الدكتور جيلالي بوبكر


التراث والتجديد ومشروع نظرية التفسير

تمثل نظرية التفسير في مشروع "التراث والتجديد" سبيلاً رئيسياً إلى إعادة بناء الحضارة و التاريخ من خلال العودة إلى أصلها في الوحي، أو بالعودة إلى الحضارة الإنسانية وتفسير الوحي من خلالها لأجل التخلّص من الجمود الحضاري وركود التاريخي."فالغائية النهائية هو الوحي ذاته وإمكانية تحويله إلى علم إنساني شامل، وهذا لا يتم إلاّ عن طريق نظرية في التفسير تكون منطقاً للوحي... أن الأفكار البشرية كلها تخضع في الحقيقة إلى نظرية في التفسير، تفسير النص أو تفسير الواقع... التفسير إذن هو النظرية التي يمكن بها إعادة بناء العلوم والتي يمكن بها تحويل طاقة الوحي إلى البشر، وصبّها في الواقع و تحديد اتجاهنا الحضاري بالنسبة للثقافات المعاصرة."[1]


يتساءل "حسن حنفي" كثيراً عمّا إذا كان لدينا نظرية في التفسير وعن إمكانية إيجادها في حالة انعدامها، خاصة ونحن أمة وحي ودين وشريعة، فالوحي عندنا يتصف بالاكتمال وفي صورته النهائية في آخر مرحلة من تطوره في التاريخ من آدم {عليه السلام} إلى محمد {صلى الله عليه وسلم} وهو محفوظ من التزييف والتحريف في القرآن الكريم ليس كالكتب المقدسة التي تعرضت للتحريف فتعددت وتباينت، ويتصف وحينا بالتنجيمية في النزول وهو أمر يدل على أنه ليس مجرد معطى بل هو مطلوب تقتضيه ظروف أحوال الناس واحتياجاتهم في الواقع، "تأتي كل آية كحل لموقف ثم تجمع الآيات على مدى ثلاثة وعشرين عاماً وتصبح القرآن. فأهم ما يميّزنا عن غيرنا من الأمم والحضارات المعاصرة هو هذا القرآن."[2]


إن عملية فهم القرآن مطلوبة، وفهمه عبارة عن نظرية في التفسير، وتفسير القرآن منطق لفهمه، لذا "جاءت أهمية علوم التفسير باعتبارها العلوم الأولى الضرورية لفهم القرآن ولإقامة نظرية دينية للمعرفة قائمة على الوحي كمعطى سابق أي نظرية التفسير هي منطق الوحي... وهي الخطوة الأولى التي لا بد منها قبل استنباط الأحكام الشرعية، وقبل تأسيس أي علم ديني أو حتى قبل إعادة بناء علومنا التقليدية الإسلامية من أصول وفقه وتصوف وكلام وفلسفة."[3]


الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة وطابعها التراثي التاريخي وصلتها بالآخر وبثقافته وحضارته، وأزماتها ومشاكلها جعلت نظريات التفسير المنبثقة من أوضاع ثقافاتنا في مجتمعاتنا تفتقد إلى الإحكام والدقة والأسس المدروسة وإلى القصد والغائية في الاختيار. فالتفسير لم يتجاوز الشرح والتلخيص والتكرار والمنهج اللغوي الاستنباطي المتبع على حساب المنهج الاستقرائي التجريبي "الذي هو أساس الشرع واستنباط الأحكام عن طريق القياس الشرعي القائم على البحث عن العلّة المؤثرة كما أنه ينسى الفهم البسيط للنص عن طريق الحدس المباشر دون حاجة إلى منطق لغوي منظم ومتقن."[4]


فنظرية التفسير الجديدة تقوم على الحدس المباشر للموقف الإنساني من خلال علوم التنزيل مثلاً حينما تقدم أسباب النزول للوصول إلى معنى الآية في صلتها بالواقعة التي نزلت لها. فالواقعة ترتبط بنزول الآية فهي تعبر عن تجربة حيّة وخبرة حقيقية، خبرة تتكرر، ففهم الآية يتم بالكشف عن خبرتها الحيّة في وعي المفسر في حياته الفردية والاجتماعية.


فأسباب النزول تتحول إلى مواقف إنسانية فيها يحصل فهم الوحي فهما مباشراً بالتعاطي مع الواقعة نفسها التي يدل عليها الوحي. والوعي الديني يتحدد بأبعاده الثلاثة بالتاريخ، وبالعقل، وبالعمل والواقع وكل بعد له دوره ووظيفته، فإنّ "الشعور التاريخي ووظيفته نقل الوحي شفهيا أم كتابياً، وضمان صحته وضبطه عبر التاريخ، والشعور الفكري، ومهمته فهم الوعي-بعد التأكد من صحته- وتفسيره، وتحويله إلى أسس نظرية للسلوك، وأخيراً الشعور العملي ومهمته تحويل الوحي –بعد التأكد من صحته وفهم معناه- إلى أنماط السلوك، وإلى مناهج عملية في الحياة حتى يصبح الوحي نظاماً للعالم ويتم تحقيق الوحدة بن الفكر والواقع، أو بين الروح والطبيعة أو إن شئنا بين الله والعالم."[5] هذا هو جوهر نظرية التفسير، فخارج الوعي الديني بأبعاده الثلاثة لا وجود لنظرية في التفسير محكمة ودقيقة، أسسها ومنطلقاتها واضحة، وأهدافها ومراميها معلومة، لأن العقل والوحي والواقع معطيات ترتبط مع بعضها البعض ولا وجود لمعطى مستقل تماماً عن الآخر الأمر الذي يفرض على المفسر تفسير الوحي في إطاره الشعوري الديني التاريخي والنظري والعملي للوصول إلى نظرية التفسير المحكمة.


فنظرية التفسير لدى 'حسن حنفي' تجمع بين الوحي والواقع، بين الدين والدنيا، بين الله والإنسان، وإن لم تقم بهذه المهمة لا تصلح للتأسيس أو التشريع أو التجديد، مثلما الأمر عليه في تفسيراتنا الحالية. فالوضع الحالي "يكشف عن وجود ثنائية بين النص الديني والعالم الواقعي، كل منهما في جانب: النص الديني غارق في الشروح التقليدية أو في الخطابة الحماسية، والعالم الواقعي يسوده فكر إنساني محض دون نظر، التفسير مباشر من النص الديني بالرغم من اتفاقهما في البواعث."[6] على الرغم من وجود بعض المحاولات لتفادي هذه القطيعة بين الوحي والواقع، ولتكوّن منهجا في الإصلاح والتغيير لكنها لم تنجح لكونها تقوم على التصور الرأسي العمودي فهي نظرية تنطلق من الإنسان نحو الله ومن الأدنى إلى الأعلى فهي نظرية في وجود الله لا في وجود الإنسان على الرغم من أن مقاصد الشارع وضعت ابتداء لحفظ الضروريات. ولكونها تتصل بأوضاع وأحوال البيئة الإسلامية التي نشأ بها الإسلام فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ولكونها لا تعتمد على النقد ولا تدعو إلى التغيير والإصلاح لما هو معارض للشرع فهي تابعة وموافقة لأي تغيير أو إصلاح يبدأ خارج النص الديني.


إن التفسير التقليدي يسلك الطريقة التحليلية النظرية في التعاطي مع الوحي أو التراث بصفة عامة، فالمفسر لم يكن سوى شارحاً يستخرج المعنى من النص بعقله المحض المستقل ثم يستشهد على ذلك بحجة عقلية أو بما هو مأثور إلا أن هذا الأسلوب فيه نقائص وعيوب عدة منها المحاجة بالمأثور لا تعطي يقين معنى النص من خارجه خاصة وأن معنى النص مستخرج من النص بطريقة ظنية. والتفسير بالرأي لا يحيل معنى النص من ظني إلى قطعي ناهيك عن كثرة الآراء وتباينها والمفسر يقوم بشرح النص ككل دون استثناء مع أن القرآن نزل منجماً. "كل آية تحمل معنى مستقلاً كحل لموقف مشكل في حياة الناس اليومية."[7]


يرى 'حسن حنفي' أن منهج تحليل الخبرات هو المرجع الطبيعي للنصوص الدينية في نشأتها الأولى، وتؤكد ذلك أسباب النزول من خلال نزول القرآن منجماً وارتباط آياته بوقائع وأحداث تدل على أن الخبرة الحيّة والتجربة الشعورية الإنسانية كانت وراء الوحي. ولفهم النص الديني ينبغي معرفة معناه كتجربة شعورية وكخبرة حيّة في شعور الفرد الذاتي والاجتماعي الذي لأجله نزلت الآية. "فالنص الديني لم يكن رأياً أو وجهة نظر ولا معنى مجرداً بل كان قلقاً وضيقاً وألماً وتوجعاً يحس به الفرد حتى يأتيه النص بما يفرج همّه وكربه. فالخبرة الحيّة هي مصدر النص الديني ويكون التفسير إذن هو رداً لشيء إلى أصله كما يقول المفسرون في المعنى الاشتقاقي للفظ التأويل."[8]


إن الخبرة الحيّة ليست في حاجة إلى أن نفهمها بالمأثورات أو بالآراء ووجهات النظر، لكنها تحتاج إلى تحليل الخبرة الحية ذاتها لتحديد مدلولها، فالمفسر يقوم بتحليل خبرته الشخصية ويدرك معناها قبل نقلها إلى الآخرين فهو متحدث وسامع وكاتب وقارئ ويصبح النص الديني محدوساً لديه فلا يحتاج إلى شرح النصوص الدينية بل يحتاج إلى وصف ما يشعر به وما يعيشه من تجارب شعورية حيّة تتحقق في حياته اليومية أكثر من مرة. فإذا استقام المفسر على هذه المنهجية يستطيع أن ينقل خبرته إلى غيره. وليكون على بيّنة بأن تفسيراته وتحليلاته لخبراته كانت صحيحة له أن يعود إلى خبرات الغير فيصير النص الديني خبرة إنسانية شاملة وواقعة إنسانية عامة تتصف بالموضوعية ولها ما يسمح بأن تكون من الحقائق الإنسانية العامة.


عند المقابلة والمقارنة بين نظرية في التفسير ومنهج تحليل الخبرات ومما سبق يتضح أن منهج تحليل الخبرات هو "النظرية الوحيدة الممكنة في التفسير وذلك لأن فهم النصوص لا تأتي إلا بإرجاعها إلى مصدرها في مجموع الخبرات الحيّة التي نشأت فيها فالمفسر في نفس الوقت قارئ للكتاب. وإنسان يحيا ويدرك المعاني بقدر ما يشعر بالخبرات المحققة لها في حياته اليومية، فهو لا يحتاج لفهم (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم) إلى البحث عن معناها، ولكن إلى التأمل في حياته اليومية التي يمكن أن تمده بخبرة أو بأكثر تبين له أن ما ظنه مرة أنه شر ظهر بعد ذلك خيرا، وأن ما حسبه يوماً أنه خير بان له بعد ذلك شراً... فبدوام قراءة المفسر للنصوص الدينية، وبمقدار خبراته في حياته اليومية فإن معاني النصوص الدينية يتم إدراكها مباشرة دون الحاجة إلى منطق صارم للّغة."[9] ويضيف 'حسن حنفي' للتأكيد على ضرورة قيام نظرية التفسير على منهج تحليل الخبرات بأن قراءة المفسر للنصوص الدينية "تتحول إلى رؤية مباشرة لنفس المعاني ولكن مستقراة من الخبرات اليومية التي يعيشها المفسر ومن ثم يصبح المعنى الرباط بين النص الديني والخبرة الحية، وهذا ما قلناه سابقاً من أن نظرية التفسير هي التي تربط بين الوحي والواقع، وعلى هذا يُمحى الفرق بين الحقيقة النظرية والواقعة المشاهدة."[10]


ومنهج تحليل الخبرات باعتباره نظرية في التفسير شهدته الحضارة الإسلامية سابقاً، فهو ليس غريبا عن ثقافتنا وفكرنا وتراثنا فلا يوجد علم من العلوم الإسلامية القديمة عقلية أو نقلية أو عقلية نقلية تأسس وتكوّن بعيداً عن منهج تحليل الخبرات، فالحكم في الفقه ما هو إلا موقف إنساني يعيشه المكلف ويعيش خبرته والقياس هو تحليل عقلي نظري للخبرة بردها إلى إطارها في الشرع كخبرة منزلة، وطرف التصوف وهو تحليل للتجربة الصوفية وما يعيشه الصوفي في ذاته من شوق ووجد وهيام ويعبر عن ذلك بالأحوال والمقامات وتعرف بالشطحات الصوفية، أما نظريات علم الكلام فهي الأخرى تحليل للوجود الإنساني في مختلف مظاهره مثل الإيمان والحرية والعدل والسلوك الاجتماعي، وأيضاً تقوم نظرية النبوة لدى الفلاسفة على الجانب الإنساني والاجتماعي فمحمد قبل البعثة كان أميناً وصادقاً وأخير خيرة شباب مكة، وهكذا مع علوم الحديث التي تقوم على تحليل شعور الراوي وخبرته لمعرفة درجة الضبط عنده.


