لعنة الليل...............محمد محضار

قصة قصيرة : لعنة الليل +قراءة تحليلية لهذا النص السردي للاستاذ حسام الدين نوالي

العيون شاردةضائعةولفائف التبغ تحترق بين الأنامل, والأفكار تنساح من الأذمغة مضطربة في غير تناسق..الكلمات تتدحرج موغلة في الغموض من بين الشفاه, ولعنة السراب تطوق الأعناق..
المدينة تلبس عباءة حالكة , وتهرق كؤوس فجورها عند أقدام مومساتها وتعلن بداية الليل..
على الرصيف سار متخاذلا , يحتوي جسده معطف ثقيل..يكح ويبصق ..كان مزكوما يخنق السعال صدره , وأنفاسه تتسارع ..يقف على حين غرة أمام ملصق إعلاني لعلبة ليلية, تتراقص عيناه الجائعتان في محجريهما وهما تقعان على صورة الراقصة التي تتوسط الملصق ..يلعق شفتيه بلسانه , وهو يتأمل صدرها العامر , ثم يتطلع الى باب العلبة المزين بمصابيح النيون الملونة..تتوقف أمامه فجأة سيارة سوداء فاخرة, يترجل منها كتلة لحمية تنط بطنه أمامه, وترقص عجيزته خلفه..صلعته تلمع من أثر الدهن, وفي يده ينتحر سيجار ضخم..تتبعه حسناء رشيقة القوام يلف جسدها ثوب من الستان الأزرق, ويتدلى من شحمتي أذنيها قرطان ذهبيان..ويحلي جيدها عقد لؤلوي لماع..
يدلف الكتلة اللحمية صحبة الحسناء, إلى العلبة الليلية تحت نظراته الجائعة..يقترب من السيارة الفارهة..ينظر بانبهار الى دواليبها المتينة , ثم زجاجها المعتم ويمضي يدور حولها كإفريقي يمارس طقوسه الطوطمية..
فجأة يحس بيد توضع على كتفه..يستدير بسرعة ليجد نفسه بمواجهة شرطي عابس, يسأله الشرطي:
- ماذا تفعل هنا ؟؟
يرد باضطراب :
- فقط أتأمل السيارة
- تتأملها ام تخطط لسرقتها
يعقد ما بين حاجبيه , ثم يقول :
-حاشا يا سيدي ..أنا لست لصا
- هل معك بطاقة تعريفك ..
- نعم ..
يمد للشرطي بطاقة تعريفه والكحة تخنقه . يلقي عليها الشرطي نظرة فاحصة:
- حسنا لست محل ريبة أوشك ..لكن ابتعد عن السيارة ..
يبتعد بخطى متخاذلة ..ثم يعود الى السير من جديد على الرصيف ..يلفح وجهه نسيم البحر الرطب..يقطع مسافة طويلة بين شوارع المدينة, شاردا تعصف رياح التيه بحبل أفكاره, والكحة تخنقه..ينتظر أن يحدث تغيير في حالته النفسية ..يتسرب الى أسماعه مواء القطط الضالة, وهي تعبث بصناديق القمامة , فيشمئز ويقرأ البسملة ..
حارة "لاحونا"1تبدو هادئة , وقد استسلمت للعتمة ..يجد نفسه نفسه وسطها وهو على مرمى حجر من بيته الوضيع..
مقهى الأب جلول كالعادة تضيق بالرواد الذين يحتسون الحريرة الساخنة ..يدلف الى الداخل يحتل منضدة متهالكة في ركن قصي..
يطلب زليفة من الحريرة وخبزة من الشعير, ثم يمضي يلتهم وجبته , وعيناه تعانق الوجوه الكالحة المنتشرة في المقهى.. يتذكر الراقصة العارية والكتلة اللحمية والحسناء الفاتنة والسيارة الفارهة..تعلن تقاسيم وجهه عن احساسه بالغبن والتقزز...فيقول في نفسه" رجا في الله"...........

1كلمة تحيل على التهميش

محمد محضار مراكش8/09/1985


قراءة تحليلية للنص للأستاذ نوالي



بعض الكتابات تجبرنا على التوقف. تجبرنا على إعادة القراءة. وتجبرنا على رفع القبعة والانحناءة.
جميل هذا الذي قرأته، وممتع.. لماذا؟
مهرجان اللغة الأنيقة التي ترتب بها تطورات الحكاية يبني سُلّما آخر نحو متعة النص.
والنص يبني حكايته على تصور ثنائي، إنه تصور في سياق التوتر. ينشد إلى قطبين. والقطبان يستقطبان إضاءة السارد من جهة، وفضاء الشخصية من جهة أخرى لتشكيل بؤرة تضاد تعمق مأساوية الرؤيا.
للنص زمن واحد، وهو زمن الامتداد -كما يحلو لكتاب السرد تسميته-، وضمنه ثاث وحدات حكائية:

1- حكاية العلبة الليلية
2 حكاية البحر
3- حكاية مقهى الأب جلول

هل هو نص واحد كُتب في زمن نفسي متماثل، أم هي ثلاث قصص قصيرة جدا متجاورة؟

يمعن السارد في تعذيب الشخصية، والتنكيل بأفقها ولذاتها ومتعها فيوقفها أمام المرقص أكثر من اللازم، ويزيد في الحصار بإحار الشرطي إلى الحكاية، بحيث يصير المتلقي ليس فقط مشاركا للشخصية في انكسارها الداخلي ولكن أيضا عطوفا عليها، وهي على المستوى التقني للقصة منحت الكاتب متسعا جميلا لتوريط المتلقي. ففي نهاية المطاف ليس في النص عبارة ذات "حكم قيمة" اتجاه الشخصية، يعني ان طيبوبة الشخصية وبراءتها مقابل دناءةالعالم المقابل لها هو شأن داخلي في بناء عالم النص وليس معطى لغويا. واسمحوا لي أن أوضح بهذا ما قلته في نص سابق (أعتقد أنه نص "خيانة")، من حيث أن حكم القيمة الذي يطلقه السارد يجعل القارئ مسجونا أكثر، ومنقادا نحو عالم السارد وليس عالم النص وتفاعلات الشخصيات.
وهنا نموذج جميل. فالسارد ليس مع ولا ضد عالم ما، إنه سارد وحسب. ولأنه كذلك فهو يقودنا من حيث لا ندري إلى ما يريد: يوقفنا أطول أمام العلبة الليلية، ونعيش حينها كل التناقضات والوجع، ثم يرمينا للبحر، كي نهدأ ونعيد توازننا ..
لكن ما كان خافيا هو أن البحر هو نكاية أخرى بالشخصية وبنا، لأن بعد البحر نصل المقهى البسيط حيث الأب جلول (مع دلالات الرحمة، والدلالة الدينية المرتبطة بالإنساني في التبشير وغيرهما). وفي المقهى ندخل عالم الثنائيات من جديد، ونستعيد حكاية العلبة الليلية:
فها جلسة جماعية، وطلبات، وشيء يُشرب، ومناضد...
وهو نفس ما يكون في العلبة الليلية.
حقا السارد هنا لم يختر أن يقارن هو، بل منح الدور للشخصية ليمنحها ويمنحنا جرعة أخرى من الحزن، فيتذكر البطل (وهوبالمناسبة بطل سلبي، منكسر، لا يشبه أبطال حكايات الجدات في شيء)، يتذكر ويحس غبنا آخر، والحق أنه أينما يولي وجهه فثمة غبن، أمام المرقص أو في البحر (يكح هناك وتزعجه القطط) أو في عند الأب جلول.. فقط شيء واحد يمنحه فسحة هو أنه أن ثمة رب للجميع.. والرجا في الله.
الآن ألاحظ:

1- حضور الله في الحكاية والأمل فيه لم يُثَر في مكان آخر غير المكان الذي تتجمع فيه كل معاني الفقر والضعف . ولن أدخل في نظريات حضور الله في الفكر الإنساني وارتباطاتها المتعددة.
2- حكاية البحر لم تضف معنى داخل النص، لأنها لم تحرك أية وحدة حكائية، لكنها بالمقابل منحت معنى خارج النص: أليس البحر ما يفصل الغنى عن الفقر؟ والأخلاقي عن غيره؟ (مثلما فصلت حكاية البحر الحكايتين)
3- وهذه ليست ملاحظة بل يقين:
نحن أمام كاتب مبدع يعرف بحق ألاعيب السرد ويبني نافورة جمال.

ولأن النص بناء سردي متزن، فإنه مع اللغة الانيقة والشعرية التي تصاحبة منحا جمالا بهيا، أقف له باحترام.

العزيز "محضار".. أعانقك أيها الجميل.