من قاســيون أطــل ياوطنــي ... فأرى دمشــق تعانـق الشــهداء


هشـــام الخـــاني


رأيتك قاســيون في المنـام وفي اليقظـة. ومازال قلبي محترقــا بحرقتـك التي أفنت قلب
ـي وقلوب أمـة بأكملهــا، بشــيبها وشــبانها، وشــيوخها وكهولهـا، وأطفالهـا ونســائها، ومســلميها ومسـيحييها.

ولعلني اطلعت على قلبي فرأيتـه متفحمــا من داخلـه ومن خارجـه وأنا أسـأل قاســيون: مالذي جـرى أيهـا الجــد الوقــور؟ فيجيبنــي: أنا نفســي لا أعلـم مالذي جـرى، لكــن دمـاء أبنـائي، وصرخـات بنــاتي، وبكـاء أحفـادي، ومواكب الشــهداء، صـدعت الصخــر الذي يحمـل أركــاني.

لم أســــتطع أن أتكلـم حينهـا في حضرة الجـد الأكبـر، فقتلتنــي الحرقــة، ولم يفـارق عنقـي طوق الأســى بعـد أن رأيت في لهجــة صوتـه نبــرة مختلفــة وجديــدة تحمـل أســى لم تحملــه أي من النبــرات التي تحـدث بهــا خــلال ســائر أحداث التــاريخ التي شــهدها عندمـا كان يرويهـا لنا ... وما أكثرهــا!

مهــلا والدنــا ... أتســمع مني أقــول لك ..؟ فقــال: ياولــدي: لقد تعطـل الســمع، وزاغ البصـر، وبلغت القلوب الحناجـر. فأنــا لم أر، منذ عمـري الذي عاصـر أبنـاء آدم عليـه الســلام، ما أراه في يومي هـذا. ولعلــي مع اكتمــال العلامـات الوسـطى للســاعة بعـد انقضــاء الصغــرى، لم يبق علي إلا أن أنتظـر العلامـات الكبـرى ... فأنــا مازلت أرمـق المسيح عيسـى عليه السـلام مركـزا كل أنظـاري على قلب دمشــق، في كل يــوم، بعــد أن رأيت ولمســت العلامـات التي تبشــر بنزولــه حيث تحقق معظمهــا.

إنني مازلت ياولـدي أتلقى التحيات والعيــادة من إخوتي في حــراء من جبــال مكــة، وتلك التي في الســروات بالقرب من اليمن بجوار موطن بلقيس ملكة سبأ، والأطلس عند أقصى المحيط، وجبــال عمــان في الأردن. ولايمكنني أن أنســى التحيــات والبشــرى التي تردني كل يــوم من أخينــا المحبوب والأقرب إلى قلب خير البشــر .. اخـينا "أحــــد" إذ لم أعـدم منــه العيادات والســلامات، وهو مازال منتشيا منذ أن هـزته قدم الحبيب لدى صعـوده، وهو يقول له: "اسـكن أحـد فواللــه ماعليك إلا نبي وصـديق وشــهيدان".

ولم يخف عنـي ياولدي حنينــه إلى تلك القـدم الشــريفة التي قرعتــه متمنيـا رؤيـا صاحبهــا بكل مايملك. أما الطور المبــارك فهو يتفقـدني في كل وقت متمنيــا أن يرتفـع إلى الموضع الذي رفعـه اللــه إليه ليطـل علي إطلالــة واحــدة.

مع كلام الوالد الجليــل لم أحنمـل نفســي، وســاقني كلامه ، وهو الذي عاصـر الأجيــال والأجـداد، إلى التفكـر والتبحـر. وتخيلت حجم الأســى قي قلبــه، ثم مالبثت أن دخلت معـه في دوامــة الأســى والحنيـن، وثـارت الشـجون، وســاح الفكـر التأمــل ...

قرأت التـاريخ، وطالعت الأحـداث، ولم يفتنــي أن أراجـع تاريـخ ماقبـل الميـلاد، وتفاصيـل الثـورات على مـدى الزمــن. أنشـأت صداقـة عبر الماضي مع حمـورابي، و قرأت أورادا "خنفشـارية" لأحظى برؤيـة "بختنصـر" في المنـام، فأتـاني ورأيتـه، وشـرح لي بالتفصيـل هـول ماجـرى في زمانــه.

صليت وســلمت على سـيدنا ابراهيـم وأنا أعيش معـه اللحظـات التي رافقت قذفـه بالمنجنيق إلى النــار، وتعجبت من شــدة إيمانــه (عليه السـلام) عندمـا أتـاه جبريـل يسـبق الزمـن يعرض عليـه العون فيجيبـه: "أمـا لك فــلا".

ثم رافقتـه بمشــاعري في رحلتـه إلى الوادي المقفــر عند بيت اللــه المحرم، ورأيت بعواطفي كيف تمســكت أمنـا "هاجـر" بأطراف ثوبـه تسـأله: "آللـــــه أمرك بهـذا؟" فيجيبهـا إجابـة الأواب الثابت والدمـع يعتصر قلبـه قبـل عينيـه ويقول: نعـم.

ثم عشــت مع الرضيـع والأم والسـعي ومنـة اللـه ومعجزتـه في المـاء، وترعرع الطفـل، وزيـارات الأب، والبـلاء المبيــن في الأمـر بالذبـح، واسـتكانة الشـاب وانصيـاع الأب لأمـر اللــه، وفـداء اســماعيل بالذبح العظيـم، وبشـرى أبي الأنبيـاء بإسـحاق ثم يعقوب تلدهمــا بأمـر اللــه امـرأة عجـوز ظنت نفســها أنهــا عقيـم، وتعجبت أن تنجب من زوج كان شــيخا كبيــرا، وكـان أمـر اللــه وفضلــه ورحمتـه فوقهـم جميعــا.

ودخلت في تفاصيـل قصـة ســيدنا موســى، وجربت أن أتدبـر كيف أوحى اللــه ثم ربط على قلب أمـه حين ألقتـه في اليــم، وتصورت عذاب بني اســرائيل وبأس فرعــون، وحاولت أن أكـون رفيقـه (عليـه الســلام) بالقلب والجوارح في رحلتـه إلى مديـن، وأحسست أني رفعت كلتـا يدي إلى السـماء أؤمن معـه حين قـال: "ربي إني لما أنزلت إلي فقيـر".

أعيتني الحيلـة لأتعرف إلى مافعــل "جـالوت" عبر التـاريخ مع بني اسـرائيل، فما ترددت في اســتدعاء ملوك الجـن الأربعــة ... الأحمـر والأصفـر والأخضـر وأخوهم الرابـع الأصغر، وتوسـلت إليهـم أن ينقلـوا إلي أحداث تلك الأيـام. فما لبث ملك الجـان الأحمـر أن أشــفق علي لما كان بي من حـزن وحيـرة، وأحضـر لي فيلمــا قديمـا كان مخبـأ في قمقـم في جنوب المحيط الهنـدي، وقال: "لولا أننا معشـر الجن تبينـا أن سـليمان - عليه السلام- قد خـر ومات بعد أن أكل السوس عصاه لما تجرأت على مجرد التفكيـر في إحضار الفيــلم إليـك"، وهو فيلم تم تسجيله قبل سليمان عليه السلام، فشــكرته في قلبي وأنا أتعوذ بالله منهـم أجمعيـن. لكني وجـدت فيمـا بعـد أن أمرهـم ســهل أمـام شــياطين الإنس الذين لامجـال معهـم لا للإقتــراب ولا للإبتعـاد، والذين ازداد نســلهم إلى حد غير مســبوق في عصرنـا الحديث بعـد أن أصبحنـا فاب قوســين أو أدنى من يوم القيامــة.

فعرضت الفيلـم على عجالــة على آلة ســـينمائية قديمـة تــدار باليـد، وذهلت بعد أن اطلعت بكل التفاصيـل عن البأس في أيـام جـالوت وأنـا أعيش المعركـة بقيـادة الملك طالوت، وكيف شـرب الجنود من النهـر قبل لقـاء جـالوت ولم يبق معـه إلا ثلـة قليلــة من الذين آمنـوا.

ورأيت عبر مشاعري كيف قتـل داوود عليـه الســلام "جـالوت" بالمقـلاع، واقتلـع البأس قلبي من جـذوره من هول وبأس وقهر الرجــال.

عشــت مع المســيح عليـه الســلام وهو يقـول: إن اللـه ربي وربكـم فاعبـدوه، وكيف اعتـذر إلى ربــه: "ماقلت لهـم إلا ما أمرتني بـه". واعتصـر قلبي الألـم عندمـا تخيلت مـدى الأذى الذي عانــاه ... عليه السـلام .. خاصــة عنـد اعتزام بني اســرائيل قتلــه. ثم مالبثت أن انتقلت بخيــالي إلى معجـزة اللــه تعالى في رفعـه إلى السـماء وأنـا أنـاظر المئذنـة البيضـاء شـرقي الشـام وكأنني أرتقب نزولـه على جنـاحي ملكـين يقطر من وجهه – عليه السلام- مثل حب الجمــان.

جاشــت في قلبي عواطف الحنيـن إلى التــاريخ القريب. فما أســـعفتني الذكـرى إلا في قـراءة المآســي من جهــة واســـتقرائها من جهـة أخـرى. من حقـد "أوريـان الثـاني"، ونجـاح حقـده في حصـاد أرواح مئات الألــوف من الأبريــاء من المسلمين وغير المسلمين عبر الحروب الصليبية. ثـم تذكرت التتـار وبغـداد، ودجلــة بلونــه الأحمـر بعـد أن امتـزج مـاؤه بدمـاء الأبريــاء، ثم الأزرق بعـد أن اصطبـغ مــاؤه بأحبـار كتب مكتبات بغـداد التي ألقيت فيـه ظلمـا وزورا.

وانتابنـي دوار شــديد بعـد أن وخزتنــي الغصـة مع ذكـرى تيمورلنك، والبأس، واغتيـال الشــام، وما لا يحصى من الأهـوال. ثم ذهب فكـري ترافقــه تلك الغصـة التي مابرحت تزيـد الخنـاق إلى عصـورالإنحطــاط، والحركات الدينيـة المختلفـة التي برزت خلالــها، يتبنـاها إبليس ليلبس على الناس دينهم، ويعرض عليهم الهوى إلها من دون الله ليتخذوه.

عرجت ســريعا على الحربين العالميتين، وتذكرت الثورات والانتدابــات، وأحسست بوخـز في صميم الضمير بعـد أن لاح أمـام ناظـري طيفــا كل من "ســايكس وبيكــو" ومكيدتهمــا الكبـرى في بـلاد الشـام المبــاركة.

إلا أن ماحـز في النفس أكثـر وأكثـر كيف نجح المجرمـان بتكليف ممن ورائهمــا في تقسـيم البـلاد إلى أربعـة دول، وأنا لا أعلم "صفـد" إلا جــزء من الشــام أقرب إلى دمشــق من درعــا، وعمــان أقرب إلى دمشــق من حمــاة، وبيروت والجبـل وطرابلس وصـور تلتصق جميعهــا بحمص والجـولان وسـهول حوران التصـاق الطفـل الرضيـع بحضن أمـه.

أجل ... لقد نجحا في مكيدتهما بعد أن اشتروا منا الدين وباعونا الدنيا، ونحن قبلنا بهذه الصفقة على سذاجة بعد أن ظن الذين تبنوا أمرنا أن التقدم بتقليدهم وبالابتعاد عن الدين الذي كان عزنا وسؤددنا وموطن سمونا ومرتقى حضارتنا. ففعلنا وحصدنا .. وهاهي الثمار الملتهبة أمامنا نتلقفها مضطرين إلى تجرعها تجرع المذهولين الذين لايعلمون من أمرهم شيئا بعد أضاعوا القيم وعبدوا الهوى.

واحســرتاه .. تلقينـا الكذبــة وصدقناها وجميعنـا يعلم أنهـا كذبـــة كبـرى لم يعرف التــاريخ لزورهــا مثيــلا !!! فهـذا يقول أنا أردني، وذلك يقول: كنت مع الفلسطيني، والثالث يقول: لبنــان الأرز، وأنــا أقول: أنتم جميعـا الأخـوة الأحبــة من أرض الشــام حيث الأرز والأنهـار والزيتون والفستق والفرات واليرموك والبتراء .. جميعكم في المكـان المحيط بالأقصى الذي بارك الله حوله ... فهل نابكم شيء من هذه البركـة؟

قرأت كل ماجـال بخاطري على عجـالة، فالتفت والدمـع ينهمـر من عيني، والغيبوبـة تكـاد تلف أركـان عقلي وجســدي.. ثم قلت: يا والدي: أعاننــي اللـه وأعانك. أدع معي، وســــأدعو أنــا، فليس لي ولك وللناس إلا اللــه، لكن اللــه لن يضيــع الأرض التي عمـد بعمـود الكتـاب إليهـا كما روى ســيد المرســلين.

وضــع الجد الحنــون يــده على كتفي، وحـاول أن يكفكف دمــعي بيـده التي تنزف دمــا بعـد أن أصابتهــا قذيفــة وقال: ونعــم باللــه.


هشام الخاني