من بدهيات الأمور، أن لغة أيّ شعب من شعوب الأرض هي الحامل لثقافته، وهي المؤرخة والبانية لطموحاته وأمنياته وأمانيه من خلال المنظورات الثقافية والمعرفية.
وهذه حقيقة أدركها الغزاة عبر التاريخ، فكانوا يلجؤون في غزواتهم لطمس لغات الشعوب الأخرى في محاولة لفصل الشعب عن تاريخه وجذوره، وهويته الوطنية والقومية، ثم ابتلاعه.

وكم من أمّة اندثرت عندما فقدت أول مقومات وجودها «لغتها».!
لقد حبانا الله لغة رائعة، غنيّة ثريّة بمفرداتها وموسيقاها، وكرّمها الله سبحانه بأن جعلها لغة القرآن الكريم الباقي على مرّ الدهور والعصور، معجزة الخالق لدين الإسلام العظيم.
لغتنا العربية الفصيحة دليلنا، وحاملة تاريخنا وثقافتنا ومآثرنا، وكم من باحث في اللغات أكد من خلال بحوث ودراسات أنها أمّ اللغات، ومنها استولدت شعوب كثيرة لغاتها، وأسست معارفها.
ومن المفيد أن نذكر بكثير من التدقيق بأن أعداء شعبنا العربي، ودين الإسلام، والطامعين بأرضنا وتراثنا يلهثون جاهدين لطمس معالم لغتنا العربية، وهم يسلكون كل سبيل للتشكيك والتشويه والتزييف، وللأسف يجدون بين ظهرانينا من ينفخ «عن حسن أو عن سوء نيّة» في أبواقهم.
العاميّة «المحكيّة» جميلة، تخضع لخصوصية اللهجات واللكنات، وطبيعة البيئة والوجود والظروف، فتجعلها مختلفة بين مكان ومكان من عالمنا العربي، بل بين مدينة وأخرى في القطر الواحد، وهي «هذه اللهجات» هوية دلالة ليس أكثر، لكن اللغة العربية الفصيحة هي الجامعة تحت لوائها كلّ الناطقين بالضاد، وهي الهوية التي تجمعنا كعرب تحت عباءتها.
نسمع ونستمتع بالقصائد والمقطوعات المكتوبة بالعامية، ولكن عندما تصبح قاعدة، ومسلكاً يطغى على الفصحى، يبدأ الخوف على اللغة الأصيلة.
العامية.. لون محدود من ألوان الفنون، لكنها مؤسَسة على الفصحى وليست بديلة بأيّ حال، وهي لون أدبي جميل، يحمل قيمة تراثية وتوثيقية لمكان محدود، لكن المرعب أنها أصبحت مسلكاً يلجأ إليه فقراء الإبداع استسهالاً وطريقاً قصيراً مختصراً للسعي نحو النجومية الأدبية.
ومن الغريب أن نجد في كل محفل من يصفق بحرارة لقصيدةٍ بالعامية لا ترقى لأيّ مستوى أدبي، بل هي مجرد كلمات خالية من الرتم والموضوع والوزن تأكيداً على أنها طريق للاستسهال ليس إلا، وهنا مكمن الخطورة على اللغة الفصحى.
الحداثة تخرج من قلب الأصالة ولا تلغيها، والعاميّة تخرج من المقدرة على الإمساك بناصية اللغة، وهناك من يحلّق بكتابتها، ولن تجد من المبدعين الحقيقيين الذين يكتبون العامية أحداً لا يتقن الفصحى ويكتبها، ويتقن أو يحمل إلماماً بمبادئ العروض وموسيقا الشعر.
أما ما نتابعه الآن في كثير من المنتديات، فهو تلك الهجمة غير المتّزنة الطاغية بالعامية لأفراد يسمون أنفسهم شعراء، مستسهلين بالعامية غير المحصّنة ولوج عالم الأدب.
هي دعوة للحذر، لنقف بحزم ونقول للمسفّ أنت مسف، ونقول لكل من يعتلي منبراً ثقافياً أن يتمكّن من أدواته، وموهبته، قبل أن يطرب إلى من يطلق عليه صفة شاعر، ويستمع ويقرأ ليتعلم ويصقل موهبته إذا كان موهوباً، ويسترشد بالعارفين والمبدعين لكي يصحح مسيرته الأدبية، ويصعد سلم الإبداع بثقة.
المطلوب من المثقفين الأصلاء، أن يعلنوا كلمة الحقّ بحق ما يقرؤون ويسمعون.
هي مسؤولية ثقيلة تحتاج إلى شجاعة أدبية، لكنها الطريق لا سواها لنحافظ على أصالة اللغة العربية من عبث العابثين.