استجابة لطلبٍ من عديدِ الأصدقاء أنشر على حلقاتالنص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة الرابعةالفصل الثانيترتبك سعاد. لا تحضرها أفكار أو إجابات سريعة. تمط شفتيها وتتأفف بغيظ. لا ينقذها سوى سعيد الذي تدخل بعد صمت طويل, فلفت انتباه جميع الحاضرين عندما قال.."يا عمي الوضع في فلسطين مختلف. مختلف تماما. ليس من الزاوية التي تكلمت عنها سعاد فقط. ليس لأن الفلسطينيين قبلوا التعايش معهم واقتسام الأرض. لا. اختلاف الوضع في فلسطين كما أراه, يمكن في أن أكثر من نصفهم هناك عرب. أقصد من أصل عربي. وبالتالي سواء كانوا في فلسطين أو في مصر أو في اليمن أو في المغرب أو في سوريا, فهم من حيث المبدأ في وطنهم. ولقد كانوا بالفعل هناك قبل أن يذهبوا إلى فلسطين".يلاحظ ملامح اندهاش تفاقم على وجه متولي, فيقرر الإسراع في الوصول إلى لب الموضوع مستبقا تفاقم انفعالات العجوز قبل أوانها.."إذن فالمشكلة كما أراها أنا يا عمي ليست في وجودهم في فلسطين, بل في شكل هذا الوجود. فإذا تغير شكل هذا الوجود ولم يعد عدوانيا ولا ظالما, فلا توجد هناك مشكلة أصلا. والموقف منهم في فلسطين في هذه الحالة هو كالموقف من أيِّ مجموعة عربية في أيِّ بقعة عربية تفعل ما يفعلونه في فلسطين. هل تفهمني يا عمي؟".متولي يقطب جبينه استغرابا.."ما هذا الذي تقوله يا سعيد؟ لم نسمع من قبل أحدا فلسف الموضوع كما تفلسفه أنت الآن. ما تقوله خطير. هل تعني أنهم ليسوا احتلالا؟ ما هذا؟ لا. لا. هذه هلوسة. أكيد أن التعبير هو الذي خانك وأنت تتحدث يا سعيد يا ولدي. أليس كذلك؟".سعيد يهز رأسه نافيا بشدة بعدما أزعجه هذا الأسلوب الوصائي في التعامل مع رأيه.."لا يا عمي. أنا لم يخني التعبير. وفي الوقت نفسه أنا لم أقل أنهم ليسوا احتلالا، ولم أعني ذلك. لست أدري كيف وصل إلى خلدك هذا المعنى. إنهم احتلال واحتلال بغيض, بغيض جدا. لكن الاحتلال هو شكل الوجود وليس الوجود ذاته. هذا ما أرجو أن تفهمه يا عمي".متولي منفعلا، وناظرا إلى فتحي من جديد نظرة كلها عتاب.."ما هذا التخريف؟ أتريد أن تستغل علمك وتتلاعب بالألفاظ معي يا سعيد؟ ما هذا؟ الوجود.. شكل الوجود.. كله شكل لحالة واحدة هي الاحتلال. إنهم احتلال وأنت لم تنكر ذلك, فلماذا هذا التكلف ولي المفاهيم؟".سعيد بشيء من الغيظ بدأ يسيطر عليه.."أنا مُصِرٌّ يا عمي على التفريق بين الوجود وشكل الوجود. هناك في الولايات المتحدة الآن. أقصد يعيش فيها الآن, خمسة ملايين عربي، وستة ملايين هندي، وعشرة ملايين من جنوب شرق آسيا، وأكثر من ثلاثين مليون مكسيكي، وعشرين مليون من أصل إفريقي. فهل هؤلاء يحتلون أمريكا؟ هل هم احتلال لها؟ أجبني يا عمي".متولي.. "طبعا هم ليسوا احتلالا".سعيد.. "لسبب بسيط هو أن شكل وجودهم ليس متطابقا مع معاني الاحتلال. ولو تطابق شكل وجود واحد في المئة منهم فقط مع معاني الاحتلال لكان احتلالا".