في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (٨)
القصة القصيرة جداً عند مصطفى لغتيري

البحث عن هوية متفرّدة

د. يوسف حطيني

يقدّم القاص والروائي المغربي مصطفى لغتيري في مجموعته القصصية (زخّات حارقة[1]) أكثر من مئة قصة قصيرة جداً، تثير كثيراً من الأسئلة حول عناصر هذا الفن السردي الجميل، وانفتاحه على تقنيات لا حصر لها، منطلقاً من واقعه وتاريخه وثقافته، مستورداً من السرد والشعر كل ما من شأنه أن يعمّق دلالة النص القصصي، مستولداً صيغاً نحوية وتركيبية تختلف باختلاف النصوص، هادفاً من خلال ذلك إلى الابتعاد عن مشابهة ذاته، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

لقد اتفق المنظرون للقصة القصيرة جداً، على الرّغم من اختلافهم في تفاصيل كثيرة، أن الحكائية والتكثيف والمفارقة ما زالت تشكّل أسس هذا الفن، ووضعوا القاص أمام امتحان صعب حدوده الإخلاص للحكاية المدهشة في سرد مكثف قصير، وهذا ما دعا الكثيرين إلى التضحية بعنصر أو أكثر من هذه العناصر، مما أنتج نصّاً هجيناً، يقترب من القصة القصيرة مرة، ومن الخاطرة مرة أخرى.

في "زخّات حارقة" لم يضحِّ مصطفى لغتيري، فيي معظم نصوصه، بأيّ من العناصر الأساسية، ولم يضحّ أيضاً بعنصرين كنّا قد أشرنا إليهما في كتابنا (القصة القصيرة جداً) ، وهما عنصرا الوحدة وفعلية الجملة[2]، غير أنه لم يتعامل مع كل تلك العناصر كما يتعامل المؤمنون مع نص مقدّس، بل راح يحاورها ويداورها، مقتنعاً في قرارة ذاته أنّ القواعد التي يضعها النقاد وُضعت من أجل أن تخترَق، لا من أجل أن تُتّبَع.

* * *

لقد نجح لغتيري في كثير من قصصه القصيرة جداً في امتحان التكثيف، فقدّم حكاية تتجه مباشرة نحو نهايتها، دون جريٍ وراء تفاصيل غير ضرورية، على نحو ما نجد بشكل خاص في قصة (أمل) وقصة (فرح) وقصة (تقمّص) وقصة (حرية) التي يجد القارئ فيها إبداعاً من وجهة بنائية ووطنية، فهي تعبّر تماماً عن إبداع لغتيري وانتمائه في آن. تقول القصة:

"مدججين بعتادهم الحربي، تقدم الإسبان نحو جبال الريف المنيعة.. بعد محاولات عدة للاختراق، نكصوا على عقبيهم مندحرين. حينها فقط ،أدركوا أن الحرية ليست بالضرورة، امرأة شقراء، ذات عينين زرقاوين". ص45.

ولغتيري الذي يؤمن بدور الحكاية يؤمن أيضاً بالهروب من نمطيتها، لذلك يقدّم في قصصه القصيرة جداً أشكالاً حكائية مختلفة، تتخّذ بُنى دائرية أو تعاقبية أو تعليلية أو غير ذلك، مما يمكن أن يجعل مجموعته فسيفساءً بنائياً يُخرج القارئ من إملالٍ مفترض، ولعلّنا نشير ها هنا إلى قصة "برتقالة" التي تنتهج بنية دائرية، تعتمد على بنية سردية سابقة، وتعيد إنتاج بدايتها في نهاية تصنع مفارقة لفظية وحدثية وفانتاستيكية في آن. يقول لغتيري في قصة برتقالة:

"صباحاً فتحت باب الثلاجة... مددت يدي داخلها... تناولت برتقالة.... متلذذاً شرعت أقشرها...فجأة أمام ذهولي، تحولت البرتقالة إلى سيارة أجرة صغيرة حمراء... شيئاً فشيئاً استحالت دهشتي إعجاباً بالسيارة...
بتؤدة فتحت بابها الخلفي... انبثق منها الكاتب متأبطاً أوراقه... مددت يدي نحوه... دون تردد سلمني إحداها... متلهفا قرأتها... إنها قصة سيارة أجرة، تحولت إلى برتقالة.. ص21.
في قصة أخرى عنوانها "تأهّب" يقدّم القاص بناءً تعاقبياً، غير أنه يفيد من هذا التعاقب، ليكرّر حكاية الصياد والفريسة/ الجلاد والضحية التي استمرت منذ الأزل بلا توقّف. وها هنا يبدو اختيار الشكل الحكائي على علاقة وثيقة (وإن كانت غير مقصودة) بالبنية، فالمسألة لا تتوقف عند مجرد بناء تعاقبي، بل تتعدى ذلك إلى مأساة تتعاقب فصولها إلى الأبد:

"على بعد خطوات من القفص، كان القط في حالة تأهب قصوى. لم يبال العصفور بتحفزه.. بلا مبالاة طفق ينتقل برشاقة داخل القضبان. بين لحظة وأخرى، تتوقف حركته، يدخل منقاره الرفيع في علبة، وبانتشاء يشرع في التقاط الحب، ثم لا يلبث أن ينخرط في وصوصة مسترسلة...
بعد فترة وجيزة، تسترخي عضلات القط، وترتسم على ملامحه مسحة من الوداعة، وكأنه اقتنع أخيرا، ألا جدوى من استنفاره.

من مكانه ظل القط يرقب العصفور، وقد دب في أعماقه شيء من اليأس، لكن ما إن يسري داخل القفص بعض النشاط، حتى يتحفز القط من جديد، متأهبا للانقضاض" ص 28.

كما يلجأ القاص غير مرة إلى بناء الحكاية بناء تعليلياً، مستثمراً الصيغ اللغوية المختلفة التي يتيحها نظام الجملة العربي، على نحو ما نجد في قصة "وثيقة" ص 11، وقصة "المتشائل" ص29، وقصة "أسرة" التي تستعين بالحوار، لتقدّم حكاية تحفر بكثير من الأناة وجدان القارئ، وتقدّم شخصية الأب في أنصع صورة للفداء. فالأسرة التي تقدمها القصة تشعر كلّها بالسعادة، ولكل من أفرادها أسبابه، والمفارقة المدهشة تبنى على تسويغ سعادة الأب الحزين في أعماقه حتى نقيّ العظم. تقول القصة:

"قال الابن :

- أنا سعيد ، لأن أبي يشتري لي كل ما أحتاجه.

- قلت البنت :

- أنا سعيدة لأن أبي يسمح لي بالذهاب أينما شئت.

- قالت الزوجة :

- أنا سعيدة لأن زوجي أبدا لا يرفض لي طلباً.

ـ قال الزوج ، وقد طفرت من عينيه دمعة :

- حتما ، يجب أن أكون سعيدا لأن كل من حولي سعداء." ص 55.

كما يقدّم القاص شكلاً يبدو صعباً على أن تستوعبه القصة القصيرة جداً، وهو الحكاية داخل الحكاية، فهو يغامر في قصة "البهلوان" بهذا الشكل ليقدّم حكايتين متداخلتين، وينجح من خلال استثمار الرصيد التاريخي لاسم العلم، وهو ما سنتطرق إليه فيما بعد، في تقديم حكاية ثالثة للقارئ. يقول لغتيري في قصة "البهلوان":

"حين انتهى التوحيدي من ذكر ما لديه، خاطبه الوزير كعادته قائلا:

-هات، يا أبا حيان، ملحة الوداع.

فكر التوحيدي لحظة ثم قال:

ـ في سالف العصر ولأوان، كان ملك من بني ساسان، يستقدم حكيما يستنصحه، وحين يقضي منه حاجته، يأمره الإتيان بما يضحكه..كان يفعل ذلك ليذكره، دوما، بأنه مهما عظم شأنه، فهو ليس سوى بهلوان..

ضحك الوزير – أضحك الله سنه – وغادر التوحيدي المكان. ص26.

ويسثتمر لغتيري في قصصه الطرق المختلفة لعرض الأحداث، فيلجأ إلى رصد الأحلام والكوابيس، وإلى الحوار، ويلوي عنق الوصف (الذي يعوّق سرعة السرد) ليضعه في خدمة سرد مكثّف موجز. ولعلّنا نشير ها هنا إلى قصة "كابوس" التي تحاكي أحد نماذج الشخصيات الاجتماعية السائدة في مجتمعنا العربي، وتقدّم إدانة صرحة لذلك النموذج من خلال الاعتماد على كابوس يتكرّر بأشكال مختلفة، ليقدّم للقارئ دلالات جديدة:

"هبت الطفلة من نومها فزعة.. هرولت الأم نحوها.. ضمتها إلى صدرها، ثم سألتها:
-ما بك يا ابنتي؟

بصوت متهدج، يخالطه نحيب متقطع أجابت:

- كلب شرس يطاردني.. أوشك أن يعضني يا أمي.

صباحا أخذت الأم ابنتها إلى "فقيه" ليعد لها تعويذة..انبهر الفقيه بجمال الطفلة، فالتمعت في عينيه نظرة، كانت قد رأت مثلها في عيني شخص تعرفه جيدا.. ارتعبت الطفلة، فانطوت ذاتها..
حين حل الليل، رافقت الأم ابنتها إلى الفراش.. ظلت بجانبها إلى أن نامت..
لم يمض زمن طويل، حتى لعلعت في البيت صرختها.. أٍسرعت الأم إليها.. حضنتها بلطف ثم سألتها:
- الكلب ثانية يا ابنتي؟

مرتعبة أجانب الطفلة:

ـ بل كلبان يا أمي" ص ص 33/ 34.

* * *

ويستلهم القاص شخصيات حكاياته من مصادر مختلفة، تحيل على التراث والتاريخ والواقع، ويضع كل الشخصيات في مواجهة ظرفها الخاص المختزل الذي يناسب القصة القيرة جداً، إذ لا مجال لاستثمار طاقات السرد جميعاً على مساحة القص الصغيرة في إنتاج عناصر الحكاية، ولكن لا بأس من تسمية شخصية هنا، وتنويع فاتحة نصيّة هناك، ولا بأس من تلوين الخاتمة، والعبث بنظام ترتيب الأحداث بين حين وآخر.

اللافت في تجربة لغتيري هو ذلك الاستثمار الفعّال لتسمية الشخصية، مخالفاً بذلك تنظير د. جميل حمداوي الذي رأى في خلال الحديث عن مقياس التنكير أنّ عدم تسمية الشخصية من أركان القصة القصيرة جداً[3]، قالقاص يدرك أن اسم العلم (التاريخي بشكل خاص) قادر على أن يكون جزءاً من التشخيص؛ لأنه يحمل جزءاً من تفاصيله في ذاكرة القارئ، ويمكن لنا ها هنا أن نمثل إلى عدد كبير من الأمثلة؛ فالقاص يستثمر أسماء العلم نيرون ونابليون والمعري وسارتر وسيمون دوبوفوار، ليجعل هذه الأسماء شخصيات لقصصه، وربما يضع أسماء أخرى في سياق القص، أو يلمّح إليها تلميحاً، أو يبني عليها الحكاية، كما نجد في قصة (غزل) ص53، وعلى نحو ما نرى في قصة (الخطيئة)؛ إذ يتقاسم آدم ونيوتن دلالة التفاحة التي تعيش رعبين تاريخيين:

"بخطى واثقة، توجه "نيوتن" نحو شجرة.. توقف تحتها، وطفق يتأمّل ثمارها.. أحسّت تفاحةٌ بوجوده فارتعبت.. ألقى في روعها أنّه آدم يوشك، ثانية، أن يرتكب فعل الخطيئة.. حين طال مكوثه، انتفضت التفاحة فزعة، فانكسر سويقُها.. هوت على الأرض، واستقرّت هامدة بالقرب من قدميه.." ص5.

