سؤال يتردد بين طبقات الشعب فى مصر

هل فى مقدورنا ان نتفائل بصباح جديد لنقول صباح الخير

مصر: استفتاء التعديلات الدستورية.. ما الجديد؟


لم تذهب وكالة (رويترز) بعيداً عندما وصفت المشاركين في الاستفتاء على التعديلات الدستورية بأنهم "قلَّة"، مستعرضةً نسب المشاركة في عدد من لجان التصويت والتي تراوحت بين 1.5% إلى 3% من إجمالي الناخبين المقيدين في تلك اللجان، وقريباً من ذلك جاءت التقارير الأولية لمنظمات حقوق الإنسان التي راقبت عملية التصويت مؤكدةً حدوث "جملة من الانتهاكات والتجاوزات" ، تنوَّعت ما بين عمليات تصويتٍ جماعي وتسويد للبطاقات، وغياب الرقابة القضائية وترهيب الناخبين بالغرامات القانونية؛ لإجبارهم على الذهاب لمكاتب الاقتراع.. وهذه المشاهد تبدو نسخة مكرَّرة من الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور قبل نحو عام ونصف العام، باستثناء واحد وهو مشاهد الصدام المروعة التي شابت استفتاء المادة 76، وهذا الاستثناء لا يعود إلى "وداعة مستجدة" على أجهزة الأمن بقدر ما يرتبط بتشديد القبضة الأمنية ومنع التظاهر من المنبع، من خلال إحاطة أماكن التظاهرات المتوقَّعة بسياجات كثيفة من قوات الأمن.
إذاً ما الجديد؟.. هذا هو السؤال الذي تبدو الإجابة عنه أمراً ملحًّا في هذه المرحلة، فالتعديلات الدستورية بكلِّ الانتقادات الموجَّهة إليها لا تضيف جديداً للواقع المعيش، فما تمنحه من صلاحيات إضافية لأجهزة الأمن وما تقرره من قيود على المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب لا يبدو أمراً جديداً، وما استجدَّ هو فقط تحويل ما كان قانوناً طارئاً، أو ممارسة غير قانونية ليصبحَ مرجعية دستورية لصياغة القوانين، فعلى سبيل المثال فإن "الإخوان المسلمين" محرومون من الشرعية القانونية منذ أكثر من نصف قرن، وتعديل المادة الخامسة لنْ يقدِّمَ أو يؤخِّرَ في وضع الجماعة شيئاً، وحتى لو ردَّ البعض بأن في الوضع الجديد تأبيداً وتحصيناً لأوضاع غير مقبولة من قِبل النخبة المصرية عبرَ تحويلها لنصوصٍ دستورية، فإن العبرة تبقى بالواقع المعيش وليس بالنصوص الدستورية والقانونية. ولذا فإن التعديلات الدستورية أو حتى وضع دساتير جديدة في الدول التي تتمتع بسيادة ديمقراطية وقانونية حقيقية، دائماً ما تأتي استجابة لتغيرات وأوضاع جديدة فرضت نفسها على أرض الواقع، وفي هذه الحالة فإن الدساتير ما هي إلاّ تعبير عن حقائق الواقع وموازين القوى داخل المجتمع.
وهكذا، فإن الجديد على الساحة السياسية المصرية لا يكمن في نصوص التعديلات الدستورية، بغضِّ النظر عن مواقف المؤيدين أو المعارضين، ولكنَّ الجديد الذي يستحق القراءة هو ذلك المشهد الذي بدأت ملامحه وخطوطه العريضة تتشكل بوضوح في الشهور الأخيرة، وذلك كمدخل ضروري لاستنساخ مشهد آخر يرسم خطوط المستقبل المنظور للبلاد، وعلى كلِّ حال يمكن تحديد خطوط هذا المشهد في الآتي:
- أولاً: إن ما كان يُعرف بالربيع الديموقراطي في مصر وصل إلى نهايته، وإن النخبة المصرية بأطيافها كافة خرجت صفر اليدين، وما حققته من مكاسب في أوجِّ صعود هذا الربيع خسرته وأكثر منه مع وصولها لنقطة النهاية، فالقضاة انتزعوا تحسينات متواضعة على قانون السلطة القضائية، وفي المقابل خسروا ميزة دستورية مهمة أمام السلطتين التنفيذية والتشريعية بإبعادهم عن الإشراف على الانتخابات. وإذا كانت الحركات الاحتجاجية، مثل "كفاية"، قد انتزعت حق التظاهر والنزول إلى الشارع فإن السلطة عادت وسحبت هذا الحق بدايةً عبر القبضة الأمنية العنيفة، ثُمَّ عبر تعديل المادة (179)، وما سيتبعها من قانون للإرهاب.
أما الإخوان، فإنهم ربحوا في البداية قدرة غير مسبوقة على التحرك العلني، ثمَّ حصدوا (88) مقعداً في البرلمان، لكن التعديلات الدستورية جاءت لتحرمهم من تحويل هذا النجاح إلى واقع ملموس وراسخ سواء عبر تشكيل حزب سياسي، أو فك الالتباس عن الوضع القانوني للجماعة، كما أن الدولة رفعت من سقف المواجهة مع الجماعة، من خلال اللجوء لسياسة مصادرة الأموال وتجفيف المنابع، دون أن تمتلك الجماعة أيَّ قدرةٍ على الردِّ السلمي لا من خلال الشارع ولا حتى من خلال نوابها في البرلمان، وبالتالي باتت الجماعة أكثر انكشافاً أمام النظام عمَّا كانت عليه في السابق.
وفي المقابل، فإن خسائر النخبة لم تصب في مصلحة الدولة والنظام، بل على العكس من ذلك فإن كل مكسب انتزعته الدولة من النخبة كان يأتي بمردود عكسي، فالمعركة مع القضاة حرمت النظام من ترديد نغمة "قضاء مصر المستقل"، كما أن القمع العنيف للمظاهرات كان له مردوه السلبي على صورة النظام في الداخل والخارج، فضلاً عن أنه حرم الدولة من مُتنفَّس كانت تفرِّغ عبره شحنة الغضب والكبت الموجودة في الشارع، مما يهدد بانفجار لا يعلم مداه ولا وقته إلا الله سبحانه وتعالى، وأخيراً فإن ممارسة القمع العنيف ومصادرة الأموال بحق الإخوان المسلمين يحمل مخاطر حدوث انشقاق داخل الإخوان؛ قد ينتج عنه جناح راديكالي يخرج عن الخط السلمي للجماعة، وهذا خيار كابوسي للجميع، إلاّ أنه لم يعدْ مستبعداً.
- ثانياً: أن ثنائية "الحرس الجديد والحرس القديم" و " الفكر الجديد والفكر القديم"، انتهت صلاحيتها، وعادت لا تطرب لها الآذان لا في الداخل ولا في الخارج، بل إن فكرة ضخ دماء جديدة في الحزب الوطني الحاكم وتفعيل دوره قد باءت بالفشل، فمعركة التعديلات الدستورية، وما سبقها من تفاعلات وجدل أكدت حقيقة أن كل خيوط اللعبة تمر عبر مؤسسة الرئاسة، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يدافع الرئيس مبارك بنفسه – وعلى غير العادة – عن التعديلات الدستورية؛ فهي ببساطة تمّ صياغتها داخل المطبخ الرئاسي، ولم يكن لا للبرلمان أو للحزب الوطني أي دور في الأمر سوى الموافقة والتمرير.
وهنا من المهم الإشارة إلى أن إخفاق هذه الثنائية جاء مبكِّراً للغاية عمَّا كان متوقعاً، فالنظام كان يعول عليها كثيراً لصنع "نيولوك" جديد يعيد من خلاله تسويق نفسه للمواطنين، كما أنه كان يعتمد عليها للعب دور "القوة الناعمة" لتمرير ما يريد من مشاريع مستقبلية بدلاً من الاستمرار في الاعتماد على "القوة الخشنة" والمتمثلة في أجهزة الأمن، إلاّ أن افتقاد هذه الثنائية لأي مضمون حقيقي أو نيَّة جادة للتغيير شكَّل نقطة ضعفٍ قاتلة، وبالتالي لم يعد أمام النظام إلاّ العودة من جديد إلى سياسة " القوة الخشنة"، لكن هذه المرة مع حصانة دستورية وقانونية بدلاً من الاعتماد على قوانين طارئة.
- ثالثاً: إن محاولة الخارج، الولايات المتحدة وأوروبا، إيجاد "طريق ثالث" للتغيير غير طريقي النظام الحالي والإخوان المسلمين، من خلال تنشيط ودعم القوى الليبرالية، مثل حزبي الغد والوفد، قد باءت بالفشل بسبب عدم جدية الخارج في دعم هذا الخيار، وما يتطلبه ذلك من شدٍّ وجذب مع النظام الحالي هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذه القوى الليبرالية، و على الرغم من صدق نوايا البعض ممن يمثلونها، أخفقت في إيجاد أرضية شعبية مؤيدة لها. ويمكن القول: إن الأوضاع الإقليمية، من تفجُّر الأوضاع في فلسطين وصعود حماس للحكم، وما يعانيه الأمريكيون من مأزق في العراق، إضافةً إلى تشرذم المواقف الأوروبية وتباينها، كلُّ هذا صبَّ في مصلحة أنصار الإبقاء على الوضع الحالي في مصر، وقد أحسن النظام استغلال تلك الأوضاع لصالحه.
- رابعاً: إن ثنائية "تشكيل العقول" عبر استفراد أجهزة الإعلام المملوكة للدولة بعقل المواطن تشكِّله كيفما تشاء، و"تقليم الأظافر"، عبر الضرب بشدِّة بواسطة آلية "العنف المشروع" التي تمتلكها الدولة عبر أجهزة الأمن؛ لإجهاض أي محاولة لزعزعة الاستقرار، أصبحت عاجزة عن الاستمرار في أداء دورها، فالعقول تشكِّلها حالياً مئات الفضائيات المتاحة للمصريين في أقاصي القرى والنجوع، ومساحة الدور الذي يلعبه الإعلام الحكومي انكمشت إلى حد الذبول.
أما فيما يتعلق بسياسة "تقليم الأظافر" فإن هذه السياسة كانت تعتمد على قيام الدولة بتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطن، فضلاً عن توظيف شريحة كبيرة من العاطلين ، وبالتالي فإن المواطن كان يعزف دوماً عن الدخول في صراع مع الدولة في سبيل الحصول على المأكل ومصدر الرزق، لكن هذه المقدرة تلاشت بعد تآكل الدعم وبيع القطاع العام وتوقف الدولة عن توظيف المزيد من الخريجين، وهو ما جعل المواطن العادي أكثر ميلاً للصدام مع الدولة للحصول على ما يعتبره حقاً له دون مبالاةٍ بعواقب ذلك، ولعلَّ هذا ما عبَّرت عنه المظاهرات والاحتجاجات المتصاعدة لعمال المصانع في الأشهر الأخيرة، فالحكومة لجأت – على غير العادة – للتفاوض وسياسة الحلول الوسط؛ لإدراكها أنه لا مجال لاستخدام القوة أو "تقليم الأظافر" مع أناس يدافعون عن قوت عيالهم.
- خامساً: بات من الواضح أن النخبة الحاكمة تعاني من غياب الأفق الإبداعي سواء تعلق الأمر بمواجهة الكوارث، أو صياغة التصورات وطرح الحلول، فالدائرة التي اعتمد عليها النظام المصري في إدارة شؤون الدولة منذ ثورة يوليو، والمتمثلة في كبار التكنوقراط من موظفي الجهاز الإداري للدولة وأساتذة الجامعات والقضاة، إضافةً إلى قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، تمَّ استبدالها بنخبة جديدة من رجال الأعمال الجدد، وإذا كانت الدائرتان تشتركان في افتقاد التكوين السياسي، فإن النخبة الجديدة تفتقر كذلك إلى إدراك وفهم مشاكل الطبقتين الوسطى والفقيرة، بينما كان معظم التكنوقراط حتى أوائل التسعينيات ينتمون إلى هاتين الطبقتين، ولعلَّ هذا الاختلاف يبدو واضحاً عند مقارنة أداء وزيرة القوى العاملة عائشة عبد الهادي ـ التي تنتمي للتكنوقراط ـ بزملائها في الوزارة من فئة رجال الأعمال.
سادساً: إن مسؤولية الإجابة عن "السؤال المأزق" الذي طرحه المحلل السياسي الدكتور حسن نافعة قبل أيام عن: ماذا بعد( إقرار التعديلات)؟ لا تقتصر فقط على الدولة، فالنخبة المصرية بأطيافها كافة مطالبة بصياغة تصورات لهذه الإجابة، وهنا لا يكفي أن تقوم المعارضة بالتهديد بأن الطوفان الذي سيطيح بالجميع في طريقه ويأكل الأخضر واليابس بات قريباً، فالمعارضة لم تحزمْ أمرها حتى الآن حول ما إذا كانت جادّة لدفع الثمن الذي يتطلبه التغيير، وهو نفس المأزق الذي تتخبط فيه الدولة، خاصَّة أن خططها لتقليد النموذج الصيني في تحقيق نجاحات اقتصادية تعوض المواطنين عن تضييق هامش الحرية لم تؤتِ ثمارها المرجوّة .
وإذا ما حاولنا استشراف "ما بعد"، فإن النظام غالباً ما سيلجأ إلى استراحة؛ من أجل امتصاص توابع التعديلات الدستورية، وبالتالي فإن حلِّ مجلس الشعب الحالي والدخول في خضم انتخابات جديدة يبدو مستبعداً على الأقل خلال العام الحالي، كما يتوقع أن تتراجع وتيرة الحملة الأمنية ضدَّ الإخوان المسلمين بعد انتهاء معمعة تعديل الدستور وتوابعها من قوانين جديدة، خاصَّة وأن الجماعة استوعبت الدرس، وقلّلت من حجم نزول أنصارها إلى الشارع، كما أن النظام يخشى من عواقب الضغط على قيادة الجماعة لدرجة تعوق قدرتها على ضبط شبابها.
وفي هذا الإطار لا يُستبعد الإفراج عن زعيم حزب الغد المعارض ـ الدكتور أيمن نور ـ سواء عبر إفراج صحِّي أو عفوٍ رئاسي، فغالباً المستقبل السياسي للرجل قد انتهى والتعديلات الدستورية تم تمريرها؛ وبالتالي لم يعد هناك فائدة من الإبقاء عليه في السجن مع تدهور حالته الصحية، وتصاعد المطالبات الدولية المتكررة بإطلاق سراحه. كما أنه لا يُستبعد أن يحاول النظام البحث عن طريقة جديدة؛ لإعادة تسويق "جمال مبارك"، ولو عن طريق دفعه للعب دور "الإطفائي" الذي يحاصر ويحتوي ويقلِّل من التداعيات السيئة للتعديلات الدستورية، وإن كان من الصعب الجزم بوجود فرص حقيقية؛ لنجاح مثل هذا السيناريو في حال حدوثه.
هذا بالنسبة للنظام، أما بالنسبة للنخبة المعارضة، فمن المرجح أن يستمر الإخوان في سياسة التهدئة الحالية لاحتواء ومعالجة أثار الضربات الأمنية الأخيرة، وفي المقابل فإن حركة "كفاية" مع تولي المفكر البارز عبد الوهاب المسيري لقيادتها، تبدو مُقبلة على مرحلة زخم جديدة تعيد تجديد شباب الحركة، ويُتوقّع أن تنجح قيادة المسيري للحركة في تشجيع بعض رموز النخبة على الانخراط في الحركة الاحتجاجية والنزول إلى الشارع، خاصّة أن المسيري يستلهم في قراره النزول إلى الشارع ما فعله سعد زغلول، عندما قاد من منصة القضاء ثورة الشعب المصري عام 1919.
وفي النهاية، فإن هذه التفاصيل على تنوعها لا تُخفي القلق الذي ينتاب البعض من فقدان كلٍّ من النخبة الحاكمة والنخبة المعارضة في مصر لأي رؤية إستراتيجية للمستقبل؛ فالنظام لا يمتدُّ نظره لأبعد من كيفية مواجهة اللحظة الحالية وإفشال خطط المعارضة؛ بينما يتوقف تفكير المعارضة بأطيافها كافة عند اللحظة التي تزيح فيها النظام من موقعه، ولا وجود في النظرتين لأي مشروع يُعيد بناء الدولة المصرية من جديد.