نحن بإزاء قضيتين وليس قضية واحدة،
قضية اختطاف سبعة من الجنود المصريين في سيناء،
وقضية اختطاف سيناء ذاتها من مصر.
وحين نركز على الأولى دون الثانية فإننا بذلك نوجه اهتمامنا بالعرض وننصرف عن بيت الداء وأصل المرض.
(1)
خلال العامين الأخيرين بوجه أخص حفلت سيناء بالحوادث التي بدا الاحتكام إلى السلاح فيها واضحا،
كما ظهرت في الأفق مؤشرات الاشتباك مع السلطة وتحديها،
ولا أعني أن سيناء كانت ساكنة قبل ذلك، ولكن أعني أن منسوب العنف وتحدي السلطة ارتفع بصورة أوضح بعد الثورة.
إذ أزعم أن رياح التمرد ظلت تهب على سيناء طول الوقت بسبب السياسة الأمنية التي حكمت البلاد طوال العقود الأخيرة، والتي تعاملت مع أهالي سيناء باعتبارهم مشتبها بهم.
إذ حين وقعت بعض التفجيرات في المناطق السياحية (شرم الشيخ مثلا) فإن مدرسة «التمشيط» في الجهاز الأمني ساقت المئات من أبناء سيناء الأبرياء إلى السجون والمعتقلات، علها تجد الفاعلين بينهم.
وهناك عاملتهم بصورة مهينة ووحشية لاستنطاقهم. متجاهلة أن هؤلاء ينتمون إلى قبائل وعشائر لا سلطان للدولة عليهم، الأمر الذي كان له دوره الرئيسي في تنامي مشاعر النقمة على السلطة واختزان مشاعر الثأر والانتقام منها.
كان العم أمين هويدي وزير الحربية ورئيس المخابرات الأسبق يحتفظ بعلاقات طيبة مع عدد من شيوخ القبائل في سيناء، منذ كان ضابطا في سلاح الحدود.
وظلت تلك العلاقات مستمرة معه إلى ما قبل وفاته، رحمه الله، في عام 2009،
وكانت له وجهة نظر في التعامل مع سيناء، خلاصتها أنه منذ دخلت الشرطة على الخط وتحولت سيناء إلى حالة أمنية تولاها جهاز أمن الدولة (سابقا)، فسدت علاقة السلطة بالمجتمع السيناوي،
حيث رأى الجميع هناك وجها فظا وغليظا للدولة المصرية لم يألفوه، فنفروا منه واشتبكوا معه بطريقتهم،
وكان رأيه أن الجيش في سيناء كان حارسا للحدود وودودا مع الناس،
أما الشرطة فقد تعاملت معهم باعتبارهم متهمين واستخدمت معهم أساليب القمع.
وكانت النتيجة ــ حسب تعبيره ــ أن تراجعت سلطة الدولة التي أصبحت جهازا قمعيا، وتنامت سلطة القبيلة التي أصبحت هي الحامية لأبنائها.
خلال السنتين الأخيرتين حفل سجل الاشتباك والتمرد بحوادث عدة، توالت على النحو التالي:
تم قتل 16 ضابطا وجنديا في رفح
ــ هوجم معسكر القوات الدولية لحفظ السلام
ــ ثم هجوم آخر على حي الزهور بالشيخ زويد
ــ هوجم كمين للجيش في منطقة العوجة أدى إلى إصابة سبعة من الجرحى
ــ هوجم مصنع للأسمنت تابع للقوات المسلحة في وسط سيناء
ــ استشهد ضابط شرطة وأصيب أحد الجنود في هجوم على قسم شرطة نخل
ــ تعرض كمين للجيش للهجوم في مطار العريش
ــ وأخيرا تم اختطاف الجنود السبعة بالقرب من العريش.
(2)
طوال العقود الأربعة الأخيرة على الأقل التي أصبحت سيناء فيها مجرد حالة أمنية، ظلت تضاريسها الاجتماعية مجهولة لدى السلطة، علما بأن بعض تضاريسها الجغرافية أيضا غير معلومة إلا لأبناء سيناء الذين يحفظون دروبها وهضابها ومخابئها.
وبسبب غياب السلطة فإن المعلومات ظلت شحيحة عن حقيقة ما يجري فيها.
آية ذلك مثلا أن أنبوب الغاز الموصل لإسرائيل تم تفجيره 14 مرة دون أن تعرف بالضبط الأطراف الفاعلة في تلك العمليات.
وكان طبيعيا أن تنمو هناك بؤر التهريب والإجرام، إضافة إلى الجماعات التي توصف بأنها سلفية أو جهادية.
وفي حدود علمي فإن الأجهزة المعنية في القاهرة كانت تدرك ذلك إلا أنها لم تكن تعرف شيئا عن الأحجام والأوزان، فضلا عن الأماكن.
وقيل لي مثلا إن هناك 16 بؤرة جهادية لكن أحجامها وأماكنها لم تكن معلومة على وجه الدقة.
بسبب الغموض الذي أحاط بمجمل الأوضاع والخرائط الاجتماعية في سيناء فإن عددا غير قليل من المحللين والسياسيين فضلا عن وسائل الإعلام كانوا يستسهلون الربط بين سيناء وقطاع غزة في خلط بين الجغرافيا والسياسة، حيث ظل الغمز دائما في علاقة حماس بما يجري هناك.
لذلك فإن ما يجري في سيناء كان يرد عليه بإغلاق معبر رفح وتشديد حملة تدمير الأنفاق.
وهو ما حدث هذه المرة، وتكرر في أغلب المرات السابقة.
بل إن بعض التصريحات الرسمية كانت تسارع إلى اتهام حماس بالضلوع في أي حادث يقع في سيناء. كما حدث عقب قتل الـ16 ضابطا وجنديا في العام الماضي.
وقد تم اتخاذ الإجراء ذاته بعد خطف الجنود السبعة، إذ أغلق المعبر بقرار إداري، فضلا عن أن مجموعة من جنود الأمن المركزي توجهوا إلى المعبر لإحكام إغلاقه، ورفعوا شعارات معادية لحماس.
بالتالي فقد كتب على قطاع غزة وحماس أن يدفعا ثمن الجوار وتدهور الأوضاع في سيناء،
ولولا أن كل القرائن دلت على أن حادث الاختطاف الأخير كان شأنا سيناويا خالصا، حتى باعتراف الخاطفين أنفسهم، لما استبعد المحللون والمنابر الإعلامية دور حماس والفلسطينيين في الحادث.
وهو ما سجلته تصريحات المتحدث العسكري المصري في 17/5 التي قال فيها إنه لا علاقة لحماس أو غزة بالموضوع.
(3)
لا نستطيع أن نفصل الحاصل في سيناء عن مجمل الأجواء المخيمة على مصر.
إذ كما أن السياسة الأمنية التي عاشت في ظلها البلاد ألقت بظلالها على علاقة السلطة بالمجتمع في سيناء.
فإن حالة الانفلات التي شهدتها مصر بعد الثورة وما استصحبته من جرأة على السلطة وتحد لهيبتها، وإهدار لمؤسساتها إلى جانب الإطاحة بقيم القانون والنظام العام،
هذه أيضا كانت لها أصداؤها هناك، بل إنني لا أستبعد أن تكون تلك الأجواء قد شكلت عنصرا مشجعا على رفع منسوب التحدي والاستهانة بالسلطة في سيناء.
ذلك أن ما حدث هناك مؤخرا لا يختلف كثيرا عما نراه بصورة شبه يومية في أنحاء مصر (القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد مثلا) مع اختلاف بسيط تمثل في أن الذين تعرضوا للاختطاف هم جنود وليسوا مواطنين عاديين.
في هذا السياق لا بد أن تثير دهشتنا مواقف النخب ووسائل الإعلام المصرية إزاء الحدث الأخير.
إذ سارع البعض إلى توظيفه لصالح توجيه الاتهام إلى الرئيس محمد مرسي وتكثيف الهجوم عليه لتعزيز المواقع في الاستقطاب الحاصل.
وفي الوقت ذاته فإنهم فسروا الحادث باعتباره جزءا من مؤامرة.
حيث تعددت تصريحات الناشطين السياسيين الذين دأبوا على القول بأن الرئيس مرسي هو المسؤول الأول عما جرى، سواء باعتباره قائدا عاما للقوات المسلحة لم يفعل شيئا لحماية الجنود، أو لأنه أصدر عفوا عن بعض المحكوم عليهم في قضايا سياسية.
ومنهم أناس اعتبرهم النظام السابق إرهابيين وهؤلاء التحقوا بسيناء وعادوا إلى نشاطهم القديم.
ومنهم من قال إن الذين قاموا بعملية الخطف هم من إخوان وعشيرة الرئيس مرسي.
وأبرزت إحدى الصحف قولا منسوبا إلى أحد ممثلي القوات المسلحة ذكر فيه أن الرئيس مرسي إما أن يثبت جديته في التعامل مع الحدث وإما أن يستقيل من منصبه.
الذين تبنوا سيناريو المؤامرة قالوا إن خطف الجنود السبعة في سيناء تم قبل 24 ساعة من مظاهرات الدعوة لإسقاط الرئيس مرسي، وربطوا بين الاثنين،
وكأن الخطف تم بترتيب مسبق لصرف الانتباه عن المظاهرات.
ومنهم من قال إن الخطف استهدف إحراج الجيش وتشويه صورته، بعد أن تعددت المطالبات في الآونة الأخيرة باستدعائه لتسلم السلطة، بحيث تحول إلى منقذ للبلد،
ولذلك جرت محاولة تجريحه وإظهاره بمظهر الضعيف والعاجز عن أداء وظيفته الأساسية.
الفكرة التي ترددت كثيرا في هذا الصدد أن عملية الخطف بمثابة حيلة للتخلص من الفريق عبد الفتاح السيسي، تستلهم ما فعله الرئيس مرسي في السابق حين وقعت حادثة قتل الـ16 ضابطا وجنديا في رفح، وفي أعقابها أقال الرئيس الفريق طنطاوي وحل المجلس العسكري.
وجسدت إحدى الصحف الفكرة في عنوان رئيسي على الصفحة الأولى ذكر أن «الإخوان ينتهزون الفرصة للإطاحة بالسيسي»
ــ ونقلت صحيفة أخرى عما وصفته بأنه مصدر عسكري قوله:
الجيش لن يسمح بالإطاحة بالسيسي وسيناريو طنطاوي لن يتكرر تحت ذريعة خطف الجنود.
(4)
لي أربع ملاحظات على المشهد، هي:
< أن التجاذب والصراع السياسي الحاصل في مصر لم يسمحا بتوفير رؤية وطنية واضحة للتعامل مع الحدث.
بل إن النخب السياسية ومعها المنابر الإعلامية المعارضة وظفوا ما جرى من أجل كسب المعركة السياسية التي يخوضونها. بحيث ما عاد السؤال المطروح هو
كيف يحل الإشكال بحيث لا يتكرر ما جرى مرة أخرى، وتستعيد الدولة هيبتها في سيناء؟
ــ بل بدا أن الفكرة التي ظلت مهيمنة طول الوقت هي:
كيف يمكن استثمار الحدث في إحراج الرئيس محمد مرسي وإضعاف صورته، بحيث توظف في هدف سحب الشرعية منه وإسقاطه.
وهو تحليل إذا صح فإنه يصبح كاشفا عن مدى الخلل الذي تعاني منه البيئة السياسية في مصر.
< أن فكرة اختطاف سيناء وغياب السيادة المصرية الحقيقية على كامل أراضيها ــ وهي مسألة محورية في الموضوع ــ لم تنل ما تستحقه من الذكر في الجدل الدائر حول الحدث.
كأنما شغل الجميع بالتفاصيل الراهنة عن الرؤية الإستراتيجية المتمثلة في تلك الحقيقة الجوهرية التي تجنب كثيرون الخوض فيها.
وأغلب الظن أن السكوت على مصدر البلاء وأصل الداء راجع إلى التخوف من إثارة الموضوع الذي لا بد له أن يفتح الأبواب للحديث عن اتفاقية السلام الموقعة مع إسرائيل. وما أسفرت عنه من أوضاع تحتاج إلى مراجعة من نظام ما بعد الثورة المصرية،
وربما تصور هؤلاء أن فتح الملف له تداعياته التي يفضلون السكوت عليها ويؤثرون تجاهلها.
مع العلم بأنه لا حل لمسألة التعامل الجاد مع الأوضاع المضطربة في سيناء إلا بعودة السيادة المصرية كاملة على أراضيها.
ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بإعادة النظر في اتفاقية السلام بما يجعلها لصالح الأمن المصري وليس الأمن الإسرائيلي وحده.
< أننا في اللحظة الراهنة أحوج ما نكون إلى أمرين أساسيين هما:
إرادة سياسية شجاعة تتعامل بحزم مع مظاهر العدوان على هيبة الدولة وكرامتها، وتصارح الناس بما يجب فعله إزاء ما يجري وبحقيقة الظروف التي تكبل يد السلطة وتحول دون تمكينها من الدفاع كما يجب عن المصلحة الوطنية العليا.
الأمر الثاني يتمثل في حاجتنا إلى معارضة وطنية واعية ومسؤولة ترتفع فوق مراراتها وحساباتها لتعلي من شأن المصلحة الوطنية العليا، منحازة في ذلك إلى فكرة المعارضة البناءة والإيجابية، وليس المعارضة الانقلابية التي يشغلها هاجس واحد يتمثل في إسقاط النظام بأقل الحلول مكانه، حتى إذا تم ذلك بأسلوب غير ديمقراطي.
< أخيرا فإنني أحذر من التعويل على الحل العسكري والأمني وإهمال الحل السياسي.
وأرجو أن نكون قد تعلمنا شيئا من دروس التعويل على الحل الأول وإهمال السياسة في الموضوع، لأنه يخلف مرارات وتارات وضغائن تعقد المشكلة ولا تحلها، رغم أنه يبدو للوهلة الأولى أسهل وأجدى في الحسم.
ومشكلة الحل السياسي أنه يتطلب سياسة وحكمة وبعد نظر، وأخشى في ظل الأوضاع الضاغطة الراهنة أن نتغاضى عن كل ذلك، بحيث نتبنى شعار القمع هو الحل.
وأرجو أن يظل واضحا في أذهان أصحاب القرار أن آخر الدواء هو الكي.
وأخشى في ظل الانفعال والتعبئة التي نشهدها أن نبدأ بما يجب أن ننتهي به.
..............

--