يرى 'حسن حنفي' أن رد النصوص الدينية إلى مصادر في التجارب والخبرات الحيّة في تفسيرها لا يغفل المصدر الديني الإلهي. فالتفسيرات التي لا تقوم على منهج تحليل الخبرات تتجه نحو الله لا نحو الإنسان. والحقيقة أن الشريعة وضعت ابتداءً لاعتبارها الضروريات وهي التي تبني حياة الإنسان الفردية والجماعية، إن الوحي موجود ومحفوظ والنبوة قائمة ومصانة، "إنما الشيء الجديد هو محاولة العثور على أساس الوحي داخل الخبرة الإنسانية، ومن ثم يصبح مرادفاً للوجود الإنساني، وذلك ما نحن في أشد الحاجة إليه خاصة في عصر المذاهب الفكرية والسياسية التي تحاول كلها العثور على نظام اجتماعي سياسي اقتصادي للإنسان وللجماعة الإنسانية."[11] وقد يُخشى على النصوص الدينية مما تتصف به الخبرة الإنسانية من ذاتية لكن الطابع الموضوعي للوحي واستقلاله عن الوجود الإنساني يقلل من قيمة هذه الخشية. مع أن النسبية تختلف عن الذاتية فالأولى تعني "استحالة وجود حقيقة موضوعية شاملة يتفق عليها كثيرون، أما الذاتية فهي إمكان وجود مثل هذه الحقيقة الموضوعية ولكن لا يتم الكشف عنها إلا من خلال ذات الفرد."[12] فالتصوف الإسلامي طريق ذاتي محض فهو يتوصل إلى خبرات موضوعية لدى أكثر من متصوف. والخبرة الحيّة هي مادة التفسير أما النص الديني فهو يحوّل مادة التفسير إلى رؤية مباشرة يصبح فيها معنى النص عنصر الوحي المحقق للموضوعية في الخبرة الحيّة، وارتباط الخبرة الحيّة بتفسير النص الديني لا يشكل خطراً من ناحية أخرى على الطابع الموضوعي للشريعة الإسلامية، لأن الشرع مصدره الوحي والوحي طابعه موضوعي ومستقل عن الوجود الإنساني. فأوجه وأساليب تطبيقه من إنتاج الوجود الإنساني، ففي الفقه تكون كليات الشريعة صالحة لكل زمان ومكان فهي تحتوي على موضوعية مطلقة عامة وشاملة مرتكزة على طبيعة الوجود الإنساني. فالارتكاز على طبيعة الوجود الإنسان بانتهاج منهج تحليل الخبرات الحيّة في الوجود الإنساني لتفسير النصوص الدينية يضمن الموضوعية للوحي والشرع ولا يغفل المصدر الإلهي للنصوص.


يؤكد 'حسن حنفي' على عيوب النظرية التي تفسر النص الديني بالرأي أو المأثور لا تصلح لتكون نظرية في التفسير لأن معنى النص فيها يظل ظنياً يحتاج إلى يقين يأتيه من الداخل ويربطه بالواقع ويجعله مرادفا له. لذا ينبغي التفتيش عن معنى النص في التجربة الحيّة والخبرة الإنسانية التي يدل عليها النص ومن ثم تحويل النظرية العقلية للمعنى إلى مشاهدة عينية. ويوجد تطابق في الحضور داخل الزمن بين النص والخبرة الحية فهناك معية زمنية بل الضامن لصدق الخبرة هو المعنى. إن منهج تحليل الخبرات والذي ظهر خلال نشأة العلوم الإسلامية في الحضارة الإسلامية "ليس تابعاً لمناهج أخرى مشابهة في حضارات أخرى لأنه ظهر من صور شتى في العلوم الإسلامية سواء في علوم القرآن والحديث وفي علوم الفقه والتصوف بل وفي علم الكلام والفلسفة... لا يُخشى من هذا المنهج على الوحي باعتباره مصدراً إلهياً للنصوص الدينية، فالوحي مازال، أو من ذاتية الخبرة أو من النيل من موضوعية الشريعة الإسلامية، لأن الوحي هو الضامن الأول له في صدق تحليل الوجود الإنساني."[13]


يطرح 'حسن حنفي' قضية التفسير على مستوى آخر، بين العودة إلى المنبع والأصل والعودة إلى الطبيعة على أساس وجود حركة تدعو إلى الأصالة وإلى التمسك بالكتاب وهي دعوة لها خطورتها على الحاضر ولها مصاعبها في تعاطيها مع الماضي،خطورتها على الماضي في الانعزال عنه ومصاعبها في الحاضر عجزها الكلي عن تغييره طبقا لنموذج الماضي وهذه الصعوبات تتمثل في اللغة أولاً والوقوع في مناهج تفسير مشتتة بين لغوي ومعنوي وباطني وظاهري واللغة العربية فيها الباطن والظاهر، المحكم والمتشابه، المبيّن والمجمل، والحقيقة والمجاز." فتتحول مشكلة تغيّر الواقع إلى مشكلة تأويل النصوص وتعارض الآيات ولا يتم تغيير شيء من الواقع...وتأتي هذه الصعوبات هي الوقوع في تفسير مضاد لحركة التاريخ وجعل العودة إلى المنبع وسيلة للقضاء على تغيّرات الواقع الطبيعية خاصة إذا سمحت اللغة بذلك... وثالث هذه الصعوبات هو أن يحدث بالفعل تفسير تقدمي اجتماعي كما هو الحال في تفسير المنار، ولكن يكون التقدم نابعاً من الواقع ويكون النص تابعاً له، ويصبح المنبع لاحقاً بالطبيعة لا مصدراً لها وبالتالي يفقد قيمته ومبررات وجوده ويصبح مجرد مباركة للتقدم الذي يقوم به بحيث يستطيع أن يفرض نفسه."[14]


إن العودة إلى الطبيعة ليس أمرا غريباً عن حضارات الإنسان وثقافات الشعوب، ففي الثقافة الغربية الحديثة نجد الطبيعة هي مصدر الفكر وليس العكس. فالعودة إلى الطبيعة أعطى سبينوزا أسسها النظرية. وأعطى جون جاك روسو مبادئها الاجتماعية والفنية، وأعطى العلماء بعدها العلمي في القرن التاسع عشر، وأعطى الفلاسفة أساسها الوجودي في القرن العشرين فتمرد الفكر الأوربي الحديث عن تراثه وقيّمه، فتحرر من اللاّهوت إلى السياسة، ومن المثل إلى أسس المنهج العلمي ومن التربية القائمة على الثواب والعقاب إلى التربية الطبيعية. فتميز العود إلى الطبيعة بأنه ارتباط عضوي كبير بالواقع، ويؤكد رفض كل مظاهر الخوف وصور العجز والضعف والتخلص من جميع عقبات اللغة والتبعية فقط لبناء حضارة العلم.


ولم يكن الوحي هو الآخر خالياً من ظاهرة العودة إلى الطبيعة. ففي علم الأصول وعلوم التفسير نجد أسباب النزول التي تتطلب الطبيعة الوحي، "ولأول مرة لا يعلن الوحي مرة واحدة بل يستدعي حسب المواقف كلما اقتضت الواقعة أساساً نظرياً نزل الوحي ملبياً لمقتضيات الطبيعة، ولقد كان عند عمر ابن الخطاب حدس يستطيع به الوصول إلى حكم ينزل الوحي بتأييده. كان الوحي إذن دعوة من الطبيعة وتلبية لمقتضياتها، ولم يكن مفروضاً من الخارج يعمل ضدها ويبغي قهرها."[15]


يعقد 'حسن حنفي' أمالاً كبيرة في نظرية التفسير التي تقوم على منهج تحليل الخبرات الذي يعود إلى الطبيعة في التفسير أي تفسير طبيعي لا ينطلق من اللغة بل من تحليل الواقعة ذاتها التي تشير إليها النصوص وتحليل الإدراكات الحسيّة. فالتفسير الطبيعي لا يبدأ من النص بل من الواقع غايته معرفة تكوين الطبيعة وهو في جوهره المعنى الحسي المشخص للنص، فالنص والواقع شيء واحد، والنص الديني موقف إنساني ويتحول التفسير الطبيعي للنص إلى التحليل الإنساني فيحصل الانتقال من اللفظ إلى الشيء ذاته.


ويبين 'حسن حنفي' دور التفسير الطبيعي فهو يقوم بتحليل الشخصية الحاضرة والواقع الاجتماعي القائم وأوضاعه وظروفه وإدراك مكونات هذه الشخصية وهذا الواقع بعيدا عن الأحكام المسبقة المستوحاة من التفسير اللغوي للنصوص، فالرجوع إلى الطبيعة وإلى التفسيرات الطبيعية هو "كفيل بتوجيه الطبيعة نحو الكمال... هو الكفيل بردّ الاعتبار إلى الشخصية الإنسانية وذلك بالتعرف على مكوناتها، وبالحرص على تكوينها السوي، ورفض الازدواجية والثنائية معاً وما يتبعها من عمليات التعويض والنفاق والمداراة والتستر."[16]


إن خيوط نظرية التفسير، تفسير النص الديني وتفسير الشخصية، وتفسير الواقع بجميع مستوياته لا يصنعها منطق اللغة من شرح وتأويل وتبعية بل يصنعها منطق تحليل الخبرات والتجارب الإنسانية في صلتها بالوحي تطلبه وتناديه فيلبي النداء ويقدم الطلب من خلال صلة الواقع بالوحي، ويصنعها الانطلاق من الطبيعة والعودة إليها لا الانطلاق من المنبع والعودة إليه وهي نظرية حسب ما يراه صاحبها قامت في التاريخ القديم والتاريخ الحديث لكنها ليست تابعة لمناهج أخرى مشابهة في حضارات أخرى لأنها إفراز نابع عن تعدد وتنوع في صور العلوم الإسلامية.


تمثل نظرية التفسير الجبهة الثالثة في مشروع 'التراث والتجديد'، الهدف من النضال في هذه الجبهة هو تحويل الوحي إلى علوم إنسانية والربط بين الواقع والوحي في وحدة عضوية داخل الإنسان وفي سلوكه الفردي والاجتماعي، وفي البيان النظري للمشروع يظهر مشروع نظرية التفسير بأقسام ثلاثة، المناهج والعهد الجديد والعهد القديم، فالأول محاولة لتجاوز مناهج التفسير التي عرضها تراثنا القديم، والثاني "محاولة لتحقيقصحة الوحي في التاريخ ابتداء من مراحل الوحي السابقة حتى المرحلة الأخيرة أعني التوراة والإنجيل."[17] أما الثالث ففيه "يتم تحليل العهد القديم المقدس عند اليهود... وما زال المطلب قائماً فنحن مازلنا في مواجهة أهل الكتاب بمواجهتنا لمخاطر الاستعمار والصهيونية."[18] وحسب 'حسن حنفي' فإن الجبهة الثالثة تبدأ من الحاضر إلى الماضي "على نحو تراجعي لا زماني، فالحاضر هو الذي يكشف الماضي، واكتمال الوحي إنما يكشف عن مراحله."[19]


إن الأسس التي تبنى عليها نظرية التفسير مصادرها هي في التاريخ وفي الواقع وبالتالي لا يمكنها أن تكون جديدة ولا مثيل لها. فمنهج تحليل الخبرات نجد آثاره في تراثنا و في الثقافة الغربية الحديثة، والتفسير الطبيعي للنص مصدر العلم الحديث والمعاصر، والثورة في وجه التفسيرات اللغوية وغيرها إنّما من سنة التطور الحضاري والبناء التاريخي. فالنهضة الحديثة في الغرب والتقدم الحضاري الجاري فيه من تجاوز التفسيرات القديمة وظهور نظرية تفسير محكمة، فهل الأسباب مهيأة لظهور نظرية التفسير المحكمة في العالم العربي والإسلامي المعاصر؟ هل يمكن تجاوز الصعوبات القائمة، وإذا قامت محاولات تطبيق نظرية التفسير المحكمة فهل ذلك ممكن في الواقع؟. إنّ الإجابة بالنفي تجعل دعوة حسن حنفي' وقسما من مشروعه مجرد ترف فكري.



[1] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص183-184.




[2] - حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص175.




[3] - المرجع نفسه : ص176.




[4] - المرجع نفسه : ص176.




[5] - سبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط1، سنة 1971، ص36.




[6] - حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص177.




[7] - المرجع نفسه : ص180.




[8] - المرجع نفسه : ص180.




[9] - المرجع نفسه : ص180-181.




[10] - المرجع نفسه : ص181.




[11] - المرجع نفسه : ص181-182.




[12] - المرجع نفسه : ص182.




[13] - المرجع نفسه : ص182.




[14] - المرجع نفسه : ص184.




[15] - المرجع نفسه : ص185.




[16] - المرجع نفسه : ص 185-186.




[17] - حسن حنفي : التراث والتجديد، ص184.




[18] - المرجع نفسه : 184-185.




[19] - حسن حنفي : مقدمة في علم الاستغراب، ص11.