في النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً (2)

عامر الصفار في "قارع الطبول"

السرد على حدود الحكائية والتكثيف

د. يوسف حطيني

صدرت منذ مدة وجيزة مجموعة قصصية ثالثة للقاص عامر هشام الصفّار[1] بعنوان "قارع الطبول[2]"، وهي مجموعة تضم ما يزيد على مئة وثلاثين نصّاً سردياً قصيراً جداً، قاربت عدداً من الموضوعات الوطنية والاجتماعية والإنسانية، وقد أشار القاص والناقد المغربي حميد ركاطة في أثناء تقديمه للمجموعة إلى مقاربتها لموضوعات الحب والخيانة والشيخوخة، والجنس، والاغتراب، وطبيعة السلوك الانساني، واستنادها إلى المفارقة والتناص[3]، واعتمادها على حكايات شخصيات مقهورة بسبب فظاعة الواقع، أو بسبب لعنة الرحيل عن الوطن[4]، مما يحيل في بعض الأحيان على مسارات مفعمة بسرد سير- ذاتي[5]؛ ذلك أن المؤلف نفسه عانى لعنة الرحيل تلك بأقسى تجلياتها.



* * *

إنّ أول ما يلفت النظر في هذه المجموعة هو اعتمادها على مقابلة الحاضر بالماضي في صناعة مفارقتها، إذ تعدُّ مناقضةُ الحاضر، انطلاقاً من الإعجاب بالماضي ـ حتى وإن كان قاسياً ـ أساساً من أسس بناء الحكاية لديه. والماضي في الأغلب الأعم يحيل ـ عنده ـ على العراق أرضاً وشخصيات وذكريات، بينما يبدو الغريب الذي عاش حكاية النفي القسري حتى منتهاها أرضاً خصبة للذاكرة، تهزّها الريح، في كل سانحة.

في قصة "سفر" يقيم القاص أود الحكاية على التناقض الحاصل بين الماضي والحاضر في ذاكرة المغتربين العراقيين، وهم يحضرون ندوة، تحكي فيها شاعرة شوقها للوطن الذي غادرته قبل يوم واحد على جناح طائرة جامبو كبيرة، مما يولّد مفارقة أخرى في صدور المستمعين الذين فارقوه منذ زمن مكرهين، فاختلطت في قلوبهم صرخات حنينها بشوقهم الذي فاض حتى بلغ حدود دجلة والفرات:

"تعكس الشمس أشعتها الخفيفة عبر الباب الزجاجي لقاعة الندوة الأدبية، فتسقط على وجوه الجالسين على يسار القاعة. الضيوف اليوم ملؤوا المكان، والشاعرة الضيف جالسة قرب المايكروفون.

الجمهور مغترب، والوطن الأم بعيد وأخباره مزعجة. يهش مدير الجلسة ذبابة راح طنينها فجأة يملأ المكان. بعد دقائق صدح صوت الشاعرة الضيف بقصيدة مهداة الى وطنها الغني الذي تركته قبل يوم واحد على جناح طائرة جامبو كبيرة.

المغتربون يعطون الشاعرة الآذان، ولكنّ قلوبهم راحت تسافر بعيداً حيث نهر دجلة والفرات وبغداد والأزمات[6]."

ويبدو كلّ شيء في قصة "هجرة" مقبولاً: جو عائلي حميم، لا ينقصه إلا دفء الوطن البعيد، حيث أم سمير وأم محمد تعانيان برداً (قد يكون رمزياً)، بينما تتحد الأمنيات لتعيد البشر والطيور إلى أوطانها:

"ضمّت جلسة عائلية في كارديف عاصمة مقاطعة ويلز قبل أيام، الحاجة أم سمير مع الحاجة أم محمد. بدا التعب على الحاجتين، حيث تعانيان من قلة النوم وأوجاع المعدة.

تعلّق الأهل والأصحاب جميعهم حول مائدة طعام؛ لذا في حين راحت الحاجتان، إحداهما تقود الأخرى الى نار الموقد طلباً لدفء افتقدتاه منذ حلولهما في منطقة باردة كئيبة ماطرة بعيدة عن موطنهما الأصلي..حيث الألفة والشمس الساطعة.

أدّت الحاجتان الصلاة، ورفعتا اليد دعاءً لأن يعود الجميع للديار، كما تعود الطيور المهاجرة لأعشاشها الأولى أسراباً وجماعات[7]".

ويستجلب الحاضرُ السردي الزمنَ الماضي في قصة أخرى بعنوان "أم عادل" حيث تزور الأم مقبرة المدينة، فتقف، في أعماقها، بين الزمنين: بين الماضي السعيد، حيث ابنها هو عكّاز الزمان، والحاضر الأليم، حيث فقدت هذا العكّاز، بينما يعيش الخارجُ زمنَ فرحة العيد السعيد التي تناقض حالتها الحاضرة:

"في صبيحة العيد السعيد، أصرت الحاجة أم عادل على زيارة مقبرة المدينة، فزيارة القبور واجبة في العيد. لفّت عباءتها جيداً، ووضعت منديلها الأسود في حقيبة يد صغيرة. قبر أبنها لم يكن بعيداً من باب المدخل الرئيس. ظلت تقصّ لابنها ما حصل خلال الأشهر الماضيات. بكت كثيرا وندبت الزمن الخؤون الذي تزور فيه الأمهات أبناءهن في القبور. عندما شارفت على نهاية الحكي خانتها قدماها فلم تقو على النهوض فظلّت أم عادل بأنتظاره هو ليكون لها من جديد عكاز هذا الزمان[8]".

وفي قصة "عطرها" يبني القاص مفارقته التي تزاوج بين الماضي والحاضر على تكنيك جديد، حيث يظهر تداخل الحواس في أبهى أشكاله، وتمتزج المؤثثات البصرية والسمعية والشمّية؛ لتروي حكاية طريفة، بطلها المكان، حيث يسمع القاص رمزياً صوتاً بغدادياً بعيداً عنه آلاف الأميال:

"في قطار الليل وأنا عائد من لندن إلى مدينتي الصغيرة التي تبعد قرابة ال150 ميلا، سمعت صوتا أنثوياً ناعماً يتحدث بلهجة أهلي البغدادية. بدا الصوت مألوفا عندي بعض الشيء. ألتّفتُ ورائي حيث مصدر الصوت فلم أجد أحدا. بعد دقيقة رحت أقرأ رسالة على الموبايل وصلتني للتو من زوجتي تذكرّني بشراء عطر ال Light blueالأنثوي[9]".

ها هنا، في القصص السابقة، ينهض الماضي في ذاكرة شخصيات موجودة في الغربة، حيث الحدث الرئيس هو حاضر سردي، في حين أن ثمة قصصاً أخرى يكون ماضي السرد هو الذي يقود حدثاً رئيسياً قديماً يجري في ذاكرة الشخصية، وثمة أمثلة كثيرة لهذا النوع من السرد في "قارع الطبول" التي تزدحم بذكريات الوطن السعيدة والمؤلمة.

في قصة بعنوان "طعن اللسان" يقدّم القاص فصلاً من ذكرياته عندما كان طالباً، وثمة في النص تفاصيل سيرية شائقة، غير أن الذي ينقص حكاية القصة حبكة مشوقة، تقود القاص إلى الاستغناء عن تلك القفلة اللغوية التي لا ميزة لها باستثناء سجعها:

"كانت مكتبة والدي تضم عيون كتب الأدب العربي والإنكليزي. وعندما كان معلّم اللغة العربية في مدرستنا الثانوية يطلب منا حفظ أبيات قصيدة المتنبي مثلاً، كنت أستعين بمكتبة والدي، وأحفظ القصيدة كلّها عن ظهر قلب.

وحدست يوما أن معلّمي الحاذق يعرف ذلك، فسألني عن قصيدة المتنبي في حصة دراسية مسائية. فرحت أقرأ أبياتها حتى طلب مني المعلّم التوقف ولم أكد أكمل المطلع. فضحك زميلي عدنان في الصف وقال إني لا أعرف غير هذه الأبيات. حدجه المعلّم بنظرة قاسية، وأشار لي بأن اكمل حتى أتيت على كل القصيدة، صدراً وعجزاً، بداية ومنتهى.

وبّخ المعلم صديقي وذكّره بصوت عال بأن طعن اللسان كوخز السنان[10]".

