حوار من القلب مع الكاتب العربي المتألق سمير الفيل
أدب الحرب مادة سردية لا تعنى بالقشرة الخارجية للأحداث
[overline]


أجرى الحوار : هشام بن الشاوي[/overline]




* * بعيدا عن الاستهلالات السيرذاتية، المتجاوزة.. من هو سمير الفيل، الذي لا يعرفه أحد ؟



* سمير الفيل حسب المرايا التي تعكس بعض الزوايا الممكنة في حياته وكتاباته هو شخص بسيط إلى أقصى حد ، يحب أصدقائه حبا عارما ، ويعتقد أن طلوع شمس يوم جديد هو احتفاء حقيقي بالحياة . يدرك منذ بداية تعرفه على تلك الحياة أنها لا تخلو من مكابدات ومنغصات على الإنسان أن يعمل على تجاوز عثراتها، والتصالح مع نقائضها .
كاتب غزير الإنتاج جدا ، يعتقد أن الكتابة فعل استثنائي يكمل دائرة الجهد الإنساني المخلص ، وهي رهانه الأوحد . يقبل على تلك الحياة إقبالا منقطع النظير ، ويعتقد أن مهمته في الكون ـ وربما مهمة غيره ـ أن يدفع عجلة الحياة باتجاه سعادة البشر ، وتجاوز النقص البشري الفادح الذي هو لصيق أنفاس الكون .
بدأ الكتابة هاويا ولا يزال ، ولديه هاجس الموت هو الأقوى لذا فالكتابة فعل مقاومة واستمرار لتلك الحياة باللغة التي هي البدء ، وهي المنتهى حسبما يعتقد .


** لمن تكتب ؟ وماهي طقوسك في محراب الكتابة؟


* أكتب لقاريء أتوقعه ، صديق لي أو جار أو زميل ، وربما لإنسان يقطن بعيدا عني لكنه يشاركني مأزق الوجود . أكتب ربما لأعيد اكتشاف الحياة ، ولكي أفك شفرتها الملغزة . هذا احتمال قوي جدا ووارد . لكنني قد أكتب لمتلقي يأتي في المستقبل ومن رحم الغيب فتكون كتاباتي هي شهادتي حول العالم الذي عشته ، وفي ظني أن الكتابة موقف واختيار ، ومالم يكن الكاتب متسلحا برؤية ما ناصعة وراسخة فمصير كتاباته إلى زوال .
لا طقوس لي في الكتابة بالمعنى الحرفي غير أن أغلق الباب ورائي وانفرد بالأوراق وقلمي الأسود ، وأظل في صراع مع ذاتي حتى أخط عباراتي الأولى وأشعرأنني قد تغلبت على البياض فأمضي لا ألوي على شيء . أغلب نصوصي كتبتها في جلسة واحدة ، وأحيانا في جلستين ، لكنني لا أترك النص قبل أن أتمه وإذا حدث أن تركته وعدت له ثانية بعد حين من الوقت أجد أنه قد أصبح غريبا عني ؛ فقد بردت ناره وأحسست معه بالضيق ، لذا أتصنت لموسيقاه وأتتبعها وأحافظ على هذا الإيقاع الفريد الذي يمسك بيدي من لحظة البداية المشوشة الغامضة وحتى لحظات انبثاق النور ومجيء الشهاب الذي يبدد العتمة تماما .
أهتم في كتاباتي بالناس . هؤلاء البشر العاديون ملح الأرض ، والذين يجاهدون من أجل لقمة عيش نظيفة ، وكرامة موفورة ، ورأس شاخصة للأعالي . كم أحببتهم ورأيت أن أنحاز إليهم عبر كتاباتي .
ربما كانت تجاربي الأخيرة في السرد محاولة حقيقية للولوج إلى عوالم هؤلاء الناس الطيبين الذين يحبون الحياة بصدق وعفوية لأن الله سبحانه وتعالى بث في قلوبهم هذا الحب الرائع الدافيء الحنون ، فكانوا جديرين بهذه المنحة الإلهية السرمدية .


* معظم المبدعين يكتبون محاولات شعرية في بداياتهم .. حدثنا أستاذ سمير عن بداياتك؟



* * لقد بدأت شاعرا ، وبالتحديد عندما كان عمري 17 سنة ووطد هذا الاختيار أن قصيدتي والتي كان عنوانها " المطبعة " أختيرت من أهم قصائد المرحلة ومنحت شهادة تقديرفي مؤتمر الأدباء الشبان بالزقازيق سنة 1969 .
في سنة 1974 كانت أول قصة مهمة لي ، وفي نفس السنة كتبت المسرح ، وشاغلتني الأغنية فحدث عام 1979 أن أعلن عن مسابقة قومية للأغنية وحازت أغنيتي " عيون البنت طلة " على المركز الأول ، وكان رئيس لجنة التحكيم هو الموسيقار الكبير مدحت عاصم .
مع صدور مجلة " إبداع " حمل ابراهيم عبدالمجيد الروائي المشهور قصة لي اسمها " الساتر " لتنشر في " إبداع" بدلا من مجلة " الثقافة الجديدة" دون أن يعرفني لأنه أعجب بالنص ، وهذا جميل لا أنساه لصاحب " لا أحد ينام في الأسكندرية " . وقد رأى الدكتور عبدالقادر القط ان ينشر لي الدراسات النقدية ، ومنها دراسة علامة هي " النيل في شعر امل دنقل " سنة 1982 وكان معجبا بها ماعدا مرة ثار عليّ لجملة وردت في مقال عن الشاعر الراحل والمسرحي د. أنس داود حين اتهمت النقاد بعدم متابعة الإنتاج الجديد فلامني على ما كتبت .
لكن سلسلة القصص التي نشرت في " إبداع " من خلال طابع البريد كانت هي عتبتي نحو السرد، وبكل صراحة لا أجد في تنويع الكاتب لإبداعاته نوعا من القصور .أقول أنني أخلص للنوع الأدبي الذي أمارسه لحظة الكتابة وأنسى كل شيء سوى فنياته ،. لكنني ومنذ حوالي ست سنوات رميت بكل ثقلي في حقل القصة القصيرة لأن التجاوب كان كبيرا وإيجابيا سواء من الجمهور أم من النقاد .


