واستولت علي شيئا فشيئا رغبة ملحة في عمل من هذا النوع, لعل عملا لم ينتبه له أحد يفضي إلى نتائج كبيرة الأثر.
وسكت الرفيقان شاكر ومولود, وبدا هذا الأخير غارقا في التفكير وساوره شعور بالقلق, وكان يشعر بأن دنياه تضيق به وبدا له أن من يصادفهم لا ينطقون إلا هراء ,ماذا يجري لو أخفق في مهمته, إذن يكون جنى على شاكر الذي أسلم قياده إليه.
ولكنه عاد ليقول إنه هو وشاكر يحيون حياة لا طعم لها ولامعنى, وأخيرا تأتي لحظة فتفيق ,تفيق في جوف الليل وتظل بلا حراك, وعيناك مفتوحتان في الظلام وتشعر أن شيئا يوشك أن يكون ,ثم يكون فعلا لقد أجمعت رأيك وعلى كل حال إنك تقوم بعمل صغير الحجم على قدك تماما, فأنت سائر في الأرض المحتلة لا يشتبه بك لأنك من سكانها ,تقود بيدك ضريرا أو عاجزا.
واستيقظ مولود من تفكيره مع وقوف السيارة في المكان المقصود, وكانت شمس نيسان قد أذنت بالغيب, وتنفس نفسا عميقا فهاهنا هواء منعش بليل ,وقد فاح عبير شجر الشربين العطري ,وعلى الأفق الممتد أمام عينيه هضبة متوسطة الارتفاع, وكان يعلم أن شاكر سيدهشه ما سيشاهده يرافقه فيها.
كان الطريق أمامهما "آدوميا" يدور حول الهضبة إلى غابة هناك ثم يعرج كأنه أفعى أو سكران يترنح, وفي أكثر من تقاطع واحد تقوم أشجار بلوط تقف أو شربين تقف كأنها جندي مرة فوق منصة خضراء ,وقال شاكر:
-لأول مرة أشاهد هذه البطاح وهي من أراضينا في الجمهورية العربية السورية, وإني لأعتقد أن كل ما في الدنيا من شعر وسحر تقاليد, وقدم وغرابة وخشونة محفوظ ومختزن في هذا الوادي الجميل المكسال وفي الهواء العليل ,هنا يدب إلى القلب هدوء ساحر مبهم توحي به عزلة هذا المكان واتساع الفضا من حوله, وتغشاه برودة محببة, وقد أحدقت به الكثبان الخضر وحملتها برفق كأنها قدح يحتوي سائلا غالي الثمن, ومن فوق ذلك سماء ضاحكة تسبح فيها السحب كأنها سمك براق في بحر بعيد الغور.
ونظر مولود إلى شاكر مذعورا, فقد هاله أن يسمع هذه اللغة التي لا يفهمها في مثل هذا الموقف, فجرى على لسانه الكلام بأسرع من لمح البصر:
-إيه إيه...إي....ه لا أعتقد أنك ستنظم قصيدة شعرية هنا, فتأتي إلى هؤلاء المحتلين بالحجة التي لا تدفع على أننا لانصلح إلا للأحلام, والمهمة التي جئنا من أجلها؟
وضحك شاكر ثم قال:
-والله ماكنت في يوم من الأيام أنظم الشعر ولن أنظمه أبدا, ولكنني أردت أن أعلم إلى أي مدى أنت ذاهب في مشاريعك, والآن بعد أن اطمأنت نفسي أمضي معك بدون تحفظ, اسمع يا مولود.. لقد أصبنا في الصميم. كما يعلم الجميع ,ونريد أن نشكو إلى الله هذا الكرب المهلك.
واليوم وقد صح عزمنا من جديد نريد أن نشكو إليه الضيق ونسأله أن يزيل هذا الكرب.116