الحســـد والإيمــــان


ســبحان اللـه ... يعلم جميـع المؤمنيــن بأن كتابنـا الكريـم الذي آتـانا نورا وهديـا مبينـا من رب العالمين، قد حـوى مايصعب حصره من الآيـات التي تدعو إلى التفكـر والتدبـر والتعقـل والتفقـه. وأن المعاني التي تدور حول هذه الآيـات هي ممتـدة بقـدر امتـداد القرآن. وكلمـا اجتهـد عالم في اسـتنباط معنى يحيط بأي من هذه الآيـات أو يربطهـا وفق حجة محكمـة بما سبقها من الكلـم، جـاء آخـر ليزيـد من بيـان الإعجـاز وفق اسـتنباط مختلف جديـد يمت بالصلـة إلى ما ســبقه، ويســتخلص بنفس الوقت عبـرا وحكمـا ومعان جديـدة. فســبحان الذي أنزل هذا الكتـاب الذي لاتنقضي عجائبــه، والذي يدعـو الناس بصريح الكلــم إلى التفكــر والتدبـر.

إن الذي دعـا الناس إلى إعمـال العقـل، والاعتراف بالمعروف، واستنكار المنكر، هو الخالق القـادر وليس غيره. وإن تمييز كل من المعروف أو المنكـر، وملاحظـة الفجـوة بينهمـا، هو أمـر لايحتاج إلى شـريعة أو عقيـدة. ذلك أن المعروف هو ماقبلتـه النفس الإنسانية بالفطرة بغض النظر عن توجههـا وعقيدتهـا، وكذلك المنكر هو ما استنكرته واســتهجنته. وبذلك فإن الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكـر هو من أولى أولويات الإنسـان كإنسـان سـواء كان