وللمستعجمين
فضائلهم







كتبها : فيصل الملوحي



من معاني وزن ( استفعل ) في اللسـان العربي طلب فعل تتوجه به جهة إلى أخرى.والاستشراق طلب الشرق أي دراسة ألسنته وثقافاته.. خدمة من المستشرق لحكومة أو جامعة أو مؤسسة، أو حباً بالمعرفة واستزادة من الثقافة، أو تعريفاً لأصحاب اللسان المدروس بلسان قوم المستشرق وثقافتهم . ولكن قد تنصرف كلمة ( مستشرق ) عندنا إلى الذين درسوا اللسان العربي و الثقافة العربية والحضارة الإسلاميّة ثمّ أصدروا أحكاماً جائرة أو منصفة على تاريخنا .

أمّا الاستعجام فطلب للسان غير عربي ليكون عوناً للدارس على التزوّد بالثقافة الأعجم.. خدمة من المستعجم لحكومة أو جامعة أو مؤسسة، أو حباً بالمعرفة واستزادة من الثقافة ، أو تعريفا لأصحاب اللسان المدروس بلسان قوم المستعجم و ثقافتهم . و كل ما تقدم أمور افتراضية نادرة الحدوث.والواقع أن المستعجمين في ديار الغرب يتوجّهون إليها أملا في الحصول على درجة علمية، وترحب الحكومات الغربية بذلك لأنها تُعنى بكل ثقافة، و تقدم لذلك المعونات و التسهيلات .
ملحوظة ( كيلا تفهمونا غلط ): أرجو ألا يُفهم تعبيرالعجمة تمييزاعرقيا و لاعصبية قومية و لا انتقاصاً لمن درس اللسان الأعجميّ ، فالإنسان لا يستطيع أن يغير أصله أو عرقه ، ومن ولد فرنسيا ، فسيبقى فرنسي الأصل حتى يموت، وإذا كان طارق بن زياد بربريا، فلن يخرج من جلده ويصبح عربي الأصل ، وليس الفخر بكرم الأصول العرقية، وإنما يتفاخر المرء بمنبته الطيب أي تربيته الصالحة. نعم! يستطيع الإنسان تغيير لسانه، لكن سهام النقد تُوجّه إلى من اتخذ من الترجمات الأعجمية مصادر له في بحوثه العربية، فانحرف عن الجادّة، و جنى على آخرين في بحوثه - وإن كان يعرف العربية - أما الاطلاع على الألسنة الأعجمية فأمر واجب. و إن كلمتي (العُجْمة ) و ( العَجَم)تقتربان لفظاً ‘ وتختلفان معنى ، فالأولى: اللسان غير العربي ، أما الثانية فنعني بها غير العرب ( وهو المعنى العام، أمّا المعنى الآخر فخاصّ بشعوب تعيش شرق العراق). إن الله خلق الناس - سواء - شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا ، إلا أنه اختار العربية قرآناً يُتلى آناء الليل و أطراف النهار( وليس هذا مجال بحث الحكمة في ذلك ). فليس في لفظ(العجم) انتقاص، و لا في لفظ ( العرب )امتياز، فالناس متساوون في الخِلْق،يحاسبون على فكرهم وسلوكهم لا على عروقهم. والقوميات واقع لا يمكن تجاوزه، ولكننا نستطيع إلغاء فكر استعلاء عرق على عرق ، والقبول بفكرة التعايش الإنساني .

ومن مقتضيات البحث العلمي أن تقسّمه إلى أقسام لتتمكن من الخوض في مكوّناته. فإذا كنّا نقسو على أحد في جانب، فأرجو ألا يُفهم منه إسقاط فضائله كلها وعدم احترامه – حاش لله– ،و لا ادعاء العصمة و لا القطع بصحةالرأي الذي نتبنّاه(في تراثنا قول عظيم: ما نقول به صواب يحتمل الخطأ، وما يقول به الآخرون خطأ يحتمل الصواب، و لاأرضى أن نسير في نهـج الانقسام والتشرذم وإنكار قيمة الآخرين. نحن ندعو إلى التعايش الإنساني بين أديان ومذاهب وعروق، فكيف لا نتعايش مع إخوة لنا ؟! وإن أخطؤوا، فكل بني آدم خطّاء. إنما ندعو إليه، لا يدعونا إلى تناحروتنابذ و( مهاترات ) حين نتحاور .

واعلموا أنني في ديار الغرب حيث أعيش أرى فيها حق إبداء الرأي، فهؤلاء الذين أنتقدهم بهذه القسـوة لا يضمرون لي الحقد، و لا يتنادَون إلى الثأر لكرامتهم إذا انتقدتهم، و لا أنادي أصحابي للثأر لكرامتي إذا انتقدوني، ترتفع أصواتنا ، ويقسو بعضنا على بعض في الحوار، ثمّ نتصافح بعدها، ويودّع بعضنا بعضاً بوجه بشوش لا نفاقا و لا مجاملة .
إنما تعرض نقاط الاختلاف، وتناقش واحدة واحدة، ويدلي كل بدلوه. قد يتوصلون إلى توافق أو قد لا يتوصّلون، المهم أنهم التزموا أصول النقاش العلمي ، ويمكن أن يتهم كل منهم الآخر بمثل ما اتهمتهم به ، ولكن هذا لا يخرجهم عن الخط المتفق عليه .

ثم إن القيمة في مراكز بحوثهم للعلم ، - قد ينحرفون في مجالات ، والكمال لله وحده – و عمل الباحثين أن يوجّهوا سهام النقد لهذه الانحرافات، و لا يقبل منهم أن يسكتوا عنه . – هذا هو الاتجاه العام على الأقلّ - كلّ ما أرجوه من القارئين في المشرق العربي ومغربه ألا يرَوْا تناقضاً بين سلوكي في نقد أخطائهم و ما أقوله هنا ، لأن كل ما يهمهم أن تتزوّد بالعلم الضروري الكافي للبحث الذي تعمل فيه .

أنا أختلف فكريا معك، فهل يسمح لي هذا الاختلاف بفرض رأيي عليك و تغيير حياتك على أسا سه ، ثم هناك نقائص في حياتهم أنتقدها، ولكن ألا أمارس عباداتي، و تلزم المرأة حجابها؟( يؤسفني أن يكون الحجاب المقياس الذي يقدّم على غيره دائماً ) سيقولون ، ويقولون ، و أنا معهم فيما يقولون ، ولكن الحق أن يُقال:هناك فضائل كريمة، وهناك مثالب شنيعة، ولكن يكفيني أني أنتقدها، ولاأحد يمنعني النقد.فهل يعيش مشرقنا العربي و مغربه ، في كلّ آنٍ و مكان على هذه الأسس ؟!

أما المستعجمون الذين درسوا في ديار الغرب ، ثم عادوا إلى ديارهم و كانت لهم مكانتهم العلمية العملية ، فهم فرقاء :
- فريق تمثلّ مبادئ البحث العلمي والتواضع ،
- وفريق حمل معه عقدة الكمال التي ظنّها فيما أخذه عن الغرب ، فنظر إلى الآخرين من طرف عَلِيٍّ ( نظرة فوقية – في لسان قوم ) ،
- وفريق اكتفى بالتمرد والانحراف في أخذه بالحياة الأوربية .

الحكمة ضالّة المؤمن ، يأخذ بها أنّى وجدها ، وعليه أن يكون واعياً لما يختار ، عليه ألا يدعوَه الكره إلى نبذ الحق الذي يأخذ به آخرونّ ، و لا أن ( ينبهر ) بالأضواء الأخاذة ، فيأخذ بكل ما يأخذون به . قال الإمام مالك : – كلٌّ يُردّ عليه إلا صاحب هذا القبر – . حتى في الكتابة علينا أن نحافظ على الأسلوب العربي الأصيل، ولكن هذا لا يمنعنا التأثّر بالأساليب الأخرى دون أن تطغى على البيان العربيّ الفصيح . نسير في هذا على النهج الذي رسمه ت . س . إليوت حين قال : قدم في الجديد ، وقدم في القديم . أي أن نأخذ بالحقّ في كلٍّ منهما .

فهل في هذا البيان تكملة لنقصان ، قد تجدونه فيما أكتبه عن(العجمة ) ؟ وكلكم تعلمون أن الكمال لله وحده .

ملحوظة: هذه السمات العلميّة سائدة في مجتمعاتهم، إلا حين يتسلّط على المعرفة أناس لهم غاياتهم الخاصّة التي يبدون منها ويخفون ، وحين يتعلّق الأمر بالشرق العربيّ بخاصّة والإسلاميّ بعامّة. وما أحسن أن نساهم في توضيح هذه الحقائق لعامّة الشعوب الغربيّة.