الحوار - الاختلاف - تعدد الأراء : ضوابط وآداب - 15

--------------------------------------------------------------------------------

اشكالية التعميم
الكاتب : محمد معافي المهدلي

تعيش أوساطنا الثقافية والعلمية كثيراً من الإختلالات والإشكاليات والتي نلمس آثارها السلبية في واقع حياتنا ، من ذلك إشكالية التعميم ، فالبعض يحلوا له أنْ يصنّف الناس كلهم بتصنيف واحد ، ومعاملة واحدة دونما نظر إلى كل حالة على حدة ، فتجد البعض يعتبر النصارى جميعاً صنفاً واحداً ، والمسلمون جميعاً صنفاً واحداً ، والعلمانيون جميعاً صنفاً واحداً ، واليهود جميعاً صنفاً واحداً ، وكذا المشركون صنفاً واحداً ...الخ وهذه المنهجية مع كونها تصادم الشرع الحنيف ، تصادم أيضاً سنّة التنوع والاختلاف في سير الكون والخليقة ، وبالتالي تصادم أيضاً قيم التعامل الإنساني السليم .

ومما يدعوا للعجب والاستغراب أن نجد سُنّة الاختلاف في كل شيئ في الحياة والمخلوقات ، فالثعابين مثلاً كنوع من أنواع الشر والخبث في عالم الحيوان ، ليست نوعاً واحداً بل هي أنواع وأشكال متعددة ومختلفة ، فمثلاً الحيّات العمياء تبلغ أنواعها 150 نوعا ، وتبلغ أنواع السحالي العملاقة أكثر من 700 نوع في مناطق العالم الجديد.

والأفاعي أيضا أنواع شتى منها السام ومنها غير السام متعددة الأشكال والألوان خذ نوعا منها فقط وهي أفاعي الكوبرا والممبا حيث تبلغ أكثر من 200 نوع تقريبًا.

كما تشتمل الحيات الخبيثة على حوالي 100 نوع ، وتقول بعض المصادر العلمية أن عدد أنواع الثعابين الحالية أكثر من 2700 نوع ثلثها فقط سام .

إنّها سنَّة كونيّة إلهيّة في الخلق والمخلوقات لا ينكرها عاقل ، فلم لا نتعامل أيضاً مع البشر بهذا المعيار الكوني ، لم يحلوا للبعض أن يجعل الأرض كلها عبارة عن وحوش وأعداء ، ولم نحن المسلمون لدينا القدرة الفائقة على صنع الأعداء والخصماء دون الأصدقاء والأحباب؟! ، وكيف لا نجعل من الأعداء أحباباً ومسالمين ؟ وفق قانون الإسلام في الدعوة والعلاقات ، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، هذا أمر ، أما الأمر الآخر: فهل الحقيقة كذلك؟! أعني هل اليهود والنصارى والعلمانيون َليْسُواْوالوثنيون كلهم سواء الجواب الشرعي يقول: كلا ، كلا ، كما قال تعالى: سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ {113} يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ {114} وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ ، وقال تعالىخَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ {115}‏ : {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75} .

ولولا الإطالة لذكرت نصوصاً من الكتاب والسنة لا تحصر في هذا الباب كلها توجب على المسلم أن يفرق بين الألوان والأنواع والأشكال والأشخاص والأعيان .

إن طائفة من النصارى الكاثوليك مثلاً هم الأقرب إلى المسلمين وإلى معتقداتهم ، بل إن بعض طوائف الكاثوليك يعتقدون بالتوحيد ، وأن السيد المسيح عليه السلام رفعه الله تعالى إليه ، كما يعتقد ذلك المسلمون .

فيم اليهود أيضاً ليسوا سواءاً، فمنهم الصهاينة السَّفاحون والقتلة ومصاصوا الدماء والثروات والخيرات ، ومن اليهود يهوداً يعادون الصهيونية العالمية ويؤمنون بحق الشعوب في الاستقلال والحياة الحرة والكريمة ، ومن هذه الشعوب شعب فلسطين .

ومن الأميركان جماهير لا تعد ولا تحصى لا ترضى ولا تقبل بسياسة الرئيس بوش ، ومنهجيته في الاستعلاء والغطرسة وبناء إمبراطوريته على الأشلاء والدماء والجماجم سواء في فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو غيرها .

قل هذا كذلك في شعوب أوروبا التي تعمُّها المظاهرات العارمة بين الفينة والفينة منددةً مستنكرةً إحتلال العراق واضطهاد شعبه ، في الوقت الذي خُدّرت فيه الإرادة العربية وعلاها الصمت الرهيب وخيّم عليها الاستبداد والظلم والقهر .

وإنْ كان أيضاً في حديثي هذا نوعاً من التعميم لا أرتضيه ، وإنما أريد أن أبيّن معياراً هاماً يجب أن نتعامل به في تعاملنا الإنساني ، حثنا عليه الإسلام ودعانا إليه .

إنّ أحادية النظرة إلى الآخرين أو منهج العداء والكراهية للبشر منهج يضاد الشريعة الإسلامية السمحة التي تعادي الأفكار والعقائد المنحرفة لا الأشخاص بأعيانهم ، ولذا رسّخ رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هذا المفهوم ، كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقولرب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) .

فالبراء في الإسلام لا يعني بحال أن تتقطع كل أواصر التعاون وكل معاني التسامح والبر والإحسان وكل معاني الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما يفهمه البعض أو كما يريد البعض أن يعمّمه على كل الكافرين والمشركين ، بل المراد البراء من قيم الجهل والشرك والطاغوت مع حرص تام ومستمر لمد جسور التعاون والدعوة والرحمة والرأفة والإشفاق بحسب الأحوال والأشخاص ، فالإسلام لا يرضى ولا يقبل التعميم في الأحكام ، كما قرر هذا فقهاء الإسلام في قواعدهم وأصولهم الفقهية التي تكاد تكون في حكم المجمع عليها من أن "الأحكام الشرعية تتغير وتختلف بحسب الأحوال والأشخاص والأزمان