وعلى الرغم من التنظير الذي يرى في الجملة ذات الطاقة الفعلية أساساً لغوياً تركيبياً لبناء القصة القصيرة جداً[4]، فإنّ لغتيري يجتهد اجتهاداً لافتاً في تنويع ذلك التركيب الفعلي، خاصة في افتتاحيات قصصه، إذ يبدأ بالفعل أو بالحال أو بالجار والمجرور أو بغير ذلك، دون أن يتيح للقارئ القبض على تكرار يفضي إلى المملّ أو المتوقّع، ويمكن ها هنا أن نشير إلى الافتتاحيات التالية:

· " حلَّ فصل الخريف.. تباعا جفت الأوراق وتساقطت.." خبرة، ص 31.

· "مثقلا بالهم دخل الحانة.. شرب كأسا.. كأسين.. ثلاثة.." سعادة، ص32.

· "في كل خطوة خطاها "نابليون" نحو مصر، ظل يداعب خياله حلم، بأن يعثر هنالك على "كليوباترا" أخرى" المومياء، ص7.

· "حين تطلعت إلى المرآة، لتتأمل وجهك فيها، أذهلك فراغها". المرآة، ص6.

أمّا في تعامله مع الخواتيم فإنه يقدّم لنا أشكالاً مختلفة تعتمد على خاتمة مفتوحة على أكثر من احتمال، على نحو ما نجد في قصة "متاهة" ص28-29، أو خاتمة تضيء لحظة تنوير، من خلال الاعتماد على مفارقة يجتهد القاص في تنويعها، فيعتمد حيناً على الحدث وحيناً على الازدواج اللغوي، ويجتهد أحياناً في بناء ثنائيات ضدّية تقوم على المقابلة بين الأصل والظل وبين الحرية والسجن وغير ذلك.

في قصة (لخلاص) يقدّم القاص واحدة من أنجح القصص التي تستند إلى المفارقة التي تعتمد الحدث أساساً لها، إذ يتحوّل الجلاد في طرفة عين إلى الضحية، ويحرم ضحية تبحث عن الموت من الوصول إلى مبتغاها:

"أحدثت الطلقة صوتاً مدوياً، أفزع الطيور، فانتفضت هاربة.... وحدها عصفورة ـ كأنها تعاني من اكتئاب حاد ـ طارت في اتجاه الصياد، باحثة عن فرصة للخلاص.

متحسراً رفع الصياد عينيه، لمح العصفورة الضئيلة تحوم فوقه، استخسر فيها الطلقة، فتجاهلها.... لكن، حين لاحظ إصرارها، تأملها لحظة. وكأنها أوحت له بفكرة الانتحار،... وجه فوهة البندقية نحو نفسه، ثم... ضغط على الزناد." ص6.

وثمة مفارقة تأتي من خارج الحكاية، يصنعها السارد حين يضيف عبارة تعطي الحكاية معناها، على نحو ما نجد في قصة (مسرحية) إذ يتدخل السارد، ليدوّن تسويغاً لتصفيق المرأة التي شاهدت المسرحية، وليمنح حكايته جدارة القص:

"من مقعدها في الصف الأمامي ، كانت المرأة تتابع بشغف أحداث المسرحية. أعجبها رد فعل الممثلة حينما اكتشفت خيانة عشيقها. حين انتهت المسرحية ، لم تتوقف المرأة عن التصفيق إعجابا بالممثلة.. المرأة المصفقة هي كاتبة المسرحية ، و أحداثها مستوحاة من حياتها. ص54

وفي قصة "ظل" يستثمر القاص تقنية معروفة في القصة القصيرة جداً، وهي الإفادة من المقابلة بين الأصل والظل، لإحداث مفارقة ما، فيقدّم قصة لطيفة عن الظل الذي تلوّث، ولكنه كان قابلاً للتلميع، مثل سيرة صاحبه:

"تفقد الرجل ظله، فلم يجده.. عبثاً بحث عنه في كل مكان.. فجأة تراءى له ملقى في القمامة.
متلهفاً، دلف نحوه.. التقطه.. لمعه جيداً.. ثم ألصقه به من جديد. ص17. ولعل استثمار لعبة الظلال في قصة "الغرفة" كان أكثر نجاحاً، إذ غدا الظل محفّزاً وصانعاً للحكاية، وبطلاً من أبطالها، وقدّم قصة تمتاز بالجدة والفرادة والإبداع:

"في العمارة المقابلة لبيته.. انبلج الضوء فجأة.. لاح خيال امرأة، جابت أرضية الغرفة فترة، ثم اختفت.. انطفأ الضوء.. ثم ما لبث أن اشتعل من جديد.. هذه المرة لمح ظل رجل يتسكع داخل الغرفة.. لم يمض زمن طويل حتى اختفى الضوء.. حين عزم على النوم، أضيئت الغرفة من جديد.. بفضول تطلع إليها.. رأى ظل الرجل يحمل شيئا، ويغادر الغرفة.. ثم انطفأ الضوء. ص39.

وفي قصة "الغريب" يبني لعتيري مفارقته على اللغة مستفيداً من النعت الذي يرافق الأشجار، فثمة أشجار وارفة، وأشجار ظليلة، وهو يفيد من الدلالة المألوفة؛ ليقلبها في نهاية القصة رأساً على عقب، مانحاً القصة دلالتها الوارفة:

"في بلادنا شجرة وارفة الظلال.. جاء الغريب اشتراها، وطردنا بعيدا، لنصطلي تحت نيران الشمس الحارقة.. بعد زمن، رحل الغريب.. مبتهجين عدنا إلى الشجرة، فلفحتنا ظلالها الحارقة". ص49.

وقد جاءت بعض مفارقاته مفعمة بسخرية مرة، على نحو ما نجد في قصة "عولمة" ص ص34-35 التي تنتقد الزعيم الذي يلعن العولمة، والإمبريالية، واقتصاد السوق، ولكنه لا يتورّع، عند العطش، عن أن يشرب زجاجة كوكا كولا أمام الحشود. كما اقتربت تلك المفارقات، في قصتين من قصصه، من حدود النكتة التي تضحك المتلقي، ولا تترك أثراً عميقاً في نفسه. ونشير ها هنا إلى قصة "مبدأ" التي تكاد تكون مجرد طرفة:

"اعتدل القاضي في جلسته .. تأمل ملياً المتهم.. من جديد نظر في أوراقه.. لرابع مرة يمثل هذا الشخص أمامه، بنفس التهمة. أمام استغراب الجميع، غادر القاضي مقعده.. توجه نحو المتهم.. صافحه بحرارة.. ثم عاد إلى مقعده. لحظتها مال نحوه المدعي العام.. سأله هامسا:

ـ لم فعلت ذلك سعادة القاضي؟

دون تردد أجابه:

ـ صافحت فيه الثبات على المبدأ. ص19.

* * *

وتعدُّ مجموعة "زخات حارقة" حاملاً معرفياً لكثير من الموضوعات التي يحيل عليها، عبر تناصات أدبية وفلسفية ودينية متنوعة، فثمة حضور للمعري ورسالة الغفران، ودانتي والكوميديا الإلهية، وثمة إشارة إلى بشار بن برد، وقد ازدادت ليلته نُكراً، وثمة توظيف لجلجامش وبلقيس وهدهد سليمان، وغير ذلك من الإشارات التي تطرح مرة أخرى ضرورة ارتقاء القارئ، بدلاً من هبوط مستوى النص، سعياً إلى اللقاء بينهما.

ويعتمد مصطفى لغتيري في صناعة لغته الحكائية على المجاز اعتماداً لافتاً، ويرتكز في كثير من الأحيان على الأنسة والتشخيص، مستثمراً الحيوان والشجر والحجر، ليعبّر عن هموم البشر، دون أن ينسى وضع المجازات اللغوية في سياق حكائي وفلسفي وإنساني وثقافي إحالي، على نحو ما نجد في قصة (رقصة) ص32-33، وفي قصة "مالك الحزين" التي تحيل شخصيتها الأساسية على بيدبا وابن المقفع وأوسكار وايلد، دون أن تفقد بوصلة توجيه الحكاية نحو هدفها النبيل:

"في مراكش.. على أسوار قلعتها القديمة، كان مالك الحزين يتربّع على عرش المدينة.. من عليائه يتأمّل تكاثر الحمام من حوله، وتناقض بنات جنسه، بشكل يهددها بالانقراض.. بروية كان يفكّر في الأمر، وهو يسترجع تلك الحكاية القديمة، حين أفتى أحد أسلافه لحمامة برأي، أنقذ فراخها من الثعلب، وأهلكه.

فجأة حطّت بجانبه حمامة حزينة.. متألمة طفقت تبثه شكواها وتستعطفه المشورة.. أشاح مالك الحزين عنها بوجهه وقال:

لقد تغيّر الزمان يا صغيرتي". ص5.

وفي قصة (نظافة) يضعنا القاص، من خلال اعتماده على شخصية الدودة، أمام مقولة جلجامش الكبرى: "كم أنت مقدّس وخطير يا دود الأرض.. حتى نكون طعام مأدبتك الغرّاء"، منطلقاً منها، ليعطي دودته تميّزها من خلال العزوف عن تناول الجثث العفنة، بحثاً عن جثة نظيفة في عالم لا يحتمل إلا العفن الذي يتسرّب حتى إلى أعياده. تقول القصة:

"منقادة بحسها الغريزي، زحفت دودة جائعة نحو جثة داهمها العفن ..ببطء دلفت نحوها.. بعد لأي أشرفت عليها.. لمحت جمعاً غفيراً من الديدان يحيط بالجثة ..بنهم يقتات عليها.. للحظة توقفت الدودة.. تأملت المشهد ملياً، فاكتسحها تقزز مقيت.. عافت نفسها أن تتغذى على تلك القذارة النتنة..

بعد هنيهة، نكصت على عقبيها متقهقرة.. بتثاقل دبت نحو مستقرها،في انتظار جثة أكثر نظافة" ص ص 7-8.

* * *

ولا تخلو المجموعة من نصوص محدودة في هذه المجموعة تفتقر إلى التكثيف، من مثل قصة (الأسير) ص ص 25-26 و(غزل) ص53، وقصة (طفولة) ص ص11-12 التي تشبه تأطيراً نظرياً للسائد الاجتماعي الساعي إلى الفصل بين الذكورة والأنوثة، إذ ينتصر القاص فيها للتفاصيل التي تحاول أن تخلّص النص من وطأة النظرة الأيديولوجية، وتمنحه حيويته، ولكنها تثقله بما هو غير محتمل في سرد مكثف، يمكن أن يصنع حيويته من سرعة السرد ذاتها.

* * *

باختصار، تبقى مجموعة "زخات حارقة" لمصطفى لغتيري واحدة من أهم مجموعات القصص القصيرة جداً التي تؤسس لهذا الفن السردي الجميل، لأنها تجتهد في تكوين أطُر إبداعية متنوعة، تسعى إلى التجديد والابتكار، بدلاً من الاستسلام لوطأة المحاكاة.

[1] مصطفى لغتيري: زخات حارقة، قصص قصيرة جداً، ط1، 2013. ويذكر هنا أن هذه القصص سبق نشرها في مجموعتين قصصيتين، هما مظلة في قبر (2006) و(تسونامي) (2008).

[2] د. يوسف حطيني: القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق، دار اليازجي، دمشق، 2004، ص31-32 و38ـ40.
[3] ينظر ها هنا إلى (مقياس التنكير) في أثناء مناقشة حمداوي للمعيار السردي في أركان القصة القصيرة جداً، ويمكن النظر في:
ـ د. جميل حمداوي: القصة القصيرة جداً بين التنظير والتطبيق (المقاربة الميكروسردية)، حرّاء للطباعة، وجدة، 2013، ص ص 159-161.
[4] ينفرد د. يوسف حطيني ود. جميل حمداوي بالإشارة إلى حتمية استثمار الطاقة الفعلية للجملة في القصة القصيرة جداً، في أثناء حديثهما عن أركانها، ويمكن النظر في:
_ يوسف حطيني: القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق، 38ـ40.
ـ د. جميل حمداوي: القصة القصيرة جداً بين التنظير والتطبيق (المقاربة الميكروسردية)، ص168.