مع أرمينية كريمة
----------------------------
ريم بدر الدين بزال

جلست بقربي. امرأة من زمن مضى ليس لها مقعد في حافلة المستقبل بشعر قصير ووجه ملأته التجاعيد كانت ودودة جدا و للمرة الأولى لم أكن أنا التي تبادر بفتح حديث ..
هي الآن على حافة الوقت تستجدي ذاكرة عمر مر في البال حظي بالأمان و تستعطف الزمن القادم ألا يلطخ ما تبقى من أيامها بذاكرة مسودة ..
عبرت عن هذا بقولها: الدنيا دولاب . و لكن يبدو أن دولابها عندما اتخذ دورته توقف في القعر و لم يعد بمقدورها هي أو في رغبته هو ( الدولاب) أن يدفع نفسه نحو الجهة المقابلة...قالت لي أنا أرمينية.
عرفت من تصريحها كم يشعر أمثالها بالخوف على أنفسهم و حيواتهم في محيط يعتبرهم أقلية ..ماهو مقدار الرعب الذي يشعرون به ليشهروا في وجهك انتمائهم الإثني و الطائفي و لست أدري أهو نتاج ربيع اقتلعت عيناه و استدبلتا بحجري صوان؟
كدت أقول لها أنني أحب افيتيك اساهاكيان و جملته القصية المدهشة و أنني أعشق سارويان و بساطته الصعبة ..كدت أخبرها أنني عشت في طبيعة ارمينيا المشابهة لربوع بلدي من خلالهما ....لكنني خشيت إن أخبرتها أن تجيبني: أنا لا أعرف إساهاكيان الذي طالما مثل لي معادلا موضوعيا للأرميني المكافح البسيط المثابر .
بلغة متكسرة تخطيء في استخدام أسماء الإشارة خبرتني عن معاناتها في الحصول على عمل أو مسكن و كأن قدر هذا الشعب هو الشتات و الفقر ...
كانت تشبه نينت ( بطلة روايتي )و استغربت كيف أنني غصت في عوالم نينت قبل أن،أقابلها حقيقة ماثلة أمام عيني..
إنها بطلتي نفسها تعاقر مرحلة من عمرها لم تخطر في بالي تلك هي عندما لم تعد مرغوبة أو مطلوبة ..تبحث عن مصدر رزق يسير..
بلوزتها الأرجوانية و حقيبتها الحمراء تدل على زمن من التألق القديم لكن قصة الشعر الذكورية تشي بتمرد على مجتمع يريدها أنثى مستباحة ثم يحتقرها . يعظمها ذكرا قويا ثم يسخر من فقدانها أنوثتها، يريدها أن تعطيه رحيقها لكن يطلب منها أن تزرع الورد بنفسها ..
عندما تكلمت عن مصاعبها المادية خطر لي لوهلة أنها تستجدي و كنت أود حقا أن أساعدها لكني خشيت أن أجرح مشاعرها!
عندما أرادت أن تغادر الحافلة نظرت لي بطريقة ودودة جدا و شكرتني لجمال صدفة جمعتني بها و لحسن استماعي لها .
عندها باغتني نوع من الخجل الشديد لأنني في داخلي وجدت صعوبة في فهم لغتها المتكسرة. قابلت صديقتي سندس و كان محور حديثنا الأرمينية الغريبة استغربت أن يكون لدى الإنسان رغبة بالبوح بهذه الطريقة لمن لا يعرف و لا يوقن أنه محل للثقة و الأمانة. فقالت لي أحيانا يحتاج المرء إلى هذه الفضفضة غير المحسوبة التكاليف أو المجانية.
تذكرت عندها قصة العزاء لتشيكوف عندما لم يجد من فقد ولده من يستمع لقصة حزنه بين الناس لكنه وجدها في عيون حيوانات في إسطبل دمعت عيونها حزنا من أجله .
و هذا بالضبط ما يريده عشاق البوح في حضرة الغرباء خصوصا أوقات السفر .. لا يريدون حلا لمشكلاتهم و إنما يبتغون المشاركة في أحزانهم .. و نصيحة يقدمونها للآخر دون مقابل ليجنبوه الوقوع في أخطاء و تجارب غير ناجحة سبق و أن اختبروها.
الذين يجيدون البوح أمام الغرباء أناس كرماء بكل ما تعنيه الكلمة لا يطلبون منك ثمنا بل و يشكرونك على حسن استماعهم .
و بحسي الروائي سأكتب عنها يوما في قصة أو رواية و ربما هي لن تقرأ أو لن تكون موجودة لتقرأ لكنني منذ الآن أقدم لها كامل شكري و امتناني.