تدبر الأمثال القرآنية
(مثل الذي استوقد ناراً)
بسم الله الرحمن الرحيم
مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون (البقرة 17+18).
يحتمل هذا المثل معان متعددة منها:
الصورة الرئيسية الأولى في السياق الظاهر للآيات السابقة له والمتعلقة بالمنافقين (لأن المثل ورد بعد آيات المنافقين).
والصورة الرئيسية الثانية شمولية متعلقة بعموم الآيات منذ بداية سورة البقرة التي تقسم المجتمع بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مؤمنين متقين وكافرين (من مشركين لا إيمان لهم مع أهل كتاب بما لديهم من بصيص نور ، مع منافقين متذبذبين بين الفريقين المذكورين حسب المصلحة التي تحقق مآربهم وهو ما يجعلهم أقرب للكفرمنهم إلى الإيمان). ويدعم هذه الصورة الشمولية المثل التالي الوارد في الآية التالية (19) : (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق...) وسنشرحه بعده مباشرة.
الصورة الأولى متعلقة بالمنافقين : مثل الذي استوقد ناراً ، مثل أي شخص منهم لا يرى الأشياء حوله على حقيقتها، ولذلك يشعر بحاجته للنور ، فيسعى لإيقاد نار (تمده نوراً ودفئاً وحماية له ) لتضيء له طريقه ويسير في الطريق السليم متجنباً العثرات والحفر. فلما جاء من يوقد له النور وأضاء ما حوله ، تبين أنه بقي لا يرى وهذا يعني أن العلة كامنة فيه ، في عدم رؤيته لمحيطه ، فالعلة لا تكمن في انعدام النور وإنما في العمى الحقيقي (عمى البصيرة والإدراك) المصاب به . وقد بينت هذه العلة الآية التالية لها مباشرة التي بينت بأنهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون إلى الحق ولا يطلبونه عن صدق.
معنى آخر تحت الصورة الأولى (أساسه للشيخ النابلسي مع تصرف للاختصار ) :
استيقاد النار بالنسبة للمنافق تتمثل بكده وسعيه لعمارة وازدهار الدنيا حوله من بيوت وأعمال وأموال، وامتلاك مصادر الطاقة والقوة في الدنيا حتى إذا ازدهرت له ونورت ما حوله، جاءه الموت وتركه في ظلمات القبر لا يبصر شيئاً ولم يستفد من هذه الدنيا شيئاً، بل قد تكون سبباً من أسباب عمى بصيرته كما تكون عليه ناراً حقيقية لأنه يجمعها في الغالب من الحرام. والعلة فيهم أنهم صم لم يسمعوا كلام الحق وعمي عن آيات الله تعالى.
ويتضح المعنيان من الآية الكريمة مباشرة كما يلي :
مثلهم ( المنافقون) كمثل الذي استوقد ناراً ( أي شخص منهم يستكثر مما يعتقده نوراً له وحقيقته نار عليه) فلما أضاءت ما حوله ( أي تألق بريق ما حوله لم ير شيئاً منه، سواء في الدنيا نتيجة عمى بصيرته أو تلف ما جمعه أو بالموت ، ما يوضح بأن السبب هو ) أنَّ الله ذهب بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * (فهم) صمٌ بكم عمي فهم لا يرجعون.
الصورة الشمولية الثانية :
تأتي بعد تصور الحالة الاجتماعية الشمولية لحالة المجتمع قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو مجتمع جاهلي مؤلف من مشركين كفرة وأهل كتاب حرفوا كتبهم فعاشوا في ضلال مبين ويعتبر ما بقي من نور كتبهم ضئيل لا يكفي للاستنارة، وقد شعر الجميع بالظلمة واستبشروا بنور هداية ، ينير لهم طريق الحق المنجي في الدارين والمنقذ من مهالك هذه الحياة. وقد شعر من بينهم قبل البعثة محمد بن عبد الله بهذه الظلمة وطلب الهداية من رب الكون فذهب في تعبده منفرداً حتى جاءته شعلة الهداية وبعث بنور الآيات القرآنية . فلما أضاء للناس الحقائق (ما حوله) استنار بها ورا] نورها ذوو البصائر السليمة التي ترى النور (من آمنوا) ، وتركه من هو مصاب بعلة العمى (عمى البصيرة) سواء من كان مشركاً أو كتابياً أو منافقاً . فسار هذا المستنير حامل شعلة الهداية مع من تبعه في الطريق المستقيم الموصل لبر الأمان وترك من من كان أعمى ورفض اتباعه متردياً في مهاوي الظلمات السحيقة الكالحة ، وقد نسخ جميع الشرائع الكتابية السابقة له التي لا تدل على طريق الهداية بشكل صحيح. (ذهب الله بنورهم).
ويصبح تحليل المثل ببساطة حسب المعنى الشمولي كما يلي :
مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً (محمد عليه الصلاة والسلام) فلما أضاءت ما حوله من المجتمع بجميع شرائحه ، ذهب الله بنورهم (نسخ الشرائع التي كانوا يستهدون بها) ، وتركهم ( أي ترك هذا الرسول المستنير بنور الهداية عمي البصائر ممن لم يروا أحقية هذا النور لعماه ) في ظلمات لا يبصرون* ( لأنهم) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (إلى الحقيقة مجردة عن الشهوات).
أرجو أن أكون قد وفقت إلى البيان، والله أعلم بالحقيقة.
والله ولي التوفيق.