وقد تدارك القاص هذه الهنة في قصة أخرى عنوانها "عصا الخيزران" فأضاف على النص السيري حبكة تجعل منه قصة قصيرة جداً، لها حظ كبير من النجاح، بسبب العمل على تطوير السيرة الذاتية نحو حبكة حكائية محكمة ذات دلالة وارفة، تجعل النص جديراً بالانتماء إلى القَص:

"اختارني معلّم التاريخ في مدرستي المتوسطة من بين كل الطلاب ليدعوني، حيث منصته العالية في مقدمة الصف. أخرج عصاه الخيزران وهوى بها على كفي.

- أنت من أثار هذه الجلبة في الصف.

- لست منهم يا أستاذ.

- أسكت..لا تتكلم.

بعد عشر سنوات، صار المعلّم وزيراً للأمن، عند نظام ظلّ يدعو الناس إلى السكوت حتى الموت[11]".

وثمة تكنيك آخر، يعتمد على مقابلة الزمنين المشار إليهما، لم يلجأ إليه القاص كثيراً، على الرغم من جماله الفني، ويقوم هذا التكنيك على الإيهام بالحاضر، حتى إذا استسلم القارئ لغواية ذلك الإيهام قدّم القاص لحظة التنوير التي تحيل إلى زمن آخر. وفي قصة "سيناريو للفرح وآخر للحزن" تطبيق فذّ لهذا التكنيك إذ تجري كل الأحداث الحاضرة في ذاكرة الشخصية، بوصفها حاضراً روائياً خادعاً سرعان ما تظهر لعبته السردية المتقنة:
"هم تسعة من دورة تخرّج واحدة في جامعة. يتواجدون في خيمة ذات طراز حديث نصبت في مبنى فندق يطل على حديقة غنّاء. التسعة يطربون لصوت فنان مغمور في حين راح أحدهم –تبدو عليه الجدية والحكمة- يحضّر شرائح وضعت على جهاز يستعرض فيها أسماء زملاء لهم استشهدوا قبل ثلاثة عقود من الزمن في حرب ضروس.

موّال بغدادي في خلفية المشهد يتقاطع مع نشيج لسيدة تبدو وحيدة في المكان[12].

* * *

ثمة في قصص عامر الصفّار القصيرة جداً الكثير من النجاحات، كما أن فيها الكثير من الاجتهادات، من حيث القدرة على التكثيف وتنويع الحبكة وتشويق الحكاية. وإذا كان للمرء أن يبدأ بالنجاحات، فإنه بالإمكان الإشارة إلى عدد كثير من النصوص التي نجحت في حمل مقولتها ورؤيتها، على جناح حكاية مكثفة، استثمرت أشكال عرض الحدث المختلفة، وأفادت من العنونة والسخرية والأنسنة، ما وسعها ذلك. في قصة "ورقة" يطرح الكاتب علاقة المبدع بالناقد، من خلال حكاية ورقة يطبق عليها الناقد مقاييسه، فيحاصر روح المبدع بمقصه وشفرته:


"ورقة خرجت للتو من يد كاتب. صارت الورقة أمام الناقد. يمسك الناقد بالمقص الحاد الشفرة. يقّص الورقة ويقلمّها، ثم يقّص الحواف والأطراف، حتى تصبح الورقة كالقصة القصيرة جدا، فصلّها الناقد على مذاقه الشخصي. الكاتب وحده ظلّ يراقب المشهد وفي قلبه غصّة[13]".

إن العلاقة بين المبدع والناقد علاقة معقّدة بما يكفي لكي يختلف الناس حولها، غير أنّ الرأي عندنا أنّ الكاتب المتوسط هو فقط من يخضع لسلطة النقد، أما المبدع الحقيقي فهو ينتج نصّاً يتفلت من النقد، ويتجاوزه، ويقوده نحو تغيير نظرياته التي أدمنها النقاد جيلاً بعد جيل. والقصة ها هنا تشير إلى غصة الكاتب الذي أقام علاقة تناقض صارخة بينه وبين الناقد، في حين أنه أقام علاقة أكثر طرافة ونجاحاً في قصة أخرى بعنوان "كاتب" تتفلت فيها الشخصيات من عقال السرد، وتسدّ الدروب أمام كاتبها:

"أصدر هذا الكاتب مجموعته القصصية الجديدة قبل أيام. أهتّمَ بما كتب الصحفيون وأصحاب المكتبات. انتشر كتابه وقرأه الناس. بعد أسابيع قليلة، أدرك أنه لا يستطيع عيشا في مدينته بعد اليوم؛ فقد بدأت شخصيات قصصه تسدّ عليه الدروب وتقطع عنه الأنفاس[14]".

والكاتب ينجح في القصتين السابقتين في امتحان التكثيف؛ إذ يقدّم حكاية كاملة في كل منهما، مثلما ينجح في قصة "المفتاح" التي تمجّد الحب من خلال حكاية تكسر استقرار حالة الشخصية الرئيسية، لصالح العواطف الجوانية النبيلة، عبر أقصر الطرق في الحب والسرد:
"ظنّت أنها قد أقفلت على قلبها منذ زمن. وحده الذي مَسَحَ دموعها ووقف معها وقت الضيق قد أمتلك المفتاح الى قلبها الذي بدأ يرقص من جديد[15]".

وحتى لا نكرّر ما قلناه في السطور السابقة، تعليقاً على قصص أخرى، فإننا نشير باختصار إلى أن القاص أفاد من التكثيف إلى أقصى حد ممكن، دون أن يؤثر على سير الحكاية في عدد من القصص الناجحة، ذات الدلالات الإنسانية العميقة، على نحو ما نجد في قصة "مناورات[16]" و"الصياد[17]" و"روتين[18]" و"عزوف[19]" و"عروسان[20]"وغيرها.

ويعمد عامر الصفَّار في هذه المجموعة القصصية القصيرة جداً إلى تنويع أساليب تقديم الحكاية من السرد المباشر، إلى أسلوب المخاطب الذي يسبق الالتفات، إلى تبادل الضمائر الذي يقود الحكاية نحو نهاية مفتوحة أو مغلقة. ولعلنا نشير هنا إلى قصة "حبيبي" التي تعدُّ نموذجاً جيداً من نماذج التنويع الأسلوبي في القصة القصيرة جداً، حيث يقول الصفار:

"حبيبي: كيف لك أن تراني وأنت بعيد عني آلاف الأميال؟

حبيبي: كيف لك أن تسمع ضحكاتي في جلسة سمر نسائية وأنت تجلس بعيدا عني؟

حبيبي: كيف ستشم عطري الأنثوي وأنت تلبس قناعك هذا؟

هل ما زلت هناك..؟

هل تسمعني؟ أم أن صرخاتهن قد أصابتك بالصمم..؟

تقفل باب غرفتها وتنام بعينين مفتوحتين تنظران في صورة على جدار[21]..

وفي قصة "مدينة ما" يلجأ القاص إلى رصد حالتين متقابلتين، لرجل وامرأة، ينوب عنهما الضميران في الحضور، ليجسّد كل منهما رؤية ما، قبل أن يختارا، كلّ على حدة، النهاية التي ارتضاها لنفسه:
"هي: تنتظره على قارعة الطريق في شارع المدينة الضيق.

هو: لا زال مع أصدقائه قرب محلات الشربت المحلى بالدارسين في مركز المدينة المزدحم.

هي: قررّت أن تغادر المكان بعد خمس دقائق.

هو: لا يبدو عليه الأنزعاج..يدلف مع أصدقائه حيث مطعم صغير في ركن الشارع.

هي: بدا عليها التعب..محبطة تنزع باروكتها السوداء لتلبس أخرى ذهبية اللون، وتروح تصعد في أول سيارة تقف لنقلها حيث "شارع الهوى" في مدينة بدأ يلفّها السكوت المقيت[22]".

ويقدّم القاص في قصة "هيروين" حكاية ناقصة، على الرغم من أنها مكتملة البناء؛ إذ يلجأ إلى نهاية مفتوحة، تغلق نافذة السرد، وتبقي خيال القارئ مفتوحاً على احتمالات شتى، فهي تحكي حكاية واحد من مدمني المخدّرات، لا يعرف أحد نهاية حكايته إلا السارد نفسه:
"المحاضرة عنه هذه المرة. الطلاب ينصتون وأنا الخّص حالته هذا الشاب المطلوب للعدالة مدمن الهيروين. يزرق نفسه في الساق كل يوم. يصرف مال عمره. تقرّح الجلد لم يعفيه من أدمانه. جرثوم غزا جلده الذي بدأ بالتآكل. أتذكّر نظرات عينيه الساهمتين، ووشم مخيف على ساعد يده اليمنى لجنّ يحمل رمحا يصيد به حيتان تسبح في بحر أسود.

الطلاب ينصتون، والقاعة هادئة والكل ينتظر مني أن أُكمل القصة[23]".

ويوظف القاص الحلم والكابوس في عدد محدود من قصصه، ويمكن هنا أن نشير إلى تداخل أحداثٍ كابوسيٍّ في قصة "صداع مزمن" التي تنجح في إيهام القارئ بالواقعية، قبل أن تنكشف اللعبة البنائية في النهاية:
"لماذا يحدث هذا لي وأنا في اجازتي التي كنت أنتظرها بلهفة؟. سائق التاكسي يبدو لي حائراً كمن أضاع شيئاً، لا زال يبحث عنه في طرقات مدينة استعصت عليه أزقتها الضيقة. يستعمل تلفونه الجوّال، يتكلم بلغته التي لا أعرفها. تبكي طفلتي.. زوجتي بدأت تسألني فيما إذا كان السائق عضو عصابة مزيف. بدأت الشمس تغيب وحدسي لا يخطئ بأن الجسر قريب. عند ذاك سأعبره غير آبه بساعات أعيشها كأنها قدر ليس منه فكاك.

أستيقظ من نومي، فأجدني في غرفتي وحيدا وبجانبي حبات دواء الصداع المزمن![24]".

وعلى الرغم من أنّ تشخيص القاص للجمادات، بوصفها شخصيات قادرة على الفعل، قليل نسبياً، فإنه يقدّم في قصة الريح" حكاية طريفة، أبطالها ـ بالإضافة إلى السارد ـ شخصيات من عالم آخر، ولكنها تشعر وتبتسم، وتقود الحكاية نحو نهايتها:

"كنت متعباً اليوم. وقفتُ تحت شجرة الليمون. نظرتْ لي الشجرةُ فتبسّمت ومالت أوراقها الخضراء المصفّرة نحوي، وقالت: أراك اليوم وحدك يا عبد الله، فأين فاتنتك التي تكتب تاريخ اللقاء على جذعي كل يوم؟ لم أجبها ورحت أشغل نفسي بترتيب شعري وهندامي.

هزّت الشجرة أغصانها. رمت وريقاتها الصفراء على الأرض، في حين صرت أسمع صوت ريح صرصر عاتية يغطي على كل الأصوات[25]".

ويشتغل القاص اشتغالاً حسناً على العنوان، ويقيم بعض قصصه على التناقض بين النص القصصي وعنوانه، على نحو ما نجد في قصة "الشهم[26]" وفي قصة "ذكاء" التي نوردها فيما يلي:
"راهن صديقته البارحة أن يشتري لها سوار الذهب الذي تحب شرط أن تعرّف له الذكاء..! حققّت ما تمنّت وضحكت في سرّها بعد أن كتبت على ورقة بيضاء: الذكاء= ووضعت أسمه الكامل مع لقب عشيرته![27]".

كما يفيد القاص إفادة لافتة من أسلوب السخرية على نحو ما نجد في قصص "لغة[28]" و"تان تان[29]" و"ربيع ع ر ب ي[30]"، ويستثمر ثقافته على وجه حسن، في تحفيز ذهن القارئ لاستجلاب حكاية من الذاكرة، تعزز دلالة حكايته النصيّة. ويمكن أن نشير على سبيل الخصوص إلى قصة "لحية تولستوي" حيث تحضر آنا كارنينا، ساعيةً من خلال السرد، إلى نهاية أخرى تنجيها من الموت:

"يدخل الزوجان صالة السينما. القاعة باردة شيئاً ما، والحضور على عدد الأصابع. تبتاع الزوجة مشروباً غازياً، وتستريح في كرسيّها، كأنها على وشك أن تنام، غير آبهة بإعلانات تجارية رخيصة. يداعب الزوج تلفونه الجوّال. سيبدأ الفيلم بعد قليل، والممثلة بدور "آنا كارنينا" ستحب الشاب الجميل، ذاك الفارس الذي لا يعرف القتال. يعلم الزوجان نهاية الحكاية.

على حين غرّة، شوهد تولستوي بلحيته الكثّة، وهو يتمشى في صالة السينما، فيجلس في الوسط بين الزوجين ليعقد قرانهما من جديد، حتى تفرح آنا كارنينا وتظلّ على قيد الحياة![31]".

* * *

غير أن الحكاية التي بدت منسابة في النصوص الماضية، منساقة إلى السرد بلا بلادة أو تعثّر، عانت في نصوص أخرى من بعض معوّقات مختلفة، حيث وقعت في فخ الوصف الذي يعدّ (في معظم الأحيان) سقطة من سقطات القصة القصيرة جداً، على نحو ما نجد في قصة "مؤامرة" التي يقدم فيها القاص وصفاً يأخذ ثلث حجم القصة، ويمكن أن يستغنى عنه بسهولة؛ لأنه لا يضيف شيئاً مهماً للخط الحكائي الأساسي:

"يشذّب لحيته التي غزاها الشيب. رأيتها داكنة بنية اللون حمراوية بعد أن جال فيها الصبغ تلويناً. لبس نظارته ذات السلسلة الفضية ودعا الى اجتماع في غرفته. أسدل الستائر وأغلق الباب وراح يرسم خطة مؤامرة حمقاء للانقلاب على رئيس القسم في دائرته. ولأن للجدران آذاناً، ولأن الانتهازيين في كل مكان، رأى المتآمرون بعد ساعة من بدء الأجتماع أن رئيس القسم يدخل الغرفة حانقاً لأنهم نسوا دعوته للاشتراك في المؤامرة[32]!".

فلو بدأ القارئ من "أسدل الستائر...." لبقيت القصة قائمة بالدلالات ذاتها، ومثل هذه الإضافة الوصفية تسلب القصة القصيرة جداً أهم عناصرها، وهو التكثيف، الذي يعني قول ما هو ضروري، وضروري فقط، لإنتاج الحكاية، حتى وإن كانت القصة لا تتعدى سطوراً قليلة، على نحو ما نجد في قصة "المهرج":

"ستبدأ حفلة السيرك بعد ثلاثين دقيقة من الآن. ظل المهرّج يكتب على ورقة صغيرة، ويرسم حلقات مدورة لا تنتهي. كتب: ماذا سأعمل بحياتي بحق الجحيم؟..أريد أن أقتل نفسي..أشعر أني غاضب..أحبّ البنطال الأسود..بدأ عرض السيرك فخرج المهرّج ليُضحك الناس ويُبكي قلبه[33].

إذ إنّ هذه القصة تعاني زيادة في التفاصيل غير الموظفة، وتتركز حكايتها في جملتها الأخيرة فقط التي تقدّم فيما لو أحسنت صياغتها قصة فذة بملامح سردية كاملة:

"بدأ عرض السيرك.. فخرج المهرّج ليُضحك الناس، ويُبكي قلبه".

وليس من عمل الناقد أن يقدّم للنصوص صياغات جديدة، ولكنه يمكن أن يضع يده على مكمن الخلل في حكاية ما، وإذا كانت مثل هذه التفاصيل تبدو ناشزة في نص قصير جداً، فإنها ستكون أدعى للنشوز في نصوص أطول، لا توظف الوصف بشكل ناجح، أو تعاني من تداخل الحكايات، ففي قصة "تراتيل عراقية" ثمة أوصاف وتفاصيل غير ضرورية، وحكايات تتداخل فيما بينها، مما لا يناسب فن القصة القصيرة جداً، وثمة شخصيات متعددة، لكل واحدة حكايتها الخاصة، وربما كان بإمكان كل واحدة منها أن تصنع قصة قصيرة جداً، من مثل حكاية المدير الذي لا يحب استعمال الواسطة، ولكنه يعيّن زوجته، ويعطي رواتب لبعض أهله دون أن يقوموا بأي عمل:

"نهضت مبكرة صباح هذا اليوم..لا تريد أن يفوتها قطار المدينة الصاعد حتى كلاسكو،عاصمة اسكتلندا الثقافية. هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها هذه المدينة. كان أبوها دائم التحدّث عن "كلاسكو"..درس في جامعتها قبل سنوات طويلة..

بشرى تضع مكياجاً خفيفاً على وجهها الطويل، وتصبغ أظافرها بالأحمر، وتضع حمرة خفيفة على شفتيها. تحسب عدد ما تأخذه معها من جنيهات، ثم ترتّب حقيبتها الجلدية السوداء اللون، ولا تنسى أن تزوّد كاميرتها التي تحب ببطارية جديدة استعدادا للسفر.

هي وحدها، تعّودت أن تعيش هكذا منذ فشل زواجها قبل 20 عاما..تزّوجته ذاك الكتبي البغدادي الذي لم يعرف أن يوازن بين حبّه لها وحبه لأمه أو لأخواته الثلاث اللواتي ترّصدن بها..

تريد أن تنسى الماضي، لم يبق لها إلاّ أيام..حيث ستعود بعدها من حيث أتت..إلى بغداد..ودائرتها ومشاكلها، وذاك المدير الذي ما فتأ يذكّرهم بأنه لا يحب من يستعمل فيتامين واو أو (الواسطة) فيفيد أهله وأقرباءه. لاحظت بعد أن أصبح مديراً عاماً (كما لاحظ الجميع في الدائرة) أنه قد عيّن زوجته سكرتيرة، وبعضاً من أهله على ملاك الوزارة، يأخذون رواتبَ دون أن يكون لهم أي دور. كل هذا الصداع..ولّف الدنيا ودورانها..هي لا تريد أن تفكّر به اليوم.

ها هي الآن تقف تحت شمس كلاسكو أمام هذا (الموسيقار) الاسكتلندي الذي يعزف نشيداً تطرب له آذانها، على آلة "القربة" الملونّة، بعد أن لّف وسطه بتنورة ذات ألوان صارخة، أكسبتها أشعة الشمس رونقاً غريباً..حتى إنها أرادت أن تشتري واحدة مثلها لتلبسها هي.. وحدها في غرفتها دون أن يراها أحد.

التقطت صوراً كثيرة اليوم قبل أن يلّفها شارع مدينة كلاسكو المزدحم المؤدي إلى محطة القطار الذي يبدو أنه أخذ يقترب ويقترب منها، مذكّرا بمواعيد الرحيل والعودة..العودة التي تتمنى بشرى أن تتأخر، وتتأخر، ولا تأتي، حيث لا توّد هي أن تعود[34]".

وحتى لا نلجأ مرة أخرى إلى استخدام النصوص الطويلة، فإننا نسوق الملاحظة ذاتها على عدد آخر من القصص التي تحتمل التلخيص والتجزيء وإعادة الصياغة، من مثل "حرباء[35]" و"قارع الطبول[36]" و"مكتبة الأعظمية[37]" و"الراديو[38]"، وتنبغي الإشارة هنا إلى أن عدداً من القصص السابقة يخرج من إطار القصة القصيرة جداً، على نحو ما نجد في "مكتبة الأعظمية"، وقصة "الفارس[39]" التي تقدّم حكاية شائقة ووصفاً ممتعاً وشخصيات بارعة، لا ينقصها إلا الانتماء إلى الإطار التجنيسي، إذ إنّ لها مكاناً لائقاً في جنس القصة القصيرة.

وثمة مشكلة أسايسة تعاني منها بعض النصوص التي تضمها مجموعة "قارع الطبول"، وهي جنوحها نحو الخاطرة، بسبب فقدان خيوط الحبكة الحكائية، حيث لا عقدة ولا تشويق ولا حل، ويمكن أن نمثل بعدد من النصوص من مثل نص "لوحة[40]" و"قناة فضائية[41]" و"جريدة[42]" و"سينما[43]" وهي أقرب إلى أن تكون حالات سردية، لا هوية محددة لها، ويمكن أن نشير على سبيل الخصوص إلى النص المعنون بـ "جبرا" حيث تختفي تفاصيل الحبكة الحكائية لصالح السيرة التي يستعرض خلالها القاص أجزاء ذات علاقة وثيقة بجبرا، دون أن يستثمر الحالة في إنتاج نص حكائي ناجح، كما فعل في "لحية تولستوي". يقول القاص في نص "جبرا":

"في مقهى صغير في شارع الأميرات ببغداد، وفي صباح معطّر بنسائم القدّاح، راح جبرا يقلّب في كتاب "غصون ذهبية"، ويروي الأسطورة التموزية لصديقه الشاب اليافع النحيف المدعو بدر السياب. تلفن للأصدقاء جواد سليم وعلاء بشير وسعاد العطار، ودعاهم ليتركوا ما عندهم ويشاركوه جلسته. حكى لهم عن بئره الأولى وقصصه في شارع الأميرات. في لحظة أسطورية حضر الجلسة كلكامش، وأهدى للحضور عشبة الخلود، ودعاهم للحذار من الثعابين[44]".

نضيف إلى ذلك الخروج من هوية السرد القصصي القصير جداً مجموعة من النصوص التي جاءت تحت عنوان "من وحي مدينة "البندقية"؛ إذ ينتمي أكثرها إلى فن المذكّرات واليوميات، ومن ذلك نصوص "بائعة المثلجات[45]" و"المتحف[46]" و"ذات صباح في "البندقية[47] و"عازفة الكمان" التي يقدّمها القاص من خلال النص التالي:

"وقفت باتريزيا بقامتها الهيفاء أمام جمهور غفير، اكتظت به ساحة سان ماركو. بعض من هذا الجمهور افترش الأرض، وبعضه الآخر فضّل أن يتناول عشاءه في مطعم قريب. باتريزيا تعّدل شعرها، وتضبط أوتار كمانها. تبتسم للجمهور وتبدأ عزفها من نوتة محمولة على مسند، لم يمنع كاميرتي من التقاط صورة لها، وهي تغني بصوت خفيض، ويدها في وضع الاستعداد لتكون أحسن عازفة كمان في ليل "البندقية" الهادئ اللطيف[48].

ولا بد هنا من التأكيد بأن كتابة المذكرات والسيرة الذاتية والغيرية فنّ له مبدعوه ومريدوه، ولكننا هنا لسنا بصدد تفضيل جنس أدبي على آخر، بل بصدد تحديد انتماء كل نص إلى جنسه. ولا شك أن نجاح عامر الصفار في عدد كبير من نصوص االقصة القصيرة جداً في هذه المجموعة يشي بإمكانية فنية فذّة، يمكن العمل على تطويرها في قابل الأيام[49].

[1] عامر هشام الصفّار: أديب وطبيب عراقي مقيم في بريطانيا، أصدر حتى الآن ثلاث مجموعات قصصية هي على التوالي: "حفلة تنكرية" و"رقصة التنين" و"قارع الطبول".

[2] عامر هشام الصفّار: قارع الطبول، قصص قصيرة جداً، دار أقلام للنشر، كارديف ـ ويلز، المملكة المتحدة، ط1، 2013.

[3] المصدر السابق، ص11.

[4] المصدر نفسه، ص11.

[5] المصدر نفسه، ص ص13-14.

[6] المصدر نفسه، ص21.

[7] المصدر نفسه، ص ص60-61.

[8] المصدر نفسه، ص23.

[9] المصدر نفسه، ص75.

[10] المصدر نفسه، ص49.

[11] المصدر نفسه، ص35.

[12] المصدر نفسه، ص16.

[13] المصدر نفسه، ص58.

[14] المصدر نفسه، ص58.

[15] المصدر نفسه، ص15.

[16] المصدر نفسه، ص16.

[17] المصدر نفسه، ص56.

[18] المصدر نفسه، ص56.

[19] المصدر نفسه، ص57.

[20] المصدر نفسه، ص58.

[21] المصدر نفسه، ص44.

[22] المصدر نفسه، ص ص70-71.

[23] المصدر نفسه، ص21.

[24] المصدر نفسه، ص37.

[25] المصدر نفسه، ص ص76-77.

[26] المصدر نفسه، ص26.

[27] المصدر نفسه، ص66.

[28] المصدر نفسه، ص26.

[29] المصدر نفسه، ص18.
[30] المصدر نفسه، ص69.
[31] المصدر نفسه، ص ص59-60.

[32] المصدر نفسه، ص18.

[33] المصدر نفسه، ص24.

[34] المصدر نفسه، ص ص53-54.

[35] المصدر نفسه، ص45

[36] المصدر نفسه، ص52.

[37] المصدر نفسه، ص ص62-63.

[38] المصدر نفسه، ص ص65-66.

[39] المصدر نفسه، ص27.

[40] المصدر نفسه، ص29.

[41] المصدر نفسه، ص30.

[42] المصدر نفسه، ص35.

[43] المصدر نفسه، ص36.

[44] المصدر نفسه، ص67.

[45] المصدر نفسه، ص38.

[46] المصدر نفسه، ص40.

[47] المصدر نفسه، ص43.

[48] المصدر نفسه، ص44.