في ذكرى يوم الأرض
العمل الطوعي في فكر التنظيمات الفلسطينية
مصطفى إنشاصي
طلب مني صديق الاطلاع على بحث أعده عن العمل الطوعي في فلسطين وخاصة دور التنظيمات الفلسطينية فيه وإن كان لدي إضافات يمكن تقديمها له فوجدت البحث محكم ولم أرى أني في حدود سياقه يمكنني أن أضيف شيء، فهو باحث أكاديمي مجتهد أنجز في فترة قصيرة عدد من الأبحاث عن مشكلات وواقع المجتمع الفلسطيني إضافة إلى كتاب أو كتابين لا أذكر وما أنا إلا كاتب بسيط أجتهد في كتابة بعض المقالات أو الأبحاث التي أرجو أن يكون فيها ما يفيد ولست أكاديمي مثله، ولكني وجدت نفسي أسجل بعض الملاحظات على العمل الطوعي في فكر التنظيمات الفلسطينية من خلال تجربتي التنظيمية وبحكم دراستي الجامعية وتخصصي "خدمة اجتماعية" وهي ملاحظات عامة للواقع العربي العام والتنظيمي الفلسطيني الخاص.
وقد كُتبت هذه الملاحظات بتاريخ 10/10/2012 كما هو مدون نهاية المقالة ولكن عزوف الإنسان عن الكتابة بسبب الواقع وفقدان الكلمة قيمتها ونشر بعض الموضوعات الأخرى على تباعد هو الذي أخر نشرها، وفكرت اليوم بكتابة شيء في ذكرى يوم الأرض فتذكرتها ورأيت أن موضوعها يلقي الضوء على حقيقة ما آل إليه واقع وفكر وعمل وممارسة التنظيمات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وكيف تحول العمل الجهادي والنضالي من عمل تطوعي وتضحية بالمال والنفس إلى مهنة للارتزاق والدفاع عن أشخاص والتعصب إلى أحزاب وتكريس للانقسام وتدمير للقضية على حساب مصلحة الوطن، في وقت العدو الصهيوني يلتهم ما تبقَ من أرض ويُهود القدس والمسجد الأقصى ويغير معالم التاريخ والجغرافية والهوية الثقافية والحضارية ويصنع واقع جديد مغاير للحقائق التاريخية وغيرها، مقارنة بما عليه واقع العمل النضالي والجهادي الفلسطيني لأهلنا في الأرض المحتلة عام 1948 الذين أصبحوا يمثلون طليعة الأمة والمقاومة والعمل الجهادي والنضالي في أروع صوره الطوعية، ويدافعون عن القضية ويحتلون الخندق المتقدم في حماية القدس والأقصى والهوية الفلسطينية على جميع الأصعدة وفي جميع الأمكنة في فلسطيننا كلها، وتنظيماتنا الفلسطينية التي عليها واجب المقاومة والتحرير تاركة كل شيء ومنشغلة في الصراع على غنائم التحرير الوهمي وسلطة تحت الاحتلال وحولت النضال إلى مصدر للارتزاق لا العطاء، لذلك تتراكم المشاكل والأزمات الاجتماعية والبيئية في الأراضي المحتلة ولا تجد من يبادر للتخفيف منها!
وإليكم تلك الملاحظات:
لا يوجد الوعي والفهم الصحيح لمعنى العمل الطوعي الذي يمثل عمل تكاملي بين المواطن والحكومة وذلك لأن المواطن لا يشعر أن الحكومات تمثله وحريصة عليه أو على الوطن بقدر حرصها على مصالحها الحزبية والشخصية، والأمر نفسه ينطبق على التنظيمات الفلسطينية ما يفقد العمل الطوعي جوهره ومضمونه ومتعته وما يمكن أن يحققه من أهداف حقيقية وعظيمة على صعيد الفرد والجماعة والمجتمع. كما أن الحكومات (يقابلها التنظيمات الفلسطينية) لا تحرص على توعية المواطن بأهمية العمل الطوعي وخاصة على صعيد المجتمع وتنمية قدرات ومهارات شباب الوطن وإكسابهم الخبرة في المشاركة في تنمية وبناء وتطوير مجتمعاتهم خوفاً من خروج الأمر عن السيطرة وتطوره لأن يتجرأ الشباب على مسائلة الحكومة وأن يخرج من وسط نشطاء العمل الطوعي قيادات وطنية حقيقة تنتمي للمجتمع لا الحزب تنافسها أو تحل محل القيادات الحزبية في قيادة الشعب.
لقد التقت مصالح الحكومات مع مخططات الغرب للهيمنة على الأمة والوطن من خلال القضاء على الطبقة المتوسطة في المجتمع لأنه ثبت لهما أنها هي الوسط الاجتماعي الذي يشكل مرجل التغيير في أي زمان ومكان، لذلك هي نفذت السياسات الاقتصادية التي يفرضها عليها البنك والصندوق الدوليين للقضاء على تلك الطبقة وحولت المجتمع إلى طبقة أغنياء ترتبط مصالحهم مع مصالح الغرب الرأسمالي وطبقة الفقراء الذين يكدحون ثمانية عشر ساعة لتحصيل حد الكفاف وأحلوا بدل الطبقة المتوسطة طبقة تحت خط الفقر التي لم يعرفها مجتمعنا من قبل، ما أدى إلى عدم توفر الوقت الكافي لدى بعض الشباب وشرائح المجتمع كي تفكر في القيام بأعمال طوعية في خدمة المجتمع. كما ساعدت سياسة الحكومات في اختلاق الأزمات الاقتصادية المتواصلة لترهق المواطنين وتشغلهم بلقمة عيشهم إلى إضعاف العمل الطوعي أيضاً والتفكير في تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وذلك ما يبرر تراجع وضعف العمل الطوعي في المجتمع الفلسطيني بعد عودة السلطة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة بعد الانتفاضة الأولى عام 1994، وازدياد ذلك التراجع بعد الانقسام فكلا الحكومتين تخشيان من حركة الشباب الاجتماعية التي تقوم على العمل الطوعي وتشاركهما التنظيمات الفلسطينية التي تفكر بعقلية الحكومة والدولة وتخشى على مكاسبها.
ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني كذبة –إلا ما رحم ربي - لا صحة لهذا الاسم ولا أصل له لا في تاريخنا ولا واقعنا، فتاريخنا غني جداً بأشكال متنوعة للعمل الطوعي سواء على صعيد الأفراد أو الجماعات أو المجتمع قادته الجمعيات الأهلية التي كانت تتكامل في عملها مع الحكومات وتؤدي خدماتها للشرائح التي لا يصلها الدعم الحكومي أو الدعم الكافي وذلك بدوافع دينية بحتة والرغبة في الأجر والثواب من الله تعالى. أما ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني فهي لا علاقة لها بالمجتمع إلا بقدر ما يخدم مصالحها في الارتزاق والإثراء باسمه وتحقيق الأهداف الخبيثة للجهات الممولة لها في تدمير قيم مجتمعنا الأصيلة التي شكلت طوال فترات تاريخنا وخاصة العصيبة سور الحماية للأمة من التفكك والانهيار والضياع وتسهيل عمليات اختراقه على جميع الأصعدة ليسهل لها فرض هيمنتها وقيمها المناقضة لقيمنا والقضاء على وجودنا كأمة. لذلك هي اسم على غير مسمى فلا هي طوعية ولا هي معنية بتطوير العمل الطوعي في المجتمع.
كان ذلك حديث مختصر عن موقف الحكومات يقابله موقف الحكومتين في فلسطين والفصائل التي على شاكلتهما لأنها مستفيدة من هذه الحكومة أو تلك، أما التخصيص عن التنظيمات الفلسطينية فالأمر يختلف قليلاً :
بتقديري أن عمل وأنشطة الجماعات الطلابية التي تتبع تنظيمات سياسية مقاومة أو غير مقاومة لا يعتبر عمل طوعي بأي حال لأن العمل الطوعي هو الذي يقوم به المتطوع لصالح مجتمعه وليس لصالح تنظيمه، فضلاً عن أن كل ما تقوم به تلك الجماعات لا يزيد عن أنشطة ترفيهية خاص بالطلاب داخل إطار الجامعة أو المدرسة أو خارجها لا علاقة له بالعمل الطوعي بمفهومه الحقيقي الذي يخص المجتمع!
على الرغم من أن المفترض أن يكون الشباب أو الطلاب المنتمين للتنظيمات الفلسطينية أكثر أبناء الوطن إدراكاً لأهمية العمل الطوعي وإقبالاً عليه لأن المبادرة للتضحية من أجل الوطن والعمل في الدفاع عن الحقوق الوطنية والتعرض لكل أشكال المعاناة في سبيل تحرير الوطن طواعية يجب أن يجعل منهم مثال للحرص على وحدة وتماسك وقوة المجتمع وعلاقات أبنائه والتخفيف من معاناتهم والعمل على حل مشاكلهم وتقليلها إلى أدنى حد مستطاع لأن ذلك من أهم واجبات العمل الوطني وأحد أهم مقومات وعوامل النصر والتحرير وتوفير الدعم والصمود للتنظيمات في مسيرتها النضالية ضد العدو المحتل ولكننا نجد الواقع عكس ذلك!
ذلك يعني أن هناك خلل في التربية التنظيمية وأولويات العمل الوطني لدى تلك التنظيمات وأصل ذلك الخلل أنها تعاملت مع الجماهير الفلسطينية بنفس عقلية الأحزاب العربية والنخب الفكرية المتغربة في التعامل مع المجتمع ونظرت له من علو وصنعت بينها وبينه فجوة كانت تتعمق كلما خفت حدة المواجهات مع العدو الصهيوني واتجهت تلك التنظيمات وخاصة التي تدعي المقاومة إلى البحث عن المكاسب وقطف الثمار وانشغلت في الصراعات الداخلية لأجلها، فقد افترضت تلك التنظيمات في نفسها الفهم والإدراك لمصلحة المجتمع والقضية وأنها تملك أدوات الوعي ووسائل التحرير وأنها هي البداية والنهاية في تاريخنا وأن على الجماهير السمع والطاعة دون نقاش ومن يشذ وينتقد أو يكشف عوراتها وقصورها وانحرافها ومتاجرتها بالقضية والشعب يصبح في موضع الاتهام لذلك هي لا تهتم بالمجتمع ومشاكله إلا بقدر ما يخدم أهدافها التنظيمية والشخصية فقط.
ولتصحيح ذلك الخلل في العمل التنظيمي يجب تأسيس تنظيمات فلسطينية جديدة تعمل بعقلية وفكر جديد وتكون طليعة ثورية حقيقية للجماهير والأمة لا تتضخم لديها الأنا ولا تغتر ببعض الإنجازات فتضخم دورها وقدراتها وتنسى حدود دورها كطليعة لأن الطليعة لا تتعالى ولا تنفصل عن المجتمع ولكنها تلتحم بالمجتمع التحام شبه عضوي، فالمجتمع لا يمثل في فكرها وثقافتها وسلوكها وحركتها عمقها الذي تحتمي به عند الحاجة فقط ولكنه هو روحها وجسدها الذي به تحيا وبدونه تموت، فالفكر الطليعي عكس الفكر النخبوي فالطليعي لا يشعر بقيمته ووجوده إلا وهو يعيش وسط المجتمع يشبع إذا شبع ويجوع إن جاع ويسعد بسعادته ويتألم لألمه يحميه ويحتمي به ويشاركه مشاركة حسية وواقعية معاناته وطموحاته و... و... يطول الحديث عنه.
إن التنظيمات الفلسطينية حولت العمل الوطني لدى كثير من أبنائها من عمل طوعي وتضحية وبذل الغالي والرخيص في سبيل الله ثم الوطن إلى وسيلة للارتزاق وكسب لقمة العيش ولدى قياداتها وسيلة للثراء، وحولت الولاء والانتماء من الولاء للمصلحة الوطنية والانتماء للجماهير إلى الولاء والانتماء للتنظيم وأشخاصه الذين صنعت منهم رموزاً بل أصناماً تعتبر المس بهم جريمة ورفعتهم إلى درجة فوق درجة البشر، لذلك أصبح هم معظمهم الحفاظ على ما حققوه من مكاسب وتنميتها وتطويرها لا تنمية المجتمع وتطويره وليس الحفاظ على وحدة المجتمع والتقليل من معاناة الجماهير والثبات على مبدأ التحرير. لقد أضعفت روح الانتماء الوطني لدى أبنائها الذين يفترض أنهم جزء من المجتمع فأصبحوا يعيشون وسط المجتمع وهم منفصلون عنه وليسوا منه.
أخيراً والحديث يطول: لقد أصبح التنظيم في نظر أبناء التنظيمات الفلسطينية –إلا ما رحم ربي- هو الوطن الذي ينتمي إليه والوطنية والعمل الوطني وظيفة ووسيلة لكسب الرزق ولدى قادتهم وسيلة للثراء والسلطة والتسلط على أبناء الوطن. كل ذلك وغيره هو الذي أضعف روح وثقافة العمل الطوعي في المجتمع الفلسطيني وخاصة لدى أبناء التنظيمات الفلسطينية.

التاريخ: 10/10/2012