متولي.. "أنت تهذي وتضرب أمثلة من الشرق والغرب لإثبات فكرة مجنونة لا توجد إلا في دماغك".سعيد متظاهرا بالصبر.. "سأوضح لك المسألة أكثر يا عمي".متولي بتذمر مبطن.. "تفضل وضح. دعنا نرى ما لدى هذا الجيل من تخاريف لم يسبق أن سمعنا بها".سعيد بحذر وتركيز.. "لو افترضنا أن سكان "سوهاج" هاجروا إلى "أسيوط", ومارسوا فيها نفس ما يمارسه هؤلاء في فلسطين. كيف سيكون موقف المصريين من السوهاجيين الذين هم بعض المصريين؟.. هل تفهمني يا عمي؟.. لقد فهمتني بالتأكيد".متولي ينظر بخوف إلى سعيد الذي انشغل لحظةً باستحضار فكرة. يلاحظ سعيد ذهول وتركيز عمه. يتجاهل ذلك محاولا التظاهر بأنه أقوى مما يتوقع الجميع، ويواصل حديثه.."تصور الآن يا عمي لو أن السوهاجيين سيطروا على أسيوط واقتصادها ومرافقها بطرق مشروعة. هل يستطيع أن يمنعهم أحد؟ إنهم مصريون ويحق لهم أن يعيشوا ويمارسوا حياتهم في أيِّ مكان في مصر. وكذلك أكثر من نصف هؤلاء في فلسطين. إنهم كالسوهاجيين في هذا المثال".متولي يحرك رأسه حركات قلقة. تظهر على وجهه قسمات تشي باهتزاز داخلي عميق, يريد التخلص من وطأته ولو بالكذب على نفسه وخداعها. فيلجأ إلى أفكار مريحة كي تخفف عنه عبء المعرفة الجديدة التي صدمه بها جنون سعيد, والتي ليس من السهل أن يطيق مجرد سماعها ذهن تعود على لونين وحيدين في هذه العلاقة.."حتى لو افترضنا أن كلامك صحيح, مع أن هذا بحاجة إلى نقاش طويل، وأنا لم أسلم به بعد. فهناك النصف الآخر الذي ليس عربيا. هذا النصف على الأقل عبارة عن محتل, ويجب أن يغادر الأرض أولا قبل أن تطالبني بتغيير موقفي منه, أو بجعل علاقتي معه كعلاقتي مع الإنجليز والفرنسيين".سعيد بعد أن لمس أن الاهتزاز الداخلي لدى حماه قد بدأ يقلص مساحات الرفض في أعماقه, يواصل بحذر دعاه إليه علمه باستحالة القفز على مخزون متوارث, بذرته في النفوس عقود مريرة من النظر أحاديه الزاويه إلى هذا الصراع.."إذا كانت مشكلتنا النفسية مع نصفهم العربي قد حُلَّت بمطالبتهم بتغيير شكل تواجدهم وذلك بأن يصبحوا كالسوهاجيين في أسيوط. فلماذا لا يكون حلُّ مشكلتنا مع نصفهم غير العربي قائما على المنطق نفسه؟".متولي بانفعال شديد كمن لا يريد أن يفقدَ آخر ما لديه من أسلحة.. "لا يا سعيد يا ولدي. لا وألف لا. إذا كنت مطالبا بأن أعتبر العربي منهم في وطنه وأقبله على هذا الأساس تجاوزا. فلست مضطرا تحت أيِّ ظرف لقبول غير العربي. هذا الوافد الغازي له وطنه فليذهب إليه".سعيد.. "لا يا عمي. أن هناك نقطة هامة أنت لم تنتبه إليها".متولي خائفا حذرا, محاولا الدفاع عن آخر حصونه النفسية التي راحت تتداعى وتتهاوى أمام قذائف منطق جيل لم يعد يحلم أحلامه.. "ما هي يا سعيد؟".سعيد بهدوء مغلَّف بالخوف الذي ما يزال يسيطر عليه جراء توقعه انفجارا مفاجئا.."إن نصفهم غير العربي ينطبق على معظمه طابع المواطنة لفلسطين. يعني أن معظم هذا النصف ولد في فلسطين. ولا يعرف سوى فلسطين أرضا ووطنا. وبالتالي فليس من حق أحد حرمانه من أن يكون ابنا شرعيا لتلك الأرض. ليس من العدل تحميلهم أوزار آبائهم وأجدادهم.. تماما كالإغريق والإيطاليين في مصر. هم أبناء بلد. ولا يحق لنا طردهم حتى لو كان آباؤهم قد جاءوا غزاة محتلين".تعتري متولي نوبة نزق مفاجئة, حاول أن يغطي بها على الخوف الذي راح يسري في أوصاله جراء شعوره بأن مخزون أحاسيسه الذي أنعش حياته عقودا، يتفلت من أعماقه هاربا إلى البعيد, يقول هازئا.."معنى كلامك يا سيد سعيد, أنه لا توجد هناك مشكلة, وأن صراعنا معهم كل هذه العقود كان كلاما فارغا بلا معنى. وأن كل شهدائنا ذهبوا هدرا وبلا ثمن. ولا يتحملون هم مسؤولية دمائهم بقدر ما يتحملها الحالمون الخرفون أمثالي؟ هاه. هل هذا ما تعنيه يا سيد سعيد؟ هل هذا ما يرضيك؟ هل هذه هي قناعات جيلكم؟ هل هذه هي قواعد أحلامكم العتيدة التي ستبحثون لأنفسكم من خلالها على مواقع راسخة في غد البشرية؟".سعيد يقول بغضب بعد شعوره بأن حماه يحاول إغراقه بسيل من الاستنتاجات الخاطئة.."لا. هذا ليس صحيحا. أنت مخطىء يا عمي في كل استنتاجاتك. أنا لم أقل ذلك وما كان لك أن تفهم من كلامي ما تقوله الآن. نحن قاتلناهم وكنا أصحاب حق ونحن نقاتلهم. لكننا قاتلنا فيهم شكل تواجدهم. قاتلنا فيهم العدوان. نحن لم نقاتلهم لأنهم سكنوا جزءا من أرضنا. بل قاتلناهم كمعتدين, غزاة, ظلمة, مستغلين. إن هذا البعد فيهم هو الذي نحاول أزالته منهم بمقاتلتهم. وإذا زال هذا البعد عن شكل تواجدهم, زال عنهم ما يجعلنا نقاتلهم أو نعاملهم بالصورة التي تصر يا عمي على البقاء متمسكا بها".يزداد انفعالا ويسترسل في تدفقه، ومتولي والباقون يتابعونه باهتمام.."إننا في زمن تكاد الأرض تفقد قيمتها في التعبير عن الهوية. إننا في زمن تتسابق فيه الدول المتحضرة الواثقة بنفسها وبقيمها على منح جنسيتها لمن يولدون على طائرتها وفي سفنها. ناهيك عمن يولدون أو يقيمون فوق أراضها. ونحن الثلاث مائة مليون إنسان ذوي الحضارة التي نتشدق ليل نهار بأنها خالدة وعريقة، لم نستطع أن نقنع أنفسنا بالتعايش مع خمسة ملايين معوَّق. ونخشى على تاريخنا من أن تغزوه هذه الإعاقات. إن هذا الرفض يا عمي ليس قوة تمسك بالحقوق, بل هو ضعف عن مواجهتهم في مجال غير مجال القتال، مع أنهم لا يملكون غيره, وإذا واجهونا في أيِّ ساحة غير ساحات القتال يفترض أن يُهزموا. أنتم يا عمي لا تتمسكون بحلم, بل تختبئون وراءه لتداروا ضعفا من نوع آخر بعد أن أثبت صراع العقود السابقة أنكم ضعاف في ساحات القتال أيضا".متولي وقد بدأ جسده يرتجف.."يا بني, لا تحرق أعصابي ولا ترهق عقلي, ولا تعتدي بدون رحمة على تاريخ طويل من مشاعري وأحاسيسي. إنني لا أفهمك. كيف تريد مني أن أفصل بين وجودهم في أرضي وبين عدوانيتهم. إن مجرد وجودهم في هذه الأرض هو أعتى أنواع العدوان. كيف يكونون في الأرض التي أخذوها مني عنوة وبقتل الآلاف بأخس أنواع الغدر والهمجية, ويمكنهم أن يكونوا مع ذلك غير معتدين؟ كيف؟ أينا المجنون. أنا أم أنت؟ إذا كان هؤلاء الأبناء, أبرياء من جريمة آبائهم كما تقول، فلماذا لا يتخلون عن الحلم المجرم لهؤلاء الآباء؟ لماذا لا يسارعون إلى حل المشكلات العالقة تكفيرا عن جرائم الغزاة الذين منحوهم بالغزو حق المواطنة في أرضنا؟".... يتبع في الحلقة الخامسة

استجابة لطلبٍ من عديدِ الأصدقاء أنشر على حلقات

النص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة الخامسةالفصل الثانيسعيد يحاول التخفيف من انفعالات متولي بشيء من الضحك دون أن يسمح للموضوع بأن يبقى عالقا عند هذا الحد. لذلك فهو يواصل حديثه باهتمام, وبحرص شديد على الشرح الدقيق, مستخدما يديه أثناء التعبير استخدامات معبرة جدا عما يريده.."أريد أن أفترض معك يا عمي افتراضا خياليا. وأريدك أن تجيبني على سؤالي المتضمن في هذا الافتراض, كي تعرف ما الذي أعنيه بالضبط بضرورة الفصل بين الوجود في حد ذاته وبين شكل الوجود. بين الوجود العدواني والوجود غير العدواني. هل أنت معي على الخط يا عمي؟".متولي.. "نعم أنا معك, لكن إياك أن توصلني إلى حافة الجنون مثلك".سعيد يضحك وسط ابتسام الحاضرين وصمتهم ومتابعتهم للحديث الذي ظهر وقد سيطر على كامل اهتمامهم وأحاسيسهم.."لا تقلق يا عمي. لن يجنَّ أيٌّ منا, نحن فقط نتناقش. افترض يا عمي أننا خضنا ضدهم حربا ضروسا، وهزمناهم فيها وأصبحوا جميعا أسرى في أيدينا".يصمت. ينظر إلى متولي الذي بدت عليه علامات اندهاش مُوَشًّى بالخوف من الاستدراج مجهول النتائج الذي يمارسه معه سعيد الذي واصل سائلا.."ماذا ترانا سنفعل بهم؟ هاه يا عمي, ماذا سنفعل بهم؟".متولي لا يجيب بسرعة. يفكر. يقتنص إجاية عابرة مرتجفة.. "نرحلهم إلى بلدانهم".سعيد.. "أنت تقصد غير العرب منهم, أليس كذلك؟".متولي يمط شفتيه قبل أن يتحدث كي لا يقع في الخطأ.. "نعم, غير العرب فقط".سعيد.. "وغير المولودين منهم في فلسطين أيضا, أليس كذلك؟".متولي يشعر بالقلق من مغبة هذه النغمة المخيفة التي راح يعزف بها سعيد ألحان تكسير الحلم. يفكر بعمق وسط صمت سعيد منتظرا إجابته التي تأخرت قليلا, فجاءت خجولة حذرة.."وغير المولودين منهم في فلسطين فقط وبالتحديد. سأوافقك".سعيد بلهجة ظفر قلقة حذرة.."من المؤكد أننا سنستثني من الترحيل منهم أيضا، والِدَيْ كلِّ طفل مولود في فلسطين إذا لم يكن قد بلغ سن الرشد, كي نحقق أعدل القيم, عدم حرمان الابن من أمه وأبيه. أليس كذلك؟".متولي يضجر ويقول بضعف.. "إلى أين تقودني يا سعيد؟ بهذه الطريقة سيبقون جميعا في فلسطين. لماذا حاربناهم إذن؟".سعيد شاعرا بالظفر والرعب.. "كي نغير شكل وجودهم, وليس كي نلغي وجودهم".في هذه اللحظات تتدخل سعاد في الحوار مجددا بعد أن أحست بأن لديها شيئا تود قوله، وكي تخفف عن سعيد العبء الذي انتبهت إليه جراء هذا التوجُّس الذي لم ينقطع.."هذا صحيح مائة في المائة يا بابا. نحن في زمن من حق الإنسان الذي يعيش في دولة متحضرة عددا من السنوات أن يحصل على حق المواطنة، فيها إذا وافق على أن يعيش في قوانينها وفي مشروعيتها".متولي.. "ولكن هؤلاء يرفضون ذلك يا سعاد".سعاد.. "وهذا ما نحاوله في صراعنا معهم. نحاول جعلهم يقبلون ذلك".متولي يبحث عن مخرج فلا يجد.. يصمت ثم ينفجر فجأة.."إذن ماداموا يماطلون في حقوق الفلسطينيين وفي حل مشكلتهم معهم, فهم مازالوا عدوانيين. مازالوا احتلالا".سعيد مقاطعا.."هذا صحيح يا عمي. أنا أوافقك عليه. لكنني موقن أن القطار, أقصد قطار حل المشكلة قد انطلق من محطته الأولى, وسوف يصل حتما إلى المحطة الأخيرة وقريبا جدا. إذن لم يعد هناك ما يجبرني على تحمُّل عبء أحقاد وكراهية جديدتين. يكفي ما حملتموه أنتم".سعاد.. "أرأيت يا بابا. أرأيت؟ الموضوع المهم هنا هو السلام. وها هو بدأ يتحقق. قد لا تكون الأحقاد المترسبة قادرة على تحقيقه بالكامل وبسرعة وبدون مضاعفات سلبية. لكنه بدأ يتحقق, ولابد من قبول تبعاته. بابا هل تعرف بماذا أشبه ذلك؟".متولي باهتمام.. "بماذا؟".سعاد.. "بقانون التمييز العنصري في أمريكا. الأميركيون ألغوا التمييز العنصري بالقانون وبقوة القانون. لكن التمييز في نفوس الكثيرين ما يزال موجودا. إن وجوده وممارسته نفسيا من قبل الكثيرين, لا يلغي حقيقة أن أعداء التمييز عليهم أن يتمسكوا بالقانون الذي يلغيه ويحرمه. كذلك السلام وتوابعه، بدأ وسيستمر بقوة التاريخ والظروف والشرعية. وسيستمر، مع أن العديدين لدينا ولديهم يرفضونه. إن هذا لن يؤثر على حقيقة أنه أصبح واقعا وأن رافضيه سيزولون مع الزمن".متولي وقد بدأت بوادر الإرهاق الذهني تسيطر عليه، والعرق يلمع على جبهته ويقطر من أكثر من مكان في وجهه.."أرجوكم لا تحاولوا تغيير قناعتي في أخر عمري. لقد قاربت على إنهاء العقد السابع وأنا أعيش في ظلال أحلام يصعب على جيلكم أن يفهمَها. لست أدري كيف يمكنني أن أصدق ما تقولونه, وأنا أراهم كل يوم يرفضون التعايش, ويعرقلون كل شيء إيجابي. هذا طبعهم ولن يتغير. وهذا الطبع يا أولاد هو الذي صنع مشاعر مثل مشاعري وقناعات مثل قناعاتي".سعيد.. "هذا صحيح. ما تقوله صحيح يا عمي. هم أيضا لديهم جيل عاش أحلام إمبراطورية "من النيل إلى الفرات". لكنها أحلام تبخرت. هؤلاء يا عمي يحلمون بالوصول إليك هنا. وأنت تحلم بالوصول إليهم هناك. لكن لا أحلامهم تحققت ولا أحلامك ستتحقق. النقطة التي نحن فيها أصبحت أمرا واقعا. حقيقة تاريخية تعيشها أجيال هنا وأجيال هناك ترفض الحلمين, أو على الأقل لا تجد نفسها معنية بالحلمين معا. عمي, لا تفرضوا أحلامكم علينا. ليس بالضرورة أن نرث أحلامكم. خففوا عنا وزر هذا العبء الثقيل".متولي صامت لا يدري ماذا يقول. سلوى تتدخل بعد صمت طويل, راقبت خلاله دون اشتراك المعركة الساخنة التي نشبت بين حلمين, أحدهما يتلاشى والآخر على أنقاضه يولد. تتشبث بكلام سعيد وسعاد في موقف غير متماسك, كان من السهل على متولي أن يرى فيه أمل الغريق الذي يتعلق بقشة. فهو لم ينس أن ابنته سلوى المتدفقة حنانا ورهافة حس, ناضلت لآخر لحظة كي تجري العملية في مصر ولكن دون جدوى. لقد اعتبر هذا الموقف منها بقية احترام لحلمه الذي سحقه اندفاع سعيد وحماس سعاد. سلوى تقول.."يا بابا القضايا الإنسانية ومهما كانت الخلافات السياسية يجب أن تكون معزولة لوحدها. المسلمون داووا ريتشارد قلب الأسد وأنقذوه من الموت وهو على أبواب القدس يريد احتلالها. يجب أن نتعلم كيف نسخِّرَ سلاحنا كي ننقذ به عدونا إذا احتاج إلى مساعدتنا الإنسانية، حتى لو كنا في حرب معه. فكيف إذا لم نكن معه في حرب, وأن هذه الحرب قد انتهت؟ بابا ألم يعش بقايا الصليبيين في فلسطين لغاية الآن بعد أن غيروا شكل وجودهم وتخلوا عن أحلامهم العدوانية؟ إن الدكتور جولدي يا بابا طبيب معروف عالميا. وها هو قد حضر إلى مصر, واستضافته وزارة الصحة, وأجرى العديد من العمليات الناجحة لنساء مصريات سيصبحن أمهات عما قريب".متولي بلهجة مستسلمة وهو يتنهد.. "لو سلمت بكل ما تقولونه, فإن هناك خللا في الميزان لا يزال قائما".سعيد ينتبه إلى عمق وغموض ما يقوله حماه. فيسأل بشغف.. "ماذا تقصد يا عمي"؟".متولي بذهن بدأ يشرد شيئا فشيئا.. "يا سعيد يا بني. إذا لم يحصل التغيير في الجانبين في ذات الوقت وبنفس الوتيرة, فالخطر يبقى قائما, ويصعب التفاؤل".سعاد.. "بابا أنا لم أفهم ماذا تقصد". تنظر إلى سعيد و سلوى. الجميع يتبادلون النظرات وهم ينتظرون منه أن يواصل شرح ما بدأه بالغموض.متولي.. "إن تغير الحلم هنا أسرع بكثير من تغيُّر الحلم هناك. إننا نتراجع عن حلمنا بأسرع مما يتراجعون. وهذا مكمن الخطر".يصمت قليلا. يتبادلون النظرات المليئة بالاستسلام أمام هذه الحكمة البالغة التي فاض يها هذا العجوز فجأة. ينصتون بإجلال. وهو يواصل.."يا أولاد لا تتفاءلوا كثيرا. مهما كانت الأحلام قاسية, فإنها عندما تكون متكافئة تحفظ التوازن. عندما أفكر في قتلك يا سعيد, وتفكر أنت في قتلي أيضا, قد نحيا معا ولا يقتل أي منا الآخر. إنه توازن تحققه الأحلام المتكافئة. إن الأحلام المتكافئة تحقق الردع كالسلاح النووي, إذا امتلكه الخصمان فلن يستخدماه, أما إذا امتلكه أحدهما فاستخدامه ممكن جدا في الصراع. نعم يا سعيد يا ولدي عندما أحلم بقتلك بنفس القدر الذي تحلم فيه بقتلي, سنعيش معا. لكن عندما أتخلى عن حلمي بقتلك, فيما حلمك بقتلي ما يزال يناغش جزءا من أحاسيسك، ويحكم جزاء من تصرفاتك، فأنت في مأمن مني وأنا في خطر منك. أنت في مأمن لأنني تخليت عن رغبتي في قتلك. وأنا في خطر لأنك مازلت تفكر في قتلي".يصمت مرة أخرى. ينظر إليهم وهو يهز رأسه بأسى وسط انشدادهم إلى كلماته.."إن التعثر الذي نشاهده في المسيرة التي ترقصون لها, هو بسبب هذا الاختلال. هو بسبب أننا نتخلى عن حلمنا بأسرع مما يفعلون. إذا كنا قد تخلينا عن حلمنا بأن نلقيهم في البحر وبأن نطردهم من الأرض التي أخذوها عنوة. فإنهم لم يتخلوا بعد عن حلمهم بالوصول إلينا. أو على الأقل إن نسبة تراجعهم عن حلمهم إلى تراجعنا عن حلمنا صغيرة جدا. إنني خائف خوفا شديدا بعد اختلال هذا التوازن. لقد كنا أقوى عندما كان حلمنا مثل حلمهم. وكنا سنبقى أقوى لو أننا تخلينا عن حلمنا بنفس وتيرة تخليهم هم عن حلمهم. إن من يفكرون مثلكم هنا أكثر بكثير ممن يفكرون مثلكم هناك عندهم. وهذه هي الكارثة".يصمت. يصمتون. ينطوون على أنفسهم. ينحدرون نحو وديان سحيقة في أعماقهم. يبحثون عن أمان نبهتهم إلى الافتقار إليه كلمات عجوز رفض أن يستيقظ من نومه قبل أن يستيقظ أعداؤه من نومهم, كي لا يفقد حلمه قبلهم. يتجه بنظره إلى سلوى وسعيد, ويقول بملامح وجه تشي بتذمر مقنع.. "عموما يا ابنتي الرأي في النهاية لك ولزوجك. على كلِّ حال أنت قد حددت موعدا لزيارة هذا الطبيب في بلاده عند حضورك في إجازة الصيف المقبل. يعني أن الأمر محسوم والقرار قد اتُّخِذ. كل ما أتمناه أن يحقق الله لك أمنياتك كي تصبحي أما في أقرب وقت".سعيد محاولا طمأنة الجميع.. "يا عمي في كلِّ الأحوال هذه مسألة إنسانية. والطبيب جولدي طبيب مشهور وله تاريخه وأبحاثه. لا يمكن لطبيب في مكانته أن يشوِّه صورته العلمية بأيِّ طريقة ولأيِّ سبب. لا يمكنه أن يقبل القيام بأيِّ عمل يمس شرفه المهني كطبيب أدى قسم أبوقراط".متولي شارد الذهن في المجهول. متنهدا تنهيدة ألم.. "أتمنى أن يكون قد استيقظ من نومه مثلكم. وأخشى ما أخشاه أن يكون مثلي عجوزا خرفا ما يزال يحلم".بفرح وبوجه يفيض بالأمل, سلوى.. "يا رب يا بابا أنا أريد أن أصبح أما. من يدري؟ قد يجعل الله الفرج على يدي هذا الطبيب العبقري". ترفع يديها نحو السماء, وتغالب البكاء.. "يا رب لا تحرمني من هذه النعمة".ينظر إليها الجميع متعاطفين متأثرين. سكينة تنظر إلى أعلى رافعة يديها ضارعة بالدعاء. الدكتور جولدي يظهر على الشاشة يضحك بصوت مرتفع. سعاد تفزع لا تدري لماذا. سعيد يحس فجأة بألم عابر في ظهره. الدموع تغالب سلوى. زرقاء اليمامة ما تزال تنظر في الأفق المضطرب بلا جدوى. القسم يواصل النزف بغزارة. الغربان تنعق فوق جثة أبوقراط الذي انتحر. وهناك ذئب ينتظر الفريسة. يشحذ أنيابه السوداء. متولي يستسلم للنوم, ويحلم. يسمعونه يهذي وهو نائم.. "جولدي ما يزال يحلم.. ما يزال يحلم.. ما يزال يحلم". لكنهم لا يفهمون.... يتبع في الحلقة السادسة