طبول الحرب الطائفيه تدعونا للإنتحار – فهمي هويدي – المقال الأسبوعي

أسوأ ما يمكن ان يحدث في العالم العربي ان يتحول صراعه من أجل التقدم الى صراع مذهبي يكرس التشرذم والتخلف.

(1)

أتحدث عن طبول الحرب المذهبية التي تدوي أصداؤها في فضاء المشرق طوال الأسابيع الأخيرة،
خصوصا حين أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه يوم 5/25 أن عناصر الحزب تقاتل الى جانب النظام السوري في بلدة «القصير»، التي كانت قوات الجيش الحر قد سيطرت عليها خلال العام الماضي،
وجاءت تصريحاته تلك محملة بثلاث رسائل هي:
ان شباب حزب الله المشارك في الحكومة اللبنانية أصبحوا يقاتلون بأعداد كبيرة في الصراع الدائر على الأرض السورية
- ان تلك المشاركة لا تستهدف الدفاع عن قرى حدودية لبنانية ولا عن مقدسات دينية لدى الشيعة وانما هو بمثابة دفاع عن النظام واسهام في قتل السوريين المتمردين الذين ثاروا على مظالمه
- وأن دخول عناصر حزب الله الى سورية بمثابة اصطفاف من جانب الشيعة، أو القطاع الأكبر منهم، الى جانب النظام وشبيحته الذين ينتمي أغلبهم الى الطائفة العلوية.

هذه الخلفية بررت تصريحات مسؤولي الجيش السوري الحر التي تحدثوا فيها عن القيام بعمليات من جانبهم على مواقع حزب الله داخل لبنان، ردا على دخول عناصر الحزب الى الأراضي السورية،
وهي خطوة اذا تمت فانها ستعني توسيع نطاق الحريق ومن ثم تسهم في تفجير الوضع الداخلي للبنان،
وقد تصل شرارة الحريق الى العراق الملتهب الذي يحتشد فيه أهل السنة في الأنبار ويتأهبون للثورة والانتفاض على النظام المذهبي القائم في بغداد،
ثم ان تدخل شيعة لبنان في الصراع الدائر بسورية يسوغ استنفار بعض جماعات أهل السنة واستدعاءهم الى الساحة السورية لنصرة اخوانهم هناك.

لا نستطيع ان نحمل السيد حسن نصر الله وحده المسؤولية عن اشعال نار الحرب المذهبية في العالم العربي،
بل أزعم أنه قاوم بشدة تلك النزعة طوال السنوات التي خلت، وعقد تحالفات عدة لتعزيز جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وابعاد شبهة الاصطفاف الطائفي عنها، خصوصا في مواجهة العدوان الاسرائيلي،
الا ان تلك الخلفية المبكرة لا تشفع ولا تبرر مشاركة حزب الله في الدفاع عن نظام دمشق والاشتباك مع المقاومة السورية التي ثارت على النظام
وانما أقول بوضوح ان اندفاعه في ذلك الاتجاه يعد خطأ سياسيا جسيما من جانبه سحب أغلب رصيده الايجابي في العالم العربي والاسلامي،
في الوقت ذاته فانه بات متعذرا اقناعنا بأن انخراط حزب الله في معركة القصير مقطوع الصلة بالتحيزات المذهبية.

(2)

منذ قامت الثورة الاسلامية في ايران في عام 1979، وتبنت موقفها المعادي للسياسة الأمريكية واسرائيل،
تذكر كثيرون ان الايرانيين شيعة
وأنهم فرس لبعضهم علاقة تاريخية بالمجوس،
وأن دولتهم الصفوية خاضت حربا شرسة ضد الدولة العثمانية التي تزعمت عالم أهل السنة،
كما تذكروا ان لايران تطلعات وأطماعا في منطقة الخليج الذي تعاركنا على اسمه، وهل هو فارسي أم عربي أم خليج اسلامي،
كل تلك العناصر ظلت ساكنة وكامنة، في ظل حكم أسرة بهلوي، الأمر الذي أنسانا ان الايرانيين شيعة وأننا نختلف عنهم ونتقاطع معهم لأننا من أهل السنة،
ذلك كله استيقظ وجرى تنشيطه وتأجيجه بعد الثورة، وهو ما يسوغ لنا ان نقول ان أسباب «الفتنة» المذهبية ظلت نائمة ومغيبة طوال الوقت،
ولم يتم ايقاظها الا بعد وقوع الزلزال السياسي المتمثل في قيام الثورة وانقلابها على السياسات الشاهنشاهية.

في أثناء الحرب العراقية الايرانية التي بدأت في العام التالي مباشرة لقيام الثورة واستمرت تسع سنوات، استخدمت في الصراع كل الأسلحة المتاحة،
وكانت المسألة الطائفية ضمن تلك الأسلحة،
تزامن ذلك مع صدور سيل من الدراسات والتقارير الأمريكية التي ركزت على الخلافات بين السنة والشيعة،
ولم تر في العرب أمة تتسم هويتها بالثراء والتعدد، ولكنها تحدثت عنهم بحسبانهم مذاهب وفرقا وجماعات متساكنة،
وجاء احتلال العراق في عام 2003 لكي يجسد تلك الفكرة،
ذلك ان المجلس الانتقالي الذي تشكل بعد سقوط النظام البعثي لم ينطلق من النظر الى العراقيين باعتبارهم شعبا واحدا، ولكنه حرص على تمثيلهم في المجلس باعتبارهم فرقا وشراذم تتوزع بين الشيعة والسنة والأكراد وبعض الأقليات الأخرى.

وفي أجواء الفراغ المخيم على العالم العربي استقرت تلك الصيغة حتى تبلورت في تقسيم للعراق الى ثلاثة أقاليم بين الشيعة والسنة والأكراد، الأمر الذي يمهد لاندثار الدولة العراقية بمضي الوقت.

في هذا السياق لا نستطيع ان نتجاهل الصراع التاريخي بين الوهابيين والشيعة الذي تمتد جذوره الى بدايات القرن التاسع عشر،
وللطرفين معارك شرسة وطويلة ظلت تدور في فلك الكتابات والانتقادات التي تبادلها الجانبان،
وهذه الكتابات هي التي شكلت الخلفية الثقافية لجماعات السلفيين وأجيالهم المتتابعة،
والمتابع لتاريخ ذلك الصراع يلاحظ ان تلك المعارك ظلت هامشية ولم تتجاوز الساحة الثقافية والفكرية طوال السنوات التي سبقت قيام الثورة الايرانية،
ولكنها وظفت سياسيا وانتعشت بعد الثورة وتعالت مؤشراتها طوال سنوات الحرب العراقية الايرانية،
وحين برز دور الجماعات السلفية عقب الربيع العربي فانها ظلت على عدائها للشيعة،
ورأينا تجليات واضحة لذلك العداء في مصر خلال العام الأخير، حين اتجهت القاهرة الى محاولة تطبيع العلاقات مع ايران، الأمر الذي قاومه السلفيون بشدة ونددت به أبواقهم المختلفة،
حتى أنهم تظاهروا أمام مقر القائم بالأعمال الايراني في القاهرة،
وهددوا بمحاصرة مطار القاهرة اذا ما جاء السياح الايرانيون اليها،
وفي حملتهم تلك فان بعضهم وجه سهامه الى عقائد الشيعة وتعاليم مذهبهم،
ومنهم من شكك في مقاصدهم وحذر من نشر مذهبهم في أوساط أهل السنة.

(3)

لا نستطيع ان نبرئ ساحة الطرف الايراني ونعفيه من المسؤولية عن تأجيج الصراع الطائفي مع أهل السنة،
ذلك ان موقف ايران من العراق مسكون بشبهة التحيز الطائفي الذي يتعذر انكاره،
والشواهد والقرائن اليومية تدل على ان وجود ايران هناك يتجاوز بكثير متطلبات الدفاع عن أمنها القومي،
ولا يدع مجالا للشك في ان له بعده الطائفي وتحيزه المذهبي، الذي أوقع بأهل السنة مظالم كثيرة ودفعهم في الوقت الراهن الى التعلق بفكرة الاحتماء باقليم خاص بهم يجنبهم ويلات تلك المظالم،
لا أنكر ان قلة من القيادات الشيعية تحارب المنظومة الطائفية في العراق وفي لبنان الا ان ذلك لم يغير من واقع الحال، الذي يغذي الصراع الطائفي ويؤججه.

صحيح أيضا ان الدولة الايرانية أيدت ودعمت بصور عدة المقاومة الفلسطينية ولها موقفها المشرف من القضية الفلسطينية،
كما أنها رحبت بتجليات الربيع العربي بصورة أو أخرى،
وتلك كلها تفاعلات شهدتها مجتمعات أهل السنة، وهو ما يحسب لها، لكنه لا يلغي الممارسات الأخرى السابق الاشارة اليها، التي ينبغي ان تحسب عليها.

لا يقف تأثير ذلك الصراع الطائفي البائس عند حدود تمزيق الأمة واضعافها في مواجهة تحديات وخصوص تهدد الطرفين ولا تفرق بين سني وشيعي، بل تتمنى لهما ان يتقاتلا حتى يفني كل منهما الآخر،
وانما هناك أثر آخر لا يقل خطورة يتمثل في ان احتراب الأشقاء يلهيهم عن أعدائهم الحقيقيين وعن معاركهم المصيرية.

لقد تحدث تقرير لمعهد «بروكينجز» الأمريكي صدر في شهر ابريل الماضي عن ان الصراع بين السنة والشيعة أصبح يحتل مكانة متقدمة على صراع العرب والمسلمين ضد الهيمنة الغربية،
بل انه أصبح متقدما أيضا على أولوية القضية الفلسطينية، التي لم يعد كثيرون في العالم العربي يهتمون بها،
وهذا كلام صحيح بصورة نسبية، بمعنى أنه ينطبق على خطاب النخب في العالم العربي الذي تروج له المنابر الاعلامية المعبرة عنهم،
وقد رأينا أخيرا في مصر كيف ان السلفيين أعلنوا غضبهم واحتجاجهم على السماح للسياح الايرانيين بزيارة مصر، في حين لم نسمع لهم صوتا احتج على السياحة الاسرائيلية،
الا أننا نلاحظ أيضا ان القضية الفلسطينية لم تعد تحتل موقعها المركزي لا في خطاب النخب ولا في السياسات العربية، ولا أستثني من ذلك دول الربيع العربي، ومصر في المقدمة منها.

(4)

لا أجد حلا لتلك المشكلة الا بالدعوة الى فك الارتباط بين ما هو سياسي وما هو مذهبي،
حيث لا أرى غضاضة في الاشتباك مع السياسة الايرانية أو العراقية أو السورية أو غيرها،
حيث أزعم ان نقد تلك السياسات والدعوة الى تغييرها واجب لأن أخطاءها وحساباتها هي التي توردنا موارد التهلكة،
لكن ذلك ينبغي ألا يورطنا في تجريح المذهب الذي لا سبيل الى تغييره،
ومن المفارقات أننا فعلنا ذلك مع اسرائيل، حين فرقنا بين اليهودية من حيث انها ديانة، واستمرت ادانتنا للحركة الصهيونية من حيث انها سياسة،
وقد بحت أصواتنا ونحن نقول اننا عمليا وتاريخيا ليس لدينا مشكلة مع الديانة التي تعايشنا معها،
لكن مشكلتنا ومعركتنا الأساسية كانت ومازالت مع السياسة الصهيونية التي سوغت اغتصاب فلسطين وأقامت الدولة العبرية على أنقاضها.

لماذا لا نقول صراحة ان معركتنا ضد سياسات نرفضها سواء من جانب ايران أو حزب الله أو حكومة المالكي في العراق،
كما أننا ضد استبداد نظام الأسد وجرائمه،
لكننا لسنا ضد الشيعة أو العلويين،
وحتى اذا حاولت بعض الأنظمة استخدام المذهب أو الطائفة في تحقيق أهدافها، فان الوعي بتلك التفرقة ينبغي ان يظل حاضرا في الأذهان طول الوقت،
فنحن نظلم الشيعة العرب مثلا اذا حاسبناهم على حسابات السياسة الايرانية في العراق أو أوزار حزب الله التي يرتكبها في سورية،
حتى اذا أيد البعض منهم تلك السياسات أو انخرط في الأوزار، فان الادانة ينبغي ان تلحق اختياره السياسي وليس انتماءه المذهبي.

قد يرى البعض ان التفرقة بين ما هو سياسي وما هو مذهبي صعبة في حالات كثيرة،
لكني أزعم أنها ضرورية ولابديل عنها،
لأن المعارك مع السياسات محدودة الأجل،
أما المعارك ضد المذاهب والانتماءات العقيدية فهي عبثية وبلا نهاية،
ناهيك بأنها وصفة تقليدية ومضمونة المفعول للانتحار.
.....................

--