الحوار - الاختلاف - تعدد الأراء : ضوابط وآداب - 14

--------------------------------------------------------------------------------

من أسباب الخلاف: الانشغال بالمسائل الجزئية عن القضايا الكبرى
فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي
إن من دلائل عدم الرسوخ في العلم، ومن مظاهر ضعف البصيرة بالدين: اشتغال بعض الناس بكثير من المسائل الجزئية والأمور الفرعية عن القضايا الكبرى التي تتعلق بكينونة الأمة وهويتها ومصيرها، فنرى كثيرا منهم يقيم الدنيا ويقعدها من أجل حلق اللحية أو الأخذ منها أو إسبال الثياب، أو تحريك الإصبع في التشهد، أو اقتناء الصور الفوتوغرافية أو نحو ذلك من المسائل التي طال فيها الجدال، وكثر فيها القيل والقال.

هذا في الوقت الذي تزحف فيه العلمانية اللادينية، وترسخ الصهيونية أقدامها، وتكيد الصليبية كيدها، وتعمل الفرق المنشقة عملها في جسم الأمة الكبرى، وتتعرض الأقطار الإسلامية العريقة في آسيا وأفريقيا لغارات تنصيرية جديدة يراد بها محو شخصيتها التاريخية وسلخها من ذاتيتها الإسلامية، وفي الوقت نفسه يذبح المسلمون في أنحاء متفرقة من الأرض، ويضطهد الدعاة الصادقون إلى الإسلام في بقاع شتى.

والعجيب أني وجدت الذين هاجروا أو سافروا إلى ما وراء البحار في أمريكا وكندا وأوربا لطلب العلم أو طلب الرزق قد نقلوا هذه المعارك الجانبية إلى هناك.

وكثيرا ما رأيت بعيني وسمعت بأذني آثار هذا الجدل العنيف، وهذا الانقسام المخيف بين فئات المسلمين، حول تلك المسائل التي أشرنا إلى بعضها وما يشبهها من قضايا اجتهادية ستظل المذاهب والآراء تختلف فيها، وهيهات أن يتفق الناس عليها.

وكان الأولى بهؤلاء أن يصرفوا جهودهم إلى ما يحفظ على المسلمين وناشئتهم أصل عقيدتهم، ويربطهم بأداء الفرائض، ويجنبهم اقتراف الكبائر، ولو نجح المسلمون في تلك الأقطار الأجنبية في هذه الثلاث: حفظ العقيدة، وأداء الفرائض، واجتناب الكبائر، لحققوا بذلك أملا كبيرا وكسبا عظيما.

ومن المؤسف حقا أن من هؤلاء الذين يثيرون الجدل في هذه المسائل الجزئية وينفخون في جمرها باستمرار، أناسا يعرف عنهم الكثيرون ممن حولهم التفريط في واجبات أساسية مثل: بر الوالدين، أو تحري الحلال، أو أداء العمل بإتقان، أو رعاية حق الزوجة، أو حق الأولاد، أو حق الجوار، ولكنهم غضوا الطرف عن هذا كله، وسبحوا بل غرقوا في دوامة الجدل الذي أصبح لهم هواية ولذة، وانتهى بهم إلى اللدد في الخصومة والمماراة المذمومة.

وهذا النوع من الجدل هو الذي أشار إليه الحديث ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح).

ويذكرني هذا بما رواه لي بعض الإخوة في أمريكا عن أحد الذين ارتفعت أصواتهم بالإنكار على أكل اللحوم المذبوحة من طعام أهل الكتاب، مما أفتى بحله عدد من العلماء قديما وحديثا، وكان هذا من أعلاهم صوتا، وأكثرهم تشددا، وهو في الوقت نفسه -كما روى لي الثقات- لا يبالي أن تكون الخمر على مائدته، فهذه نقرة، وتلك نقرة؛ يعني أنه يتشدد ويتوقف في المشتبه فيه والمختلف عليه، على حين يقتحم حمى المحرمات اليقينية الصريحة بلا توقف ولا مبالاة‍‍‍‍!!.

ومثل هذا الموقف المتناقض -الاجتراء على الكبائر والوسوسة في التوافه- هو ما أثار الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حيث سأله مَنْ سأله مِنْ أهل العراق عن دم البعوض ونحوه بعد قتل السبط الشهيد سيد الشباب الحسين بن علي رضي الله عنهما.

فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن أبي نعيم قال: جاء رجل إلى ابن عمر وأنا جالس، فسأله عن دم البعوض؟ -وفي طريق آخر للحديث أنه سأله عن محرم قتل ذبابا- فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق. قال: ها! انظروا إلى هذا، يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعني الحسين رضي الله عنه)، وقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: هما ريحانتاي من الدنيا (أخرجه أحمد، وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح).