-
الغَثّ يذهبُ جُفاءً
على تهمة الحداثة، يكتب البعض ممن يدّعون أنهم أدباء، شعراً أو نثراً، بما لا يُفهم، ولا يدلّ إلى معنى، ولا يصل إلى هدف، ثم يدّعي أحدهم أنها «حداثة»، واختراق العادي، والتفوّق على الذات، وعليك أن تهزّ رأسك طرباً وإعجاباً، وتصفّق بحرارة، وتقول آمين، ولو تجرّأتَ وقلت أنا لم أفهم شيئاً.! سينبري بحماسة من يتّهمك بالتخلّف، والجهل، وقصور الفهم.
أستطيع أن أهضم، وأفهم من يقول: (سقَطت من السماء نجمة في فنجان قهوتي، وخرَجت منه على شكل شيطان، وسط غيوم كثيفة، ثم تبخّر بعد أن عانقني) «مع ملاحظة تصحيحي لكثير من مفردات النصّ لغةً وإملاءً»، وهناك أيضاً العشرات من تلك النصوص وما يشبهها، والغريب أن بعضها صدح من على منبر، ومن خلال نشاطات ركّزت على هذا النوع من الكتابة.!
أقول، قد أفهم وأهضم هذه الكلمات إذا كانت في سياق نصٍّ يصل بي إلى مقولة وهدف ومعنى، أما أن يتركها هكذا كلمات مبتورة غائمة، ثم يقول نقطة انتهى النص، ويكفي أن يوحي بأنه هو من يفهمه، وأنا على يقين أنه هو نفسه لم يفهمه، ثم ليفهمه أيّ من السامعين كما يشاء.! فهذا ما لا أفهمه أبداً.
ولو تجرأ أحد وقال: هذا هراء عبثي، وكلمات مرسلة لا أفهمها وليس لها معنى، سيتهّم على الفور بالتخلف والجهل.
يا سادتي وأخواتي وأخوتي الشعراء والأدباء الذين أحترمهم جميعاً، إن أروع ما بقي لنا من تراث شعري ونثري، من روايات أو قصص أو خواطر، هي التي قالت لنا شيئاً، وأوصلتنا إلى هدف وغاية، ولامست همومنا أو أفراحنا، أو أمنياتنا، وكانت في مسار شخوص وأحداث، وتزيّنت بالإبداع، والصور الجميلة، والشعرية، والحداثة أيضاً، فالأدب في العصر الأمويّ لم يكن كما الأدب في الجاهلية، وكذلك في العصر العباسي وما بعده وما بعده، والأدب بكل صنوفه يتطوّر دائماً وفي كلّ مرحلة، لكنه لم يخرج، ولم يلغِ الأصالة ويتنكّر لها، ولا عن مفهوم «الحدث»، بمعنى إيصال الفكرة والغاية من النصّ، والمضمون، وستبقى تلك الآثار الأدبية الخالدة التي قرأناها وشربناها من السلف، حيّة على مرّ العصور.
أما أن نهذي بكلام غير مفهوم وبلا معنى، ثم يأتي أحد النقّاد ليضع تبريرات وتفسيرات غير مفهومة أيضاً مفادها العام، أن الإبداع يكمن في النصوص الغائمة غير المفهومة، فهذا على ما أعتقد مجرد كلام عبثيّ ليس له تبريرات منطقية، ولو أتهمني هؤلاء، الذين يكتبون، والذين ينقدون هكذا هذيان بالتخلف والجهل، وبأنني من أنصار «الكلاسيكية» وكأنها تهمة، فلا أبالي، فنحن بالأصل نكتب للناس، ولا نكتب لفضاء غائم.
بربكم.. من منكم يذكر أو يحفظ في ذاكرته كلمة من تلك النصوص الغائمة التي تشبه الهذيان، ولا تحمل قيمة ولا توصل إلى هدف ومعنى.!؟
ومن منكم لا يذكر أو يحفظ في ذاكرته شيئاً من نصوص «نثر أو شعر» معبّرة (حداثية) أيضاً، وإبداعية، لكنها تصل إلى هدف ومعنى، وتعبّر عن الفكرة التي أراد الكاتب أن يعبّر عنها.!؟
أنا مع الحداثة بكل تأكيد، لكنني مؤمن أيضاً بأن الحداثة مؤسَسةٌ على الأصالة، ولا تلغيها، ولا تسخر منها.
ويبقى السؤال الأكثر حضوراً يلحّ علينا بقوّة، هل نحن، وسط كلّ هذه الهموم والمشاكل والمعاناة التي تحيط بحيواتنا من كل جانب، وتعاني منها مجتمعاتنا وعلى كل المستويات، مُبرّرٌ لنا ولوج عالم «الترف» الأدبي.!؟
ثم يسألونك لماذا نعاني من هبوطٍ في مستوى أدائنا الأدبي، والمستوى الثقافي بشكل عام.!
ألسنا بحاجة ماسّة إلى شجاعة نقول من خلالها إلى المُسِفّ، أنت مُسفّ.!
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى