آبو وخاتون...بقلم آرا سوفاليان
لو أن الانسان يعلم أن الشخص الذي يجلس في مواجهته على درجة عالية من الاهمية، لجلس أمامه دون أن يفارقه لحظة واحدة ولسمع منه كل ذكرياته ووثقها، ولكن تأتي الأشياء الهامة في غير أوقاتها، أقصد ان الموقف يفرض نفسه كأن يجلس مراهق تجاه سيدة اثقلتها المعاناة وعاشت تجارب مروعة وعاصرت الإبادة الارمنية وعرفت الكثير من دقائقها، ويكون هذا التوقيت غير مناسب، ليتضح فيما بعد أن هذا المراهق سيتحول ليصبح باحث في الشؤون الارمنية، فيلتفت الى الوراء ليجد أن هذه السيدة قد توفيت قبل ان يحقق هذا الباحث المنفعة الكاملة عن طريق مشاركتها ذكرياتها...فيندم لأنه أضاع ما اضاعه من الوقت دون أن ينصت لها.
في العام 1967 كان عمري 12 سنة وكانت لي جدتان من طرف أمي، أما جدتي لوالدي فلقد كانت قد غادرت هذا العالم قبل أن اولد...كنت أعلم أن جدتي لوالدتي هي مارين بوغوص القس الخوري وكانت قاسية وقوية، وجدتي الثانية هي ليست جدتي بل جدة أمي لأمها وكان اسمها فريدة ملّوح، وكانت تعيش في ماردين(أرض سورية محتلة منذ العام1915 وتقع الى الشمال من مدينة الحسكة، وقد تم قتل معظم سكانها من السريان والارمن والكلدان وتم تهجير البقية الباقية منهم، وبعد انتهاء الحرب الاولى عاد بعض سكانها فاكتشفوا استحالة العيش فيها بسبب ضياع املاكهم وبيوتهم واراضيهم وبسبب تحرش الاكراد ببناتهم، وتولى كمال اتاتورك عملية طردهم الى سوريا بشكل نهائي).
كانت هذه السيدة سليلة الحسب والنسب فوالدها من عائلة ملّوح ووالدتها من عائلة الناشف، وكانت في طفولتها تذهب مع والدتها الى الحمّام وتصحبها مرضعاتها، ومربياتها، وخادمات دار أهلها وكانت تجلس على حصان أبيض وفي شعرها بطة أم من الذهب ومعها فراخها والكل مشغول من الذهب ومشبوك بشعرها الذهبي أيضاً وكان موكب هذه الطفلة المولودة في العام 1897 يتحول الى مهرجان للفرجة فلقد كانت الناس تخرج من بيوتها لتتفرج على البنت وأمها في معرض ذهابهم الى حمّام السوق.
تزوجت فريدة ملّوح من الاقطاعي حنا بغا (بوغوص...واسم بغا هو اختصار لأسم بوغوص الأرمني وعلى الطريقة الكردية لدرئ شرور الاتراك والاكراد) وكان ثرياً ويملك أراضٍ ويعمل في تطبيب الخيول وله شقيق درس الهندسة المدنية في النمسا ويتحدث الالمانية بطلاقة وعاد ليصمم دارة آل بغا في ماردين...وفي العام 1914 وكان الألمان يسعون لتوريط تركيا في الحرب العالمية الاولى لتحارب في جهة دول المحور وألمانيا على رأسهم، فارسلوا جيوش من ألمانيا وضباط مدفعية ومشاة لتدريب الجيش التركي وكتائب من المهندسين والخبراء المهرة لمد سكة حديد خط الشرق السريع وكان في جوار ماردين معسكر ألماني يحوي جنود ألمان وأتراك وورشات صناعية متخصصة بالقطارات ومستلزماتها وكان المسعى مد السكك الحديدية الى العراق مروراً بكوت العمارة وبغداد والى البصرى، وكان لآمر المعسكر الألماني في ماردين حصان أصيل وكان هذا الضابط متعلق بحصانه الى درجة كبيرة، وفجأة مرض الحصان ولم يعد يقوى على النهوض وفشل الطبيب البيطري العائد للمعسكر في انقاذ الحصان ونصح بقتله، واقترح بعض الجنود وبعض العمال من المنطقة أن يتم عرض الحصان على البيطري المحلي حنا بوغوص، وتم استدعاء حنا بوغوص الذي تعهد بإنقاذ الحصان، وبدأ بمعالجته مستخدماً الطب العربي، ونهض الحصان بعد اسبوع، وكاد صاحبه ان يصاب بالجنون، ورفض حنا أن يتقاضى أي أجر، ونشأت صداقة ما بين الضابط الالماني وبين حنا بغا بوغوص، وسرعان ما تبين أن حنا بحاجة ماسة لهذه الصداقة فلقد استخدمها ليتجنب الترحيل فلقد فرضت الحكومة فترة ثلاثة أيام يتم بعدها ترحيل قسم من سكان مدينة ماردين وعائلة بغا منهم في سوقيات، وذهب حنا الى المعسكر الالماني لمقابلة صديقه آمر المعسكر الذي أشار عليه ان يسكن مع أهل بيته داخل المعسكر وعند ذلك سيكون في حماية الألمان، وفعل حنا ما طلب منه وجاء بزوجته فريدة وابنتيه زهية ومارين وسكن في خيمة تقع في مدخل المعسكر والى جانب الاسلاك الشائكة التي تفصل المعسكر عن الطريق، وكانت السوقيات التي تحوي الارمن المحكومين بالموت تمر خارج المعسكر، وفي يوم شديد الحرارة كانت فريدة تنشر الغسيل فلمحت فتاة صغيرة تحمل قدراً صغيراً من النحاس وتقف في مواجهة الاسلاك الشائكة قرب الخيمة، فلهف قلب فريدة لهذه الطفلة وهرعت للبحث عن زوجها حنا في المعسكر وعندما عثرت عليه طلبت منه ان يخرج من المعسكر لإصطحاب الصغيرة فخرج حنا وعاد ومعه الطفلة وبيدها القدر النحاسي وهي تمسك يده اليمين وولد صبي يبلغ السابعة من العمر حافي القدمين يمسك يده اليسار ودخل بهما الى المعسكر، وتحدثت الطفلة بالارمنية ثم أدركت أن السيدة لا تعرف الارمنية فحدثتها بالتركية فكانت نفس النتيجة لأن السيدة فريدة ملّوح لا تعرف غير العربية مثلها مثل أهل ماردين جميعاً، فاضطرت الطفلة الى استخدام لغة الإشارات وأفهمت السيدة فريدة ملّوح انها جائعة وستعطيها القدر النحاسي في مقابل الطعام، فحملت فريدة الطفلة الجميلة وقبلتها وبكت، وسألت عن الطفل فأجابها زوجها أن الطفل كان يقف قريباً من الطفلة وكان ينتظر النتيجة بحيث ان نجح مسعى الطفلة فإنه سيزج نفسه هو ايضاً، ويبدوا أنه قد حزم أمره لحظة وصول حنا الذي اسطحب الاثنين معاً الى خيمته.
فرحت فريدة بالطفلين وأطعمتهما وأدخلتهما الحمّام العائد للمعسكر وتدبرت لهما الكساء والحذاء والسرير، وصاروا من افراد العائلة وتحت حماية آمر المعسكر.
أشارت السيدة فريدة لإبنتها مارين وقالت للطفلة الأرمنية هذه مارين وأشارت الى نفسها وقالت أنا فريدة واشارت للصغيرة وقالت لها وانتِ؟ وادارت لها يدها المفتوحة ربع دائرة فأجابت الصغيرة خاتون ووضعت يدها اليمنى على صدرها وقالت خاتون (وخاتون كلمة ليست أرمنية بل تركية وكانت بعض الاسر الأرمنية لا تجد أي حرج في أن تسمي بناتها بأسماء تركية مثل خاتون وجميلة وشيرين وجهان بسبب التجاور بين الشعبين الأرمني والتركي الذي يمتد لسنين بعيدة، وأشارت فريدة الى الصبي وسألت خاتون وهذا؟ فمدّت خاتون شفتها السفلى الى الامام ففهمت السيدة فريدة ان خاتون لا تعرف هذا الصبي وهو ليس شقيقها فأشارت إليه أن ما هو اسمك فقال لها آبو وآبو هو تصغير اسم ابراهام أي إبراهيم.
وعاشت خاتون ومعها آبو في هذه الخيمة لمدة عام كامل وتعلقت فريدة وابنتيها بخاتون التي كانت تعاون الأسرة في الاعتناء بالبيت وفي الطبخ والغسيل وكل الأعمال المنزلية على الرغم من صغر سنها في هذا المكان الغريب الذي لا يشبه البيوت بالمطلق، وتعلق حنا بآبو الذي كان يخرج مع والده للعمل في تطبيب الاحصنة العائدة للمعسكر وللباشوية الاتراك والاكراد، وفي يوم غير متوقع جاء كردي يعرف المرضعة طاطا التي تولت ارضاع مارين واختها زهية في الصغر، وتحدث مع فريدة وسألها عن الولدين الغريبين فقالت له بطيبتها أنهم من اولاد الأرمن من السوقيات، وكان قد صدر فرمان يمنع ايواء أطفال الارمن تحت طائلة الموت، فذهب هذا الكردي وأخبر مخفر الشرطة بأن حنا بغا بوغوص وزوجته يؤويان طفل وطفلة من الأرمن، ووصلت دورية من الدرك قابلت آمر المعسكر، الذي بذل جهده للإبقاء على الأولاد ففشل، وبذل حنا رشوة كبيرة للدورية ففشل أيضاً، وبعد صد ورد استمر ثلاثة أيام وصل أمر بالبريد العسكري من القيادة الالمانية يفرض على آمر المعسكر أن لا يتدخل بعمل السلطات التركية، وعادت دورية الدرك ومعها أمر بالتحفظ على آبو وخاتون وودعتهما فريدة وابنتيها وهم يبكون ويلطمون وجوههم ووضعت الام الثانية زوادة طعام بيد آبو ومثلها بيد خاتون ويبدوا أن الطفل والطفلة لم يتذوقا لقمة واحدة من هذه الزوادة أبداً، حيث تم ذبحهما بعد أول منعطف، فلقد كانت الوحشية الغير مسبوقة قد جردت من قلوب الوحوش الكاسرة الجائعة وحقنت بدماء الاتراك في تلك الايام المروعة كانوا يقتلون الارمن الكفار وهم يعتقدون بأنهم كانوا يقدمون خدمة نقية خالصة لوجه الله تعالى.
انكسر الاتراك في الحرب وانكسر الالمان ايضاً وعادوا ادراجهم الى بلدهم خائبين، وعاد حنا بغا بوغوص الى داره مع زوجته فريدة وابنتيه مارين وزهية بحماية أولاد المرضعة الكردية طاطا وهم من التشاتا ولكنهم كانوا لا يجرؤون على مخالفة أوامر والدتهم التي ارضعت مارين وزهية عامين كاملين وكانت تعتبرهن بناتها، وتحرش بعض الاكراد بمارين وزهية وحاولوا خطفهن فتدخلت طاطا مع اولادها لحماية عائلة بوغوص وكانت طاطا تحمل السلاح وتركب الحصان مثلها مثل أولادها، وفي بدايات العهد الكمالي أيقن حنا بوغوص بإستحالة العيش بالنسبة للمسيحيين في تركيا، وسرت شائعة بأن هناك تسهيلات من الحكومة ستقدم لكل اسرة مسيحية تريد مغادرة تركيا، وضاع الأمل الأخير بأن عهد كمال اتاتورك سيكون عهد الاصلاح حيث تبين أن التعايش لا زال مستحيلاً على الرغم من القوانين الجديدة التي لم يهتم لها أحد، وأسرّ حنا بمكنونات قلبه لطاطا واولادها فلقد كان يريد مغادرة تركيا عبر الحدود السورية من جهة الحسكة، وخرجت طاطا في المقدمة على الفرس وخلفها أولادها وكانوا جميعاً مسلحين وفي الخلف عائلة حنا بوغوص في عربة يجرها حصانين ويقودها رب العائلة، ووصلوا الى الحدود فاكتشفوا عدم وجود أية تسهيلات، لأنه لا توجد امكانية لاخراج أي شيء، فأعطى حنا الى طاطا صرة فيها ما بقي من ذهب فريدة وابنتيها وبعض المال، وتولى بعض الضباط مصادرة العربة والحصانان اللذان يجرانها ولم ينجح أولاد طاطا في مسعاهم للاحتفاظ بها، وفي النهاية وقبل خط العبور تولى دركي تركي مغمور وبعد ان ادرك بأنه خرج من المولد صفر اليدين وبدون مغنم، مصادرة القدر النحاسي الصغير الذي جلبته خاتون الى عائلتها الجديدة، وفيه كيس طحين صغير كان يحملهما حنا، الذي طلب من ابنته مارين التي تعلمت بعض الكلمات التركية من خاتون ان تترجى الدركي بأن يتركهما لهم، وتحدثت مارين مع الدركي وتوسلت إليه، ان يترك لهم القدر وما فيه، ولكنه رفض وكان يصرخ في وجه الصغيرة ويقول لها: قولي لأهلك ان مال تركيا لن يخرج من تركيا أبداً...وركض ابن طاطا الاكبر ليقدم الخدمة الأخيرة لهذه العائلة المنكوبة، ووضع في يد الدركي شيء من النقود وقال له بالتركية هذا أغلى بكثير من ثمن هذا القدر المهتريء والطحين الذي فيه، فوضع الدركي المال في جيبه وسمح بأن يخرج مال تركيا من تركيا.
وكانت السيدة فريدة ملوّح تقص هذه القصة على والدتي جانيت الخوري في احدى ليالي صيف العام 1967وتبكي، وكنت اجلس على مقربة أصغي بإهتمام، وأكدت لي والدتي فيما بعد أن السيدة فريدة ملّوح أعادت على مسامع أمي قصة آبو وخاتون عشرات المرات وكانت في كل مرة تبكي وتقول بلهجتها الماردينية (أش آبو وأش خاتون).
وكبرت السيدة فريدة ملوح وتم التخلي عنها بعد أن توفى حاميها وهو صهرها (جدي لوالدتي عفيف حنا القس)، وارسلت الى مأوى العجزة في لبنان وكانت في حدود الثمانين من العمر...وحلقوا لها شعرها فبكت كثيراً لأنها حافظت على شعرها الابيض الطويل سنين كثيرة و اجبروها على التخلص منه لأسباب صحية تفرضها قوانين المأوى، وتوسلت الى القائمين على المأوى فلم ينصتوا ولم تشفع لها نظافتها، وذهبت أمي ومعها إخوتي الى لبنان ودخلوا المأوى لزيارتها فاحتارت في امرها تريد اخفاء ما حدث لشعرها وتريد الترحيب بهم وتريد بعض الضيافة لتحتفل بمجيئهم فلا تجدها، وتلعثمت الكلمات في فمها ونسيت اسماء اخوتي، وانتهت الزيارة، وعادت امي الى دمشق حزينة يائسة...وبعد بضعة شهور أشرقت شمس الصباح في دار العجزة في لبنان وكانت السيدة فريدة ملّوح في سريرها بلا حراك.
وبحثت والدتي في دار أهلها عن القدر النحاسي الذي أحضرته خاتون معها ووقفت وهي تحمله قرب الاسلاك الشائكة في المعسكر الألماني في ماردين، فلم تجده، وعرفت ان هناك من تخلص منه، بعد أن لم يبق على قيد الحياة أحد ممن جاء بهذا القدر من ماردين الى دمشق فلقد توفيت جدتي مارين التي كانت تحافظ على هذا القدر كمحافظتها على عينيها، وتصونه لأنه ذكرى من شقيقتها خاتون التي أعدمها الاتراك حياتها بذبحها مع آبو بعد أول منعطف.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق 13 05 2013
arasouvalian@gmail.com