ه محمود درويش : من وطن الذكريات إلى وطن الكلمات

د. يوسف حطيني
لا يعد المكان أحد عناصر القصيدة الشعرية، ولكنه واحد من تقنياتها المحتملة، إذ ليس مطلوباً من القصيدة أن تهتم به، وليس من المعروف على نطاق واسع أن يفرد له حيّز معتبَر في دراسات الشعر، إلا إذا كانت الدراسة تتقصى الشعر القصصي، أو تتناول المكان، بوصفه موضوعاً .
غير أن الأمر يختلف في السرد، إذ إن المكان واحد من الأركان التي لا يمكن إهمالها أو تجاوزها في أية دراسة منهجية تحاول أن تتصف بالشمول. ولأننا نجتهد هنا في متابعة السردي داخل الشعري فقد آثرنا أن نسعى إلى رصد مفهوم المكان في شعر محمود درويش.
المكان هو العاطفة:
إن الشاعر لا يجتهد في البحث وراء الكلمات الكبيرة كالبلاد والحدود والمنفى، خارج سياقها البشري، ولكنه يدرك أن الأم ورائحة المريمية يشكلان وطناً في الضمير، وفي قصيدة "IIV منفى (3) كوشم يدٍ في معلّقة شاعر جاهليّ" يذكر الشاعر بعضاً من مفردات الوطن، هذه المفردات التي سنرى في فقرة لاحقة أنها أكبر من أن تُحدّ وأكثر من أن تحصى:
"كنتُ أحسَبُ أنّ المكانَ يُعَرَّفُ
بالأمهات ورائحة المريميّة. لا أحدٌ
قال لي إنّ هذا المكان يسمّى بلاداً،
وأنّ وراء البلاد حدوداً، وأنّ وراء
الحدود مكاناً يسمّى شتاتاً ومنفى
لنا. لم أكن بعدُ في حاجةٍ للهويّة.
لكنّهم... هؤلاء الذين يجيئوننا فوق
دبابةٍ ينقلون المكان على الشاحنات
إلى جهة خاطفهْ
المكانُ هو العاطفهْ "
المكان قديم يتجدد:
كثيراً ما تكون الأنساق اللغوية مخادعة مراوغة، تأخذك في اتجاه أوّلي، سرعان ما تكتشف أنه الاتجاه الخطأ، وإذ يطالع المرء قصيدة "تعاليم حورية" من مجموعة قصائد "فوضى على باب القيامة"للشاعر محمود درويش يتبادر إلى بديهته المستعجلة أنه سيطالع قصيدة وجدانية يبث فيها الشاعر حزمة من الذكريات الفردية والمشاعر الشخصية ويبني جزءاً من عالم البنوة والأمومة الذي أنجزه الشعراء والقاصون والروائيون؛ غير أن الشاعر يلوي عنق راحلته، ويتجه بقصيدته نحو تجربة فردية جماعية في آن، ويغدو مكان الرحلة القسرية بؤرة يتم التركز عليها، فهو يخاطب أمه:
"هل تذكرينَ
طريق هجرتنا إلى لبنانَ، حيث نسيتِني
ونسيتِ كيس الخبز [كان الخبز قمحياً].
ولم أصرخ لئلا أوقظ الحراس. حطتني
على كتفيكِ رائحة الندى. يا ظبيةً فقدَت
هناك كناسَها وغزالَها "
ثمة في الأبيات مكان مألوف ورحلة ومكان جديد، ثمة تشابه في بعض التفاصيل مع رحلة الشاعر العربي القديم الذي يألف مكاناً/ طللاً حبيباً، ثم يغادره.. غير أن التدقيق يقود إلى أن ثمة فروقاً جوهرية بين الحالين:
• فالمكان الأليف/ الطلل في الشعر العربي القديم مكان مهجور لا حياة فيه، أو إن الشاعر يبعث فيه الحياة من خلال أحزانه وكلماته، أما المكان الذي تركه شاعرنا فإنه ما زال عامراً وما أخنى عليه الذي أخنى على لُبَدِ، ولم تتبعثر أثافيه.. إنه مكان يزداد بهاءً كلما ابتعد عنه الشاعر.
• والمكان الأليف عند شاعرنا القديم محطة توقف مؤقتة.. محطة تأمل وألم، ولكنه ليس كذلك عند درويش، ولفيف شعراء المقاومة، إنه نقطة الانطلاق نحو المنفى وحالة عدم التوازن، ومحاولة سلب الانتماء والهوية.
• والرحلة التي قام بها شاعرنا القديم كانت رحلة اختيارية مسموح لها بتغيير اتجاهها، ورحلة شاعرنا الذي انتهكت حريته وهويته رحلة قسرية في اتجاه واحد، يوجهها حراس غليظو القلب لذلك فإن الفتى الضائع لم يستطع الصراخ حتى لا يوقظهم ويوقظ تعطشهم للدماء.
• والمكان الذي تتجه له الرحلة هو أمل الشاعر القديم، وألم الشاعر الجديد، ثمة عند الجاهلي ممدوح تتجه نحوه الراحلة، وقصيدة تلقى بين يديه، وثمة عطاء منتظر.. ولكن: ما الذي كان ينتظر الفلسطيني في رحلته إلى المنفى: ذل وألم وبرد وجوع، أو في أحسن الأحوال ذل وألم وبرد وخيمة ورغيف خبز مغسول بالذل أو الدماء.
وطن من الكلمات:
ثمة إذاً يدٌ تريد تغيير هوية المكان غير يد الدهر، وثمة تاريخ للمكان يراد تزويره، لذلك يدافع الشاعر الفلسطيني عنه وعن تاريخه، ويتمنى أن يكتب التاريخ الحقيقي باليراع الذي يستمد حبره من مفردات المكان/ الوطن/ الأرض. في المقطع المعنون "مغني الدم" من قصيدة "أزهار الدم" يقول درويش:
"ليتني أكتب بالمنجل تاريخي
وبالفأس حياتي:
وجناح القبّرهْ "
لقد قضى الشاعر شطراً معتبَراً من حياته في الوطن تحت حراب الجندي الإسرائيلي، ثم عاش تجربة النفي، وعاد مع القليلين الذين عادوا إلى الأراضي المحتلة عام 1967 بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، فعاش في الوطن حيناً، وخارجه حيناً، وكان الوطن في الحالين يعيش فيه، وكان الوطن على الرغم من كونه هشاً يعني للشاعر الأمن والطمأنينة . من أجل إنّ ذلك راح يبنيه حجراً حجراً وبيتاً بيتاً وسنبلة سنبلة وأغنية أغنية. في قصيدة "أهديها غزالاً" يبني الشاعر وطناً من الكلمات إذ يريد أن يهدي أخته غزالاً بمواصفات الوطن:
"سأهديها غزالاً ناعماً كجناح أغنيّهْ
له أنفٌ ككرملنا
وأقدامٌ كأنفاس الرياحِ، كخطوِ حريّهْ
وعنقٌ طالعٌ كطلوع سنبلنا
من الوادي إلى القمم السماويّهْ "
إن الأنثى في المقطع السابق هي ذاتها الأنثى في كل شعر درويش، إنها ـ أختاً وأماً وعشيقة ورفيقة درب ـ تقوده باستمرار نحو المكان الأليف. في قصيدة "موت آخر وأحبك" يخاطب الأنثى الحبيبة قائلاً:
"كأنّ يديكِ بلدْ
آه.. من وطنٍ في جسَدْ!! "
هكذا تبدو المرأة حين تندمج بالوطن، على توافق تام مع قلب الشاعر، وفي قصيدة "أغاني الأسير" تجسيد لتلك الثنائية الخالدة :
معلّقةٌ، يا عيون الحبيبهْ
على حبل نورٍ
تكسّرَ من مقلتَينْ
ألا تعلمين بأنّي أسير اثنتينْ
جناحايَ: أنتِ وحريتي
تنامان خلفَ الضفاف الغريبهْ
أحبكما هكذا توأمينْ "
خيار المرأة في شعره إذاً أن تكون وطناً، مكاناً أليفاً دافئاً، لأنها لو حاولت أن تكون بديلاً للوطن، ستكون خاسرة في المعادلة التي يقدمها درويش في قصيدة "النزول من الكرمل"، مثلها في ذلك مثل كلّ مكان، كل بحر وكل جبل وكل بلد لا يقود نحو فلسطين:
"أحبّ البلاد التي سأحبّْ
أحبّ النساء التي سأحبّْ
ولكنّ غصناً من السّروِ في الكرمل الملتهبْ
يعادلُ كلّ خصور النساء
وكلّ العواصمْ
أحبّ البحار التي سأحبُّ
أحبّ الحقولَ التي سأحبُّ
ولكنّ قطرةَ ماءٍ على ريش قبّرةٍ في حجارة حيفا
تعادلُ كلّ البحارِ
وتغسلني من ذنوبي التي سوف أرتكبُ "
ولعلّ القضية التي تثيرها قصيدة "ريتا والبندقية" تصب في السياق ذاته، فالأنثى ها هنا تريد أن تعطي الشاعر قلبها لتأخذ منه قلبه، ولكنه يدرك أنّ قلبه أوسع منه، لذلك يطلق صيحته المدوية:
"بين ريتا وعيوني.. بندقيهْ "
إن هذه الصرخة التي يستخدم فيها الشاعر مفردة عيوني بصيغة الجمع دلالة على أن المسألة أكبر من عاطفة فردية، تعبّر عن خسارة أي شخص يضع نفسه في مواجهة المكان الأليف/ الوطن، إنها بيانٌ بالغ الوضوح والدلالة يشبه بيانات إبداعية أطلقها الكاتب الشهيد غسان كنفاني حين صرخ على لسان أبي خيزران:
"لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟"
وعندما أصدر بيانه الصريح على لسان أم سعد:
"خيمة عن خيمة تفرق"
ولكي يؤكد درويش رؤيته، ويجلّي موقفه الحاسم من هذه القضية يقدم _ عوداً على بدء ـ صورة ريتا في قصيدة متأخرة نسبياً اسمها "شتاء ريتا" التي ينهيها بالسياق الشعري التالي:
"وضعتْ مسدّسها الصغير على مُسَوّدةِ القصيدهْ
ورمتْ جواربها على الكرسيّ، فانكسر الهديلُ
ومضتْ إلى المجهول حافيةً، وأدركني الرحيلُ "
في هذا السياق المكاني بامتياز يعيد درويش إنتاج مقولته الأولى، فالبندقية التي كانت تفصل بين عيون الشاعر وبين ريتا في زمن الحرب، تحولت في عهد "السلام المفروض" إلى مسدس تضعه ريتا فوق قصيدة الشاعر، وهكذا في المفاوضات: يقدم كل طرف ما لديه: يقدم القاتل سكينه ودبابته ومسدسه، بينما يدلي القتيل بالشعر وأسماء الشهداء والمجازر.
تعريفات مختلفة للوطن:
الوطن نعمة لا يشعر بأهميتها إلا أولئك الذين فقدوها، تماماً كالصحة التي لا يشعر بقيمتها إلا المرضى، لذلك حاول المبدعون الذين هاجروا من وطنهم أو هجّروا منه أن يخرجوه من كتب النشيد المدرسي، وأن يجعلوه حقيقة من غضب وحزن ودم وحقول، وكان محمود درويش واحداً من الذين كانوا مصرين على ذلك، فهو يقول:
"وطني ليس قصةً أو نشيداً
ليس ضوءاً على سوالف فُلّهْ
وطني غضبةُ الغريب على الحزنِ
وطفلٌ يريد عيداً وقبلهْ
ورياحٌ ضاقت بحجرة سجنٍ
وعجوز يبكي بنيه.. وحقلَهْ "
وفي قصيدة حملت عنوان "العصافير تموت في الجليل"، وهو عنوان المجموعة الشعرية التي نشرت فيها، تظهر صورة الوطن الحقيقي، الوطن الذي يعاني، ويكتب تاريخه بالدم: "وطني حبل غسيلٍ
لمناديل الدم المسفوك
في كلّ دقيقهْ "
وإذا كان محمود درويش قد صرّح في قصيدة "يوميات جرح فلسطيني" بأحد بياناته الشعرية عام 1970 قائلاً:
"آه يا جرحي المكابرْ
وطني ليس حقيبهْ
وأنا لستُ مسافرْ
إنني العاشق، والأرض حبيبهْ "
فإنه عاد في قصيدة "مديح الظلّ العالي" ليقول:
"وطني حقيبهْ
وحقيبتي وطن الغجرْ
شعبٌ يخيّمُ في الأغاني والدخانْ
شعبٌ يفتّش عن مكانْ
بين الشظايا والمطرْ "
ولا يستطيع المرء أن يفهم هذا التحول في تصور الوطن، اللهم إلا إذا ربطه بالسياق السياسي، الذي كتبت فيه هذه القصيدة التوثيقية وهو الظرف الذي انتهى بخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت التي احتضنت المقاومة وودعتها بما يليق بها، مما قاد الشاعر إلى حيرة لم يجد لها حلاً إلا أن يكون وطنه هو تلك الحقيبة التي يحملها معه إلى المنافي البعيدة.. مثله في ذلك مثل السلحفاة الدؤوب التي لا تملّ من حمل بيتها فوق ظهرها .
إن هذا الوطن الذي تتبدل رموزه يبقى واحداً.. تتغير الظروف فتتغير المسميات، وتتبدل الأدوار أو الشخصيات فتتبدل الألفاظ، من شاعر يبحث عن وطنه بين الشظايا والمطر إلى امرأة ترى هويتها ووجودها في بقجتها الصغيرة:
"قال رجال الجمارك: من أين جئتم؟ أجبنا: من البحر؟ قالوا: إلى أين تمضون؟ قلنا: إلى البحر. قالوا: وأين عناوينكم؟ قالت امرأةٌ من جماعتنا: بقجتي قريتي "
الوطن والمنفى:
ينفتح المكان في شعر درويش على ثنائية قطباها الوطن والمنفى، وفي مقابل تلك الثنائية ثمة اتجاهان شعوريان، العشق للقطب الأول وجميع دلالاته والعداء للقطب الثاني بما يحمله من ألم، وفي قصيدة "عاشق من فلسطين" يختصر الشاعر العلاقة بينهما في قوله:
"وأكتبُ في مفكّرتي:
أحبُّ البرتقالَ وأكره الميناء "
وبين القطبين ثمة برزخ يصوره الشاعر دائماً، جسر باتجاهين، اتجاه يثير القلق، ويقود إلى الغربة وثانٍ يقود نحو المعشوقة، ودون عبوره أخطار جسيمة ودم وحرس حدود..
مفردات الوطن: مفردات الذاكرة:
في القصيدة الملحمية المسماة "جدارية": يؤكد الشاعر أنه ليس ملك نفسه، لأن كل مفردات الوطن تملكه.. إنه ينهي قصيدته بقوله:
"أما أنا _ وقد امتلأتُ
بكلّ أسباب الرحيل _
فلستُ لي.
أنا لستُ لي
أنا لست لي... "
والذي يعطي هذه النهاية قوتها اللغوية أنها تقوم على التضاد مع كل ما مضى، فالشاعر الذي يصر أن يملك كل شيء في الوطن لا يملك نفسه، لذلك فهو يمتلأ الآن ويمتلك أسباب رحيله لتكتسب النهاية مبررها الوطني والأخلاقي بعد أن اكتسبت مبررها الفني.. يتخلى عن ذاته ليمتلك الوطن الحلم.. بكل جزئياته، وتفاصيله الموحية:
"... ومحطة الباص القديمةُ لي. ولي
شبحي وصاحبُه. وآنية النحاس
وآية الكرسيّ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحرّاسُ والأجراسُ لي
ليَ حذوة الفرس التي
طارت عن الأسوار... لي
ما كان لي. وقصاصة الورق التي
انتُزعتْ من الإنجيل لي
والملح من أثر الدموع على
جدار البيت لي "
قصيدة محشودة بالمفردات المكانية، يؤثثها الشاعر بمهارة العاشق: فيذكر آنية النحاس وآية الكرسي والمفتاح، والباب والأجراس وحذوة الفرس، إنه عاشق يعيد حكاية قديمة، مجنون آخر يتفقد ليلاه , وظلها ونخلتها وبحرها، ويقول بملء صوته: نحن ما زلنا هنا، حتى لو انفصل الزمان عن المكان:
"- أتعرفني؟
سألتُ الظل قربَ السورِ،
فانتبهتْ فتاةٌ ترتدي ناراً،
وقالت: هل تكلّمني؟
فقلتُ: أكلّمُ الشّبح القرينَ
فتمتمتْ: مجنون ليلى آخرٌ يتفقّدُ
الأطلال،
وانصرفتْ إلى حانوتها في آخر السوق
القديمةِ...
ههنا كُنَّا. وكانت نخلتان تحمّلانِ
البحرَ بعض رسائل الشعراءِ...
لم نكبر كثيراً يا أنا. فالمنظرُ
البحريُّ، والسورُ المُدافِعُ عن خسارتنا،
ورائحةُ البخور تقول: ما زلنا هنا،
حتى لو انفصل الزمانُ عن المكان "
مجنون من طراز خاص، لا يقبل "ذا الجدار وذا الجدارا" لأن الديار هي التي شغفته حباً، ولأن أصحابها – بعكس مجنون ليلى ـ يستمدون وجودهم منها، يقول درويش في قصيدته الطويلة "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق":
"جاء وقت الانفجارْ
وعلى السيف قمرْ
وطني ليس جدارْ
وأنا لستُ حجرْ "
فالوطن إذاً ليس جداراً والوطن ليس حجراً، إنهما جزءان متكاملان، كل منهما يكمل الآخر، فلا قيمة للوطن دون الإنسان، ولا قيمة للإنسان دون الوطن، في قصيدة "البئر" من مجموعة قصائد "فوضى على باب القيامة" يربط الشاعر مفردات الوطن ببعضها مؤكداً أن البئر والسماء والقمر والراعي والأموات والأحياء والأشجار كلها جزئيات الوطن، تكمّل بعضها بعضاً، وتغري الشاعر بالشرب من مائها:
"أختارُ يوماً غائماً لأمرّ بالبئر القديمةِ.
ربما امتلأت سماءً. ربما فاضت عن المعنى وعن
أمثولة الراعي. سأشرب حفنةً من مائها.
وأقول للموتى حواليها: سلاماً أيها الباقونَ
حول البئر في ماء الفراشة! أرفع الطيّون
عن حجرٍ: سلاماً أيها الحجر الصغير! لعلّنا
كنّا جناحيْ طائرٍ ما زال يوجعنا. سلاماً
أيّها القمر المحلّقُ حولَ صورته التي لن يلتقي
أبداً بها! وأقول للسّروِ انتبه مما يقولُ
لكَ الغبارُ... "
في قصيدة "... عندما يبتعد" في مجموعة "أغلقوا المشهد" يريد الشاعر أن يتحدى عدوّه، فيلقي في وجهه ذكريات المكان، ويتحداه بفناجين القهوة التي ما تزال تحفظ رائحة أصابع أصحاب الأرض، قبل أن يخبره أن ابنته _ابنة العدو المغتصب ـ تسلبهم أعمارهم وتعيش عمرها في المكان بدلاً عنهم:
"سلّم على بيتنا يا غريبُ.
فناجينُ
قهوتنا لا تزال على حالها. هل تشمٌّ
أصابعنا فوقها؟ هل تقول لبنتكَ ذاتِ
الجديلة والحاجبين الكثيفين إنّ لها
صاحباً غائباً،
يتمنى زيارتها، لا لشيءِ...
ولكن ليدخلَ مرآتها ويرى سرَّهُ:
كيف كانت تتابع من بعده عمرَهُ
بدلاً منه؟ "
مفردات المنفى وعذاباته:
تجسد صورة المنفى في الأدبيات الفلسطينية حالة يعدّها الفلسطينيون طارئة على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على النكبة الكبرى، وعلى الرغم من أن المشردين منهم اندمجوا إلى حدّ كبير بالمجتمعات التي شُرّدوا إليها، وتزوجوا وأنجبوا في تلك المجتمعات الجديدة، فإذا سألتهم عن الديار الجديدة قالوا إنهم يألفونها، وإذا سألتهم عن فلسطين تغنوا بقول أبي تمام:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منـزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبـداً لأول منـزلِ
موقف من المنفى:
إن الألفة في المجتمعات الجديدة لم تنس الفلسطينيين في المنفى انتماءهم، فإذا نسوه لفترة ما جاءت الانتخابات والمطارات والنزاعات والمعارك الصغيرة والكبيرة التي قد لا يكونون طرفاً فيها لكي تذكرهم أنهم يختلفون عن الآخرين ولأنهم لا يمتلكون وطناً أو بيتاً أو قبراً:
في مقطّعة بالغة الدلالة بعنوان "مطار أثينا" يتوق الشاعر إلى حلم الاستقرار حين يكتشف مرة أخرى في المطار أنه يختلف عن الآخرين الذين يأتون للمطار ويغادرونه لأنهم ببساطة يمتلكون وطناً وانتماءً وجواز سفر:
"كان مطار أثينا يغيّر سكّانهُ كلّ يومٍ. ونحنُ بقينا مقاعدَ فوق المقاعدِ ننتظر البحر، كم سنةً يا مطار أثينا "
ومطار أثينا هنا يشبه كل المطارات التي تتعامل مع العربي الفلسطيني بوصفه (مشروع مجرم، أو مشروع لص، أو مشروع إرهابي) وثمة مثال مشابه في قصيدة "كأني أحبك" إذ يقول الشاعر:
"كانَ المطارُ الفرنسيّ مزدحماً
بالبضائع والناس،
كلّ البضائع شرعيةٌ
ما عدا جسدي
آه.. يا خلفَ عينيكِ.. يا بلدي "
وفي مقطّعة أخرى بعنوان "تضيق بنا الأرض" يتوق درويش إلى إنهاء رحلة النفي التي تنقله من مكان إلى آخر:
"تضيق بنا الأرض. تحشرنا في الممرّ الأخير، فنخلع أعضاءنا كي نمرّ
وتعصرنا الأرض. يا ليتنا قمحها كي نموت ونحيا (...)
إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرةِ؟ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرةِ؟ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير "
وثمة فكرة مشابهة يطرحها درويش بشكل آخر ليدلل على حب الفلسطيني للاستقرار وعدم قدرته على المزيد من السفر؛ وكنا قد أشرنا سابقاً إلى مقطعة "لا شيء يعجبني" من مجموعة مقطعات "في شهوة الإيقاع" إذ يتحدث الشاعر عن مجموعة مسافرين في الباص، لا يعجبهم شيء، لذلك فهم متمردون ناقمون، ولكنهم لا يشعرون بنعمة الانتماء، يتمنون الرحيل نحو الأمل المجهول
"لا شيئ يعجبني"
يقول مسافرٌ في الباص – لا الراديو
ولا صحف الصباح، ولا القلاع على التلال.
أريد أن أبكي
يقول السائق: انتظر الوصول إلى المحطّة،
وابكِ وحدَك ما استطعتَ
تقول سيدةٌ: أنا أيضاً. أنا لا
شيء يعجبني. دللت ابني على قبري،
فأعجبه ونام، ولم يودّعْني
(...) يقول السائق العصبيّ: ها نحن
اقتربنا من محطتنا الأخيرة فاستعدوا
للنزول...
فيصرخون: نريد ما بعد المحطة،
فانطلق!
أما أنا فأقول: أنزلني هنا. أنا
مثلهم لا شيء يعجبني، ولكنّي تعبتُ من السفرْ "
وفي قصيدة "أربعة عناوين شخصية" يقدم الشاعر رؤية مشابهة تقريباً في المقطع الثاني من القصيدة (مقعد في قطار)، فيشكو الرحلة الدائمة التي لا تستطيع الوصول إلى مستقَرّ:
"قطارٌ سريعٌ يقصّ البحيرات. في كلّ جيبٍ مفاتيحُ بيتٍ وصورةُ عائلةٍ. كلّ أهلِ القطارِ يعودون للأهلِ. لكننا لا نعودُ إلى أيّ بيت "
إن الانتماء في الأدب الفلسطيني هو انتماء للمكان بالدرجة الأولى.. والمنفيّ ينظر دائماً إلى "هناك". والـ "هناك" تعني للمشردين فلسطين بكل تفاصيلها، في مقابل الـ "هنا" التي تعني النفي والقهر والتشريد واستلاب الهوية.. وهذا المعجم المؤلف من كلمتين تنقلب دلالاته إلى ضدها حين يتحدث الأديب في الداخل عن الـ"هنا" إشارة لفلسطين والـ "هناك" دلالة على المنفى.
في فلسطين يصرخ الشاعر أن الحياة "هنا" وفي خارجها يؤكد أن الحياة "هناك". في حالة حصار، يعيش الشاعر تجربة الحصار الإسرائيلي في رام الله فيقول:
"على طللي ينبت الظلُّ أخضرُ
والذئب يغفو على شَعر شاتي
ويحلم مثلي،
ومثل الملاكْ
بأنّ الحياةَ هنا
لا هناكْ... "
إن الحياة "هنا" لا "هناك" على الرغم من قسوة الحصار، لأن السجن في الوطن أكثر حرية من الفضاء خارجه.. وفي واحد من أجمل مقاطع محمود درويش وأعمقها دلالة، يقول في قصيدة "كان ما سوف يكون" المهداة إلى راشد حسين:
"والتقينا بعد عامٍ في مطار القاهرهْ
قال لي بعد ثلاثين دقيقة:
ليتني كنتُ طليقاً
في سجون الناصرهْ "
وفي مقطع بعنوان "أنا من هناك" يؤكد المنفيّ في شخصية درويش انتماءه المكاني للـ "هناك" الذي يصور كل ما فيه من ذكريات تؤثث المكان، وتنزل ظلالها الدلالية على قلب الفلسطيني برداً وسلاماً، لأنها تثير في قلبه جمراً من الشوق لا ينطفئ:
"أنا من هناكَ، ولي ذكرياتٌ، ولدتُ كما تولَدُ الناسُ. لي والدهْ
وبيتٌ كثير النوافذ. لي إخوة. أصدقاءُ. وسجنٌ بنافذةٍ باردهْ
ولي موجةٌ خطفتها النوارسُ. لي مشهدي الخاصُّ. لي عشبةٌ زائدهْ
ولي قمرٌ في أقاصي الكلام، ورِزقُ الطيور،
وزيتونةٌ خالدهْ "
عذابات المنفى:
ولأن حالة التوافق والتآلف بين الفلسطيني الشريد ومحيطه معرضة للاختلال، فإن الخوف منه يبقى في كثير من المجتمعات أمراً مبرراً ومشروعاً، من وجهة نظر السلطات والمطارات وحراس الممرات، مما يحدو بكثير ممن يؤثرون السلامة المؤقتة أن يرموه مع رمز منفاه. في قصيدة "أحمد الزعتر" يقول درويش:
"لم أغسل دمي من خبز أعدائي
ولكنْ كلّما مرّت خطايَ على طريقٍ
فرّت الطرق البعيدة والقريبة
كلما آخيت عاصمةً رمتني بالحقيبة "
وفي قصيدة "رسالة من المنفى" صورة أخرى من صور المأساة: إنها رسائل المشردين إلى ذويهم التي كانت تبثها الإذاعة، وهذا موضوع أثير في الأدب الفلسطيني عموماً . يخاطب محمود درويش يخاطب أمه بقوله:
- "أقول للمذياع.. قل لها أنا بخيرْ
أقول للعصفورِ
إن صادفتَها يا طيرْ
لا تنسني، وقل بخيرْ
أنا بخيرْ
أنا بخيرْ "
لقد أقصت تجربة المنفى الفلسطيني الشريد عن أرضه، وطعنت إنسانيته، ونقلته من الزراعة في الحقل القريب، إلى غسل الصحون في المطعم الغريب، ومن البسمة التي تملأ وجهه وهو ينظر إلى الأشجار إلى البسمة التي يلصقها فوق وجهه إرضاءً للزبائن:
- "تصوريني.. صرتُ في العشرينْ
وصرتُ كالشباب يا أماه
أواجه الحياهْ
وأحملُ العبء كما الرجال يحملونْ
وأشتغلْ
في مطعمٍ وأغسل الصحون.
وأصنع القهوة للزبونْ
وأُلصِقُ البسْماتِ فوق وجهيَ الحزينْ
ليفرح الزبونْ "
العبور ـ الرحلة ـ الجسر:
أما البرزخ الذي صورته الأدبيات الفلسطينية فهو رحلة العبور من المنفى نحو الوطن، وهي رحلة لها آلامها وآمالها، ونهايتها المفتوحة على أكثر من احتمال؛ ولعل قصيدة "الجسر" التي تتحدث عن مأساة ثلاثة من العائدين تروي جانباً مهماً من المأساة ، والنهر مكان معادٍ مدجج بحرس الحدود:
"حرس الحدود مرابط، يحمي الحدود من الحنين "
ويدفع العائدون الثلاثة الثمن/ ثمن حلم العودة: رجلان يموتان بالرصاص، وفتاة مغتصبة ممزقة الثياب، أما جسر العودة فما زالت ماؤه تزداد احمراراً.
وفي قصيدة "IV منفى (2) ضبابٌ كثيف على الجسر" ثمة ما يحيل على القصيدة السابقة على الرغم من بعد الفترة الزمنية بينهما:
"مشينا على الجسر عشرين عاماً
مشينا على الجسر عشرين متراً
ذهاباً إياباً،
وقلتُ: ولم يبقَ إلا القليلْ
وقال: ولم يبقَ إلا القليلْ "
والذي يجمع بين القصيدتين ذلك التفاؤل الذي يتم التعبير عنه في القصيدة الثانية بشكل أقل مأساوية، وربما يكمن الفرق الحقيقي في اختلاف مرحلتين: الأولى مرحلة الحديث عن النضال والثانية مرحلة الانشغال بالحديث عن السلام، والمهم هنا أن الشاعر لم يفقد البوصلة، وأن الجسر ما زال يعني جهة العبور نحو الحياة. في قصيدة "نمشي على الجسر" يقول درويش:
"لدى غدنا ما سيكفي من الوقت، يكفي
لنمشي على الجسر عشرَ دقائق أخرى،
فقد نتغيّرُ عمّا قليلٍ وننسى ملامحَ
ثالثِنا/ الموتِ، ننسى الطريق إلى البيتِ
قربَ السماء التي خذلتنا كثيراً،
خذيني إلى النهر، با أجنبيّةُ،
قد نتغيّرُ عمّا قليلٍ، وقد يحدثُ
المستحيلُ "
وفي قصيدة "مأساة النرجس ملهاة الفضة" ثمة عبور ما نحو الوطن، رآه بعض المثقفين عبوراً ناقصاً، ورآه الشاعر بداية لتحقيق الحلم الكبير، حلم العودة:
"عادوا..
من آخر النفق الطويل إلى مراياهم.. وعادوا
حين استعادوا ملح إخوتهم، فرادى أو جماعاتٍ، وعادوا
من أساطير الدفاع عن القلاع إلى البسيط من الكلامْ
لن يرفعوا من بعدُ، أيديهم ولا راياتهم للمعجزات إذا أرادوا
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم، ويرتبوا هذا الهواء
ويزوجوا أبناءهم لبناتهم، ويرقّصوا جسداً توارى في الرخامْ
ويعلقوا بسقوفهم بصلاً وباميةَ وثوماً للشتاءْ
وليحلبوا أثداء ماعزهم، وغيماً سال من ريش الحمامْ "
الأرض وفلسفة التراب:
الأرض مفردة مكانية أثيرة جداً في شعر درويش، تتردد إلى جانب مرادفاتها: الوطن، والتراب، وتظهر في سياقاته الشعرية بكثافة شلال لغوي متدفق، يبدأ مع بداية مشروعه الشعري ويستمر معه حتى الكلمة الأخيرة. في قصيدة "يوميات جرح فلسطيني" وهي واحدة من أشهر قصائده، تضم رباعيات موجهة إلى فدوى طوقان، حضرت الأرض ذلك الحضور الطاغي الذي يشي بعلاقة مميزة بين العاشق ومعشوقته:
"هذه الأرض التي تمتصّ جلدَ الشهداءْ
تعدُ الأرض بقمحٍ وكواكبْ
فاعبديها!
نحن في أحشائها ملحٌ وماءْ
وعلى أحضانها جرحٌ.. يحاربْ "
إنها الملح والماء.. إنها الحياة التي يريد مزوّرو التاريخ استلابها، من خلال كذبهم وادعاءاته، وها هو ذا يخاطب فدوى طوقان:
"عالمُ الآثار مشغول بتحليل الحجارهْ
إنّه يبحث في عينيه عن ردم الأساطير
لكي يثبتَ أنّي:
عابر في الدرب لا عينينَ لي!
لا حرفَ في سفر الحضارهْ!
وأنا أزرع أشجاري على مهلي،
وعن حبّي أغنّي! "
فالشاعر يجابه تزوير التاريخ بزراعة الأشجار، يجابهه بالتفاصيل الحياتية الإنسانية، لأنه يدرك أن الأرض تشبه إنسانها، وأن وجود الفلسطيني فيها أقوى من أن ينتصر عليه التزييف، وهو يؤكد هذا التماثل بين الأرض وإنسانها في قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا"إذ يشير إلى ذلك التشابه الفذ بين تفاصيل سرحان وتفاصيل الوطن:
"من الصعب أن تجدوا فارقاً واحداً
بين حقل الذرهْ
وبين تجاعيد كفّي "
الأرض ملاذاً وانتماءً:
ولأن العلاقة بين الفلسطيني وأرضه قائمة على هذه المعادلة، فإن الفلسطيني يبدو أحقّ بالانتماء إليها من ذلك الغريب الذي لا يعرف أسماء أزهارها، ولا يشعر بنبض تربتها، لذلك يتقمص درويش في قصيدة "جواز السفر" صوت أيوب عليه السلام ليصرخ باسم المعذبين والمحرومين من الانتماء:
"عارٍ من الاسم، من الانتماء ؟
من تربةٍ ربيتها باليدينْ؟
أيوبُ صاح اليومَ ملء السماء
لا تجعلوني عبرةً مرّتينْ! "
لذلك من الطبيعي جداً أن يتمسك الفلسطيني بالتراب حين يعزّ النصير، في قصيدة "أبد الصبار" من مجموعة قصائد بعنوان "أيقونات من بلّور المكان" يحاصر الرصاص الأب والابن معاً، ويطلب الأب من ابنه أن يلتصق بالتراب قبله، "يريد لابنه أن ينجو هو أولاً (...) إنه يريد أن نقل خبرته لابنه، ليعلمه كيف ينجو، ليعود " فيطلق الأب حكمته الخالدة:
"يقول أبٌ لابنه: لا تخفْ. لا
تخف من أزيز الرصاص! التصقْ
بالتراب لتنجو! "
إنها فلسطين "سيدة الأرض، أم البدايات، أم النهايات " لذلك فهي تستحق أن يبذل المرء في سبيلها كل غال ونفيس، لأنه حين يضحي يصبح جديراً بالانتماء إلى ترابها.
ملاحظة: هذه الدراسة جزء من كتاب عنوان
سردية القصيدة الحكائية: محمود درويش نموذجا

وهذا رابط تحميل الكتاب
http://syrbook.gov.sy/