** يكتب سمير الفيل الشعر والقصة والرواية والنقد.. أين تجد نفسك وسط هذه الحقول المنفصلة – المتصلة؟


* أجد نفسي حيثما يكون النص ناجحا وقادرا على إثارة ذهن المتلقي والتوغل نحو ذاكرته والاشتباك بحميمية مع هواجسه . لقد اخترت الشعر مبكرا ؛ لأنه في الحقيقة عبارة عن كيمياء ألفاظ ونسق لغوي ساحر ، وإعمال للمخيلة ، وفيه أيضا شذرات من الواقع .
حين جندت بالكتيبة 16 مشاة بالجيش المصري وجدت وقائع وحكايات يندر أن تمر بها في أمكنة أخرى ، وتجارب يصعب أن تقبض عليها إلا بحس الحكاء الفطري . كان علي أن أدون في مذكرات متقشفة وفقيرة بعض ما رأيته على جبهة قناة السويس أو داخل سيناء . وجدت تحت يدي مادة خصبة وسرية يمكن أن أشتغل عليها لأكتب عن الإنسان كما رأيته : قويا ومزهوا .. مرتبكا وضعيفا .
الشعر يمس المشاعر مسا سريعا ، يؤمن باللمسة المسرعة المباغتة ، أما السرد ففيه مساحات واسعة للحكي ،وحفر في جيولوجيا النفس البشرية ، وقد جربت الأمر فوجدت التأثير قويا وساحرا .
يكفي التذكرة بأن أول نص سردي أكتبه في حياتي كان اسمه " في البدء كانت طيبة " وهو عبارة عن حكاية هزيمة الهكسوس على أيدي الفراعنة العظام . وأقصد بالفراعنة هنا البشر العاديين الذين كان الوطن يعني لهم غيط الحنطة وبيت الأم ، ومرقد " حابي " النيل العظيم . غصت في تفصيلات برديات فرعونية ترجمها لنا العلامة الدكتور سليم حسن في سلسلة كتبه عن مصر القديمة ، وكتبت النص .
حين أعلنت النتيجة فوجئت بنفسي فائزا بالمركز الأول ، ونشرت القصة في مجلة شهيرة هي " صباح الخير " ، وأخذتني الدكتورة درية شرف الدين لأسجل برنامج " تحت العشرين " . بمعنى آخر ضبطت نفسي ساردا ، وقد كان.
لم أترك الشعر جزئيا إلا بعد أن تعرفت على شبكة الأنترنت وطرحت عددا من النصوص السردية لاقت استحسانا كبيرا ، وقتها همست لنفسي : يجب أن تكون مخلصا للسرد أكثر من أي وقت مضى . وهذا لم يمنع من كتابتي أشعار مسرحيات عديدة لأن المخرج الطليعي ناصر عبدالمنعم أكتشف أن الحاسة الدرامية في شعري بقيت على الدوام متيقظة .
وأخيرا : كيف أصنف نفسي ؟
هذا ما أتركه للنقاد ، وأقولها بخجل أن الناقد الدكتور كمال نشأت وقف في ندوة باتحاد كتاب مصر ـ وللأسف لم أكن حاضرا ولكن نقل لي ماقاله ـ وصاح : هذا الكاتب يحذو خطو تشيخوف !
وبقدر ما مستني قشعريرة حين قرأت العبارة منشورة بقدر ما أعدت قراءة الكاتب الروسي العظيم من جديد لأتأكد أن لا أحد يمكنه أن يوازيه أو يجلس على مقربة منه.
وربما كان علي أن أضيف أنني أمر بمراحل تختلف في التركيبة الإبداعية حسبما يكون عطائي ، في بداياتي أتجهت بكليتي للشعر ، في منتصف الطريق ولعقد كامل رميت بثقلي في المسرح ، ومنذ حوالي ست سنوات وقف زورقي على شاطيء السرد وشعرت بدفء المياه وجمال المخيلة التي تسور النصوص التي كانت في الغالب ابنة بحر .



*الحديث عن " أزمة النشر" .. حديث ذو شجون.. موجع ... ماذا تقول لأصدقائك (الأدباء) الشباب وأد باء الأقاليم ...في زمن تكريس تفاهات فقاقيع الصابون ( ممثلون ومطربون من الدرجة العاشرة ) على بلاط صاحبة الجلالة ؟؟..


** سأختلف معك هذه المرة لأزعم أنه لم تعد هناك أزمة نشر مطلقا ، الموجود هو فوضى نشر أدت إلى اختلاط الأوراق ووجود ركام من كتابات جنينية سمح بنشرها دون فحص أو تمحيص .
لقد مررنا في السبعينات بأزمة نشر طاحنة ، وكانت هناك صعوبة في تمرير النصوص الخارجة عن مظلة السلطة ، وربما استطاع أدباء تلك المرحلة من إيجاد حلول لأزمتهم ( مثل الطباعة بالماستر ) .
ما نراه الآن هو غياب المعايير الجادة للنشر ، وتواكب ذلك مع انتشار ظاهرة كتاب الأنترنت ، وبقدر ما كانت التجربة منفتحة على آفاق رحبة ومعطاءة فقد فقدت الأنموذج وهو ما أدى لتجاور الصالح والطالح والترويج لنصوص ركيكة لأقصى حد .
لكن فيما يخص النشر الورقي فمشكلته وإن انفكت جزئيا إلا أنها قد دخلت مسارا جديدا هو الاحتفاء بكتاب السلطة ، وتمرير كتاب غير موهوبين إطلاقا ، ومنحهم مساحات لا يستحقونها من الرعاية والإعلام .
كل هذا موجود وقائم ، وقد يؤخر النصوص الأصيلة عن المتلقي الأمين ، لكنني أقولها بكل صدق : الكتابة الناصعة والصادقة والمتجاوزة ستفرض نفسها بدون أي شك . ربما تتأخر قليلا وتتعثر في منعطف هنا أو هناك لكنها حتما سوف تصل لمكانها اللائق . أتدرون لماذا؟
بكل بساطة لأنه لا يوجد نفاق أو محسوبية أو مجاملة في جوهر الإبداع . إنها منحة ربانية منحها الله لأناس بأعينهم لحكمة يعرفها هو سبحانه وتعالى ، ومن الصعب بل من المستحيل أن يستولي أحد على موهبة غيره . إن حدث هذا فعلا فسيكون عندنا نماذج مثل نجيب سرور وأحمد عبيدة ويوسف القط وهؤلاء لم يتمكنوا من الاحتفاظ بنفسهم الطويل في مقاومة الفاسد والرديء فسقطوا في الطريق مجانين أو مقهورين وهم يكتبون .

** أليس من المحزن أن تجهض الملاحق الثقافية ، وتعدم الصفحات الشبابية ، وتعوض بأخبار سفريات عاهرات الفيديو كليب ، وخصوماتهن مع عشاقهن..... ؟؟



* كنت أظنها ظاهرة مصرية فقط ، فلما ألقيت نظرة متأملة في بعض العواصم التي كانت تصدر ملاحق لها تتميز بالأصالة والجدية صدمني الواقع المر تماما .
لكن تعال معي وتأمل الواقع العربي ولا تفصل الحراك الثقافي عن الوضعية السياسية ، وعن مجمل الوضع الاقتصادي . إن ما يحدث في الثقافة العربية هو بالفعل نوع من محو الثقافة الجادة والوطنية لصالح تيار قوي يغذي التفاهات ، وينتصر للسطحي والعابر والرديء .
وبقدر الوجع الذي نشعر به فهناك حقيقة مؤكدة ، وهي أن الكاتب بطبيعته ضد التنميط والتسطيح ، وهو مشروع فردي وربما كان هذا هو المثير في القضية . كل الكتاب العظام يكبرون وينمون ويصعدون خارج المؤسسة ، وحتى لو اقتربوا منها فسيظل هذا الهاجس الأمني ونقص الثقة ووصف الكاتب دائما بأنه شارد ، وبوهيمي ، ومنفلت العيار لصالح نصه موجودة وتضعه بعيدا عم سلطة اتخاذ القرار .
صحيح أننا فقدنا مشروعا مجيدا لدور الملاحق في تثوير الواقع ونشر الكتابة الجادة ، لكن في المقابل هناك تواجد حي وفعال للثقافة الحقيقية في كافة صورها . أرجوك لا تقلق ، أعرف أن المبدعين بسبعة أرواح !


* هل الصحافة مقبرة الأديب ؟ هل تجني مهنة المتاعب على الكاتب الصحافي المبدع ؟


** سأحكي عن تجربتي الشخصية . بدأت الكتابة في سن صغيرة سنة 1968 تقريبا ، ونشرت قصصي وقصائدي بانتظام منذ العام 1974 . ولم اقترب من الصحافة مطلقا إلا بعد سفري كمدرس في السعودية ، ومنذ الأسبوع الأول التحقت بالعمل في ملحق شهير جدا هو " المربد " الذي كانت تنشره جريدة " اليوم " . وحقيقة الأمر أنني لم أستسلم لغواية الصحافة تماما ، وكنت حريصا على التأكد من وجود تلك المسافة الآمنة التي تسمح لي بالكتابة في أي وقت .
ولقد كان من مكري أن خصصت " دفترا " كبيرا لا أطلع عليه أحد، واسميته " تدريبات شعرية " وكان الغرض منه ألا أسمح بهروب الإيقاع من صدري . كنت قد التقيت قبل السفر مباشرة مع عبدالرحمن الأبنودي ، وتربطني به صداقة مبكرة فاستغرب أن أسافر ، وحذرني من الاستسلام لفكرة انعدام الحاجة للكتابة ، وقبل أيام من سفري إلى الدمام كنت أقف مع الصديق الشاعر حلمي سالم عند لسان رأس البر فأطلق نفس التحذير بصورة مضاعفة ، لذا سافرت حاملا كل مقومات البقاء مبدعا مهما كانت الأجواء ملبدة وقاسية . .
شيء آخر ساعدني في الاستمرار في الكتابة وهو أن أغلب من كان يعمل بالملحق الثقافي لجريدة " اليوم " هم بالأصل شعراء وكتاب قصة وفنانون تشكيليون ، ولذا ظل الهاجس الإبداعي يقظا وحادا . وقد كان من الطبيعي فعلا أن أصمت خلال سنوات الغربة لكن العكس هو الذي حدث، ومن خلال عملي بالصحافة اليومية شعرت بازدهار حقيقي لتجربتي الأدبية ، وتمكنت من تحفيز الكاتب الجواني للشروع ـ كلما وجد فرصة ـ في الخروج عن النمط ، وكسر التوقع فيما يخص مشروعه الإبداعي .
لكن إجمالا مالم يتمكن الكاتب من وضع حدود فاصلة وقاسية بين تجربة الصحافة التي يمارسها ، وبين مشروعه الإبداعي فسيكون عرضة للتسطيح والتكرار والتوقف عن الكتابة تماما ؛ ذلك أن آلة الصحافة غول لا يرحم ، ولها محاذيرها ولوائحها الرقابية المفهومة والتي تقيد خطوط القلم بحذر في البداية ثم إنها ستسكن الحبر نفسه في نهاية الأمر.


* ظاهرة المواقع والمنتديات.. ظاهرة صحية رغم بعض عيوبها.. كالنقد المجاملاتي ..هل يواكب النقد الفيض الإبداعي ورقيا ورقميا؟.. وهل نملك نقدا حقيقيا؟؟



** هذا موضوع مهم وحساس ، وقد كتبت فيه دراسة ألقيتها في قصرثقافة التذوق الفني بمدينة الأسكندرية منذ حوالي عام ، وخلاصتها أن هذه المواقع بقدر ما وفرت للكاتب الجاد والأصيل تقنية حديثة تمكنه من توصيل نصوصه إلى المتلقين بقدر ما جاءت معها بسلبيات عديدة من أهمها الترويج لأنصاف المواهب ، ووجود " النقد الشللي " بمعنى أن تقدم السبت لتجد الأحد في انتظارك ، مع وجود كم هائل من الكتابات الرثة التي لاتحمل قيمة ولا تطرح خطابا واعيا .
وحسب تقاليد الديمقراطية فنحن لا ندعو إلى أي نوع من الرقابة أو المصادرة ، ولكن لابد من البحث عن آلية تحول تلك المنتديات المفتوحة لكل كتابة رديئة إلى أمكنة للإبداع الراقي والمفيد . وأحب أن أنوه هنا أنني لا أدين أجيال الشباب الطالعة فهناك كتاب مسنون وبلغوا من العمر عتيا و يفعلون نفس الشيء .
أما النقد الورقي فبالطبع توجد أقلام نقدية رصينة تحظى بالاحترام ولها مصداقية ، لكن النقد في منتديات الأنترنت كثيره سطحي وتافه ، وهذا لا يمنع من وجود منتديات فيها نقاد محترمون ولهم مصداقية، والعبرة في النهاية بالكاتب الذي يحترم نفسه ويحافظ على تاريخه في هذا الجو المشبع بحس فوضوي . ( لا أميل حاليا لكلمة الفوضى بعد أن قالتها وزيرة خارجية أمريكا بأهمية إحداث فوضى خلاقة في منطقة الشرق الأوسط . مثل التستر على مذابح القتل في قانا وكل انحاء لبنان الشهيدة !! ) .

* سئل الأديب المغربي ،الراحل "محمد زفزاف" عن صديقه الوحيد فأجاب بدملوماسية - هشمت زجاج أفق انتظاري- أنه ..قلمه!! لو طرحت نفس السؤال الماكر على سمير الفيل.. ماذا سيكون رده؟..


* * عندي تجربة في الحياة . أنا واحد من البشر لا أستغني عن الأصدقاء أبدا . وأجد أن أصدقائي المخلصين انتشلوني من محن عديدة . الحياة لا نشعر بجمالها سوى بالأصد قاء
، ولا يمكن أن أتصور مكان ما بدون صداقة حتى في تلك الفترات الاستثنائية كمرحلة التجنيد ، وسنوات الإعارة خارج مصر .
في المقابل استأنس بقلمي ، وأعتبر نصوصي أقرب إلى قلبي من أصدقاء غدروا بي . لكن المحزن في الأمر أننا نعلم ما لدى الناس من نقائص وعيوب ـ ونحن أنفسنا لسنا ملائكة ونحمل عيوبا مثلهم ـ فنمنحهم الفرصة تلو الفرصة لاثبات جدارتهم بتلك المنحة العظيمة ( الصداقة ) فيخذلوننا ، ولا نكف أبدا عن تكرار المحاولة .


* أحب نصوصك إلى قلبك؟


** بالطبع توجد نصوص معينة أحبها وسأحاول أن أتذكرها :
-" مشيرة " هي الأهم في نظري ، لأنها وليدة لحظة صدق كاشفة . ماتت ابنة خالتي التي كانت تصغرني بعامين ، حدث هذا تقريبا منذ عام أو أكثر .
كنا ونحن صغارا نذاكر سويا هي وشقيقها الذي سيصبح طبيبا وأنا . وفي أثناء سيري في الجنازة وهي تشق شوارع وميادين مدينتي دمياط ، ظل شريط من الذكريات ينثال في نعومة وهدوء وخشوع داخل عقلي ، ويلوح لي في حركة تحمل عنفوان الحياة ، وكأنني أزيح الموت بالذاكرة الموجوعة .
وارينا الجثمان المقبرة . عدت للبيت ، أغلقت الباب على نفسي ، وجدت يدي تسرع في الكتابة وأنا لا أستطيع ملاحقتها . كنت أبكي زمن البراءة والطفولة ، ولحظات اكتشاف ما في الكون من جمال . كتبت النص في أقل من ربع الساعة . هذه هي قصة مشيرة التي قدمتني للناس بصورة يندر أن تتكرر
"- مستكة وحبهان وقليل من الصبر "حكاية استمعت إلى تفاصيلها ، لكنني أعدت تشكيلها وكان المكان عندي هو البطل . في هذا النص حاولت أن أقترب من فكرة الحب ، والصراع بين الواجب والعاطفة ، وتلمست ملامح ربما فيها لمسة تراجيدية .
كانت الشخصية المحورية لفتى رافض متمرد ، وكانت الفتاة صادقة مع نفسها فهي لا تريد أن ترتبط مع عجوز هو الأب ، وحدث الصراع المتوقع ، بين الفتاة المتقلبة العواطف والعجوز من ناحية ، وبين الأب وابنه من ناحية ثانية . كثيرون توقفوا أمام شخصية " شواهي " وقالوا انك ملت إليها . كانت هي الغواية مجسدة في هيئة بشر ، من لحم ودم . وكنت أتتبع المصائر بكل حنو وتأسي .
أعتقد أنني لا أدين شخصياتي ، وليس هذا من ضروريات العمل الفني ، لكنني أتلمس لكل شخصية ما أسميه بلحظات الضعف البشري . على الكاتب الأصيل أن يسامح شخصياته ، وألا يوقع عليها حكم بالإدانة ، وأظن أن هذا ما فعلته.
" -مكابدات الطفولة والصبا " لها قصة عجيبة معي . لم أكن مهيئا لكتابة نصوص سردية في نهاية مايو المنقضي . ربما في آخر أيامه أو قبلها بيوم واحد .
في موقع سعودي صديق هو " أسمار " طلب مني رئيس التحرير الأستاذ محمد عطيف لقطات عن حياتي لأنهم قرروا تكريمي . وقد احترت في بداية الأمر . هل تكون الكتابة على هيئة مذكرات مثلا؟ القاريء العادي قد ملّ هذه الطريقة . وتذكرت ما قاله لي الصديق القاص عبدالواحد الأنصاري مرة : " لا تضع وقتك في الحديث النثري عن ذكرياتك . كن قاصا وفقط . فأنت تكون في أفضل حالتك مبدعا " .
بالفعل رأيت أن أقدم مشاهد جد قصيرة عن تجربتي في الحياة . وتوقفت طويلا أمام هذه اللمحات التي لها ظلال واقعية ، وأبعاد رومانسية ربما بدت غريبة في صخب الحياة الآن .
حين نشرت النصوص ـ وكنت مرتابا في قيمتها ـ فوجئت بحجم القبول والإعجاب . لمرة سابعة أو ثامنة أتأكد أن في الكتابة جانب سحري وغامض لا يمكنك الوصول لمنابعه .
في بعض الأحيان أظل ساعات بل أياما لمطاردة فكرة أو اقتناص حالة ما فلا أظفر إلا بنصوص باردة ، محايدة مهما ضربت راسي في الحائط المسلح .
مع " المكابدات " كان الطفل الصغير يتحرك أمامي بعفوية خلاقة ، وبرقة مذهلة .
نعم . يتحرك بنفس ثيابه المنكوشة وبعصفور بنفسجي مطرز على الصدر وهو في بداية الثامنة . إنه هو نفسه يدور ويضحك ويشتغل في حواري وأزقة المدينة الحرفية " دمياط " ، وكان علي فقط أن أدون ما أشاهده ، وارتجف في لحظات الألم العظيم.


* * ماذا تعني لك هذه الأسماء ؟



*نجيب محفوظ: أعظم ما في الرجل انسانيته . قابلته مرتين ، وكانت الأولى في قصر العروبة لتسليمه قلادة النيل . يعجبني في كتاباته المرحلة الفلسفية ثم ملحمة "الحرافيش " لو لم يكتب غيرها لكفاه . في عنقه ندبة من جريمة فكرية اسمها " التخلف " .
*إحسان عبد القدوس: جذبتني كتاباته في مرحلة المراهقة ، وانصرفت عنه بعدها , له دور سياسي بارز قبل الثورة عندما أثار قضية الأسلحة الفاسدة . لكن الرجل له مريدوه وهو في كتاباته يشعرني بنفوذ الطبقة " الأرستقراطية" في عصره.

* يوسف إدريس: هذا الرجل حكاية .أعتقد أنه واحد من أهم كتاب القصة القصيرة في العالم . قلمه زاخر وفياض . ولديه قدرة على الانطلاق في مناطق غير مطروقة . يمثل لي قيمة عظيمة وقد أحببت له " بيت من لحم " و" لغة الاي آي " . قابلته مرة في معرض الكتاب وأهديته مجلة فقيرة لنا فطواها بعناية، ووضعها في جيبه . فلاح قراري بوجه لورد بريطاني .

*أسامة أنور عكاشة: كاتب درامي من الطراز الأول ، وقد بدأ قاصا لم ينتبه إليه أحد ، لكنه في مجال الدراما التلفزيونية حقق المعادلة الصعبة وجمع بين الفكرة العظيمة والموقف الأيديولوجي المنحاز للطبقات الدنيا . رأس مؤتمر اقليم شرق الدلتا الأخير وكان وجهه مخطوفا من المرض .

* وحيد حامد:هذا داهية في سلك الدراما ، لم أقابله ولم أتعرف عليه إلا من خلال نصوصه ، وفي تقديري أنه حقق أهم انجازاته مع عادل إمام . أتذكر له مسلسل إذاعي اسمه " طائر الليل الجزين " .

* نزار قباني: شاعر غنائي مميز ، تعرفت عليه من خلال دواوينه الصغيرة التي كانت تهرب كالحشيش . لم أتوقف أمامه كثيرا فقد قرأت السياب والبياتي ونازك الملائكة ولذا وجدت عنده خفة ونبرة فضائحية عالية . بعد الهزيمة بأشهر كانت تهرب لنا " هوامش على دفتر النكسة " لقد انمحت من كراساتنا مثلا وبقى شعر أمل دنقل وعبدالله البردوني وبدر شاكر السياب .

* صلاح عبد الصبور :حكيم في ثوب شاعر ، وشاعر بروح إنسان معذب . أحب أعماله ففيها خيط فلسفي يهتم بالمكابدات التي تصادف الإنسان . أهم إنجازاته ما قدمه في المسرح الشعري مثل " مأساة الحلاج " , " الأميرة تنتظر " ، " وليلى والمجنون " . أشعر بالمرارة كلما تذكرت كيف مات نتيجة عبارة جارحة في سهرة مع أصدقاء له . عرفت زوجته السيدة سميحة غالب عن قرب فقد كانت مديرة البرامج الثقافية بالتلفزيون المصري .

* توفيق الحكيم: هذا كاتب مختلف عليه ، ولكن لنكون موضوعيين يجب أن نحسب له ريادته في المسرح ، وإن كانت نصوصه ذهنية أي تقرأ أفضل من ان تعرض . كان بخيلا وكارها للمرأة ، وهذا شأن شخصي لاعتاب عليه ، ولكن ما لا أنساه هو رحيل ابنه عازف الجيتار اسماعيل وكان يشعر بتلك الفجوة الرهيبة بينه وبين أبيه ، رحمهما الله .

* سمير الفيل: كاتب مصري مهموم بالإنسان ، لديه حس إشراقي ، وحب للبشر خلال عملية الكتابة وقبلها . لم يشتهر كثيرا ربما بسبب بعده عن المركز ، وربما لأن في الأدب جانب هام لا ينتبه إليه احد هو " التوفيق " . تجد نصوصه تجاوبا عاليا جدا من جمهور القراء سواء كان النشر ورقيا أو ألكترونيا ، وقد مارس كل أنواع الكتابة واستقر بثقله أخيرا في حقل السرد . واحد من أهم من كتبوا عن "أدب الحرب " قبل أن تصبح موضة ، وحرفة حسب كتابات النقاد الأكاديميين . مدرس ابتدائي في مدينة ساحلية اسمها " دمياط " ، يحبها كثيرا ولا يفارقها إلا نادرا . لذلك يمكن اعتباره كائن بحري بامتياز !

**ماذا تعني لك هذه الكلمات ؟

* فلسطين : هي الفريضة الغائبة .
*نرجس (قصتك): امرأة قادتني للجنة .
*الحب :رومانسية تسقط بالزواج .
*الحياة : لا تحتمل إلا بالكتابة .
*الجنون: اقترب وابتعد عنه كبندول الساعة .
*الموت : مشروعي المقبل بجدارة .
* الكتابة: الحياة عبر اللغة .

* * سؤال كنت تتوقعه، ولم أطرحه عليك:
- ماذا يعني " أدب الحرب " بالنسبة إليك ؟


* أظن أن أدب الحرب ليس هذه المادة السردية التي تعتني كثيرا بالقشرة الخارجية الصلدة للأحداث ، وهي في نفس الوقت ليست عملا دعائيا يتسم بالفجاجة والمباشرة .
أدب الحرب لا يعني الضجيج ، وانفجار القنابل ، وسقوط القتلى في الخنادق عبر المواقع القتالية ، وفي الحفر البرميلية . إنه شيء مختلف تماما ، فحين يحدث الصراع المروع بين المقاتل المصري وبين العدو الصهيوني ، تكون ثمة مساحة للحكي ، والبوح بتفصيلات تخص الداخل . هنا تسقط العبارات التقليدية المصكوكة عن معنى الحرب ، ويتم الاتجاه إلى هذا المقاتل الفرد في وحدته ، وعزلته رغم الضجيج والصخب العنيف .
إنه أدب يحفر في الطبقات الجيولوجية للنفس البشرية ، ويهتم اهتماما مؤكدا بالإنسان الذي يحمل السلاح دفاعا عن أهله وعن ذاته قبل كل شيء. يمكننا أن نرى الضعف الانساني ، وأن نعاود الكشف عن ثنائيات مضمرة في ثنايا النصوص السردية عن الشجاعة / التخاذل ، و في أحيان كثيرة عن الأقتحام / التراجع. كلها ثنائيات تنهض من قلب عفار المعارك . الوجهان المراوغان لعملة واحدة . مهمة الروائي ان يكشف ويكتشف أسرار ما دار في الغرفة المغلقة للعقل في لحظات المواجهة ، وأظنها مهمة ليست سهلة مطلقا ، لأنها تحتاج إلى وعي واستبصار ، وقدرة لا تتأتى للكثيرين على فهم التكوين السيكولوجي للنفس البشرية .

كلمة أخيرة :اشكر الصديق القاص هشام بن الشاوي على هذه المقابلة ، وأتمنى أن تكون إجاباتي قد لامست شيئا من دواخل أنفسكم . ألف شكر
.

سمير الفيل
روائي وقاص وشاعر عربي