي مصدر مائي آخر (كالأمطار) . أوراقها دائمة الخضرة ، متواصلة مع بعضها بحيث تحجب أشعة الشمس المؤذية ومن يكون تحتها يتمتع بظلها الدائم الذي لا انقطاع له. وقد ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : إنَّ في الجنة شجرة، يسير الراكب المجد على الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها، ثم قرأ: (وظلٍّ ممدود).
فغذاء هذه الحديقة كامل دائم من ثمار متنوعة، كما تتوفر فيها لحوم الطيور اللذيذة التي أشار إليها بكلمة أكلها الشاملة لنتاج الأشجار وما يقف عليها من طيور، فهو غذاء كامل من جهة وممتع لذيذ من جهة أخرى، ولا ينقطع أبداً فلا جوع ولا عطش في مثل هذه الجنة، يتجلى فيه اسم الله الثابت أو الدائم، وكذلك حال الظل الدائم فلا تنفذ أشعة الشمس المؤذية... جنة تتوفر فيها كل وسائل الراحة والطمأنينة والسعادة .. هذه جنة الدنيا تـمثيلاً، وأما جنة الآخرة فلها مميزات إضافية فائقة...
ففاكهتها متوفرة بكل أنواعها الفصلية في آن واحد فلا فصول هناك ، وديـمومتها لا تنقطع فكل فاكهة تقطفها ينمو بدلـها وفي مكانها بديل مباشر ، فلا استهلاك فيها وكل شيء يتجدد فوراً، وقد ورد أن ساكنها إذا رأى طيراً واشتهاه خر بين يديه ناضجاً فإذا فرغ منه عاد طائراً،.. فلا مثيل لمثل هذه الجنة في الدنيا . ولكنه تصوير تقريب للذهن.
إنَّ مثل هذه الجنة الخالدة هي نصيب المتقين الذين آمنوا بربهم وسعوا لكل ما يرضيه.
وأما عاقبة الكافرين بالله فهو النقيض لهذا النعيم ، إنه الجحيم بما فيه من لظى النيران.
اللهم ارزقنا العيش بجناتك الوارفة ، في فردوسك الأعلى يا رب العالمين ، وليس ذلك على كرمك ولطفك ورحمتك بعزيز.



سورة محمد

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ 15

في هذا المثل وصف جميل لبعض معطيات الجنة ومتاعها، فيها أنهار متنوعة من الأشربة كالماء النقي العذب الجاري (غير آسن = لا ريح له) ، واللبن الطازج حلو لم يتغير طعمه للحموضة وأنهار من خمر لذيذة المذاق لا تسكر (حدد صفتها بقوله لذة للشاربين) وأنهار من عسل صاف لا شائبة ولا شمع فيه، وكلها من مباهج الحياة التي لا تنقطع حيث جعلها أنهاراً ، فمنها للإرواء فلا عطش ومنها للإمداد بالطاقة فلا جوع ومنها للذة الذوقية ومنح البهجة والسرور، وهي كلها لها شبه في الدنيا وليست مطابقة لها ، مشابهة في الاسم ومختلفة في المادة، فهي لا تترك فضلات مثلاً.. وفيها فوق ذلك فاكهة مما يتخيرون وأكثر مما يعرفون. والأعلى من ذلك كله الشعور بغفران الله تعالى... هذا شكل من أشكال صور الجنة التي يقيم بها المؤمنون المتقون.
وبالمقابل مقام يقض المضاجع في جهنم للكافرين فالجو لظى ولا ماء يروي بل حميم وغساق يقطع الأمعاء فما بالك بالطعام إذا كان هذا حال الماء! فطعامهم من غسلين – صدأ وقيح.
عليك بالمقارنة والاختيار، ولكل خيار طريق وثمن.
والحمد لله رب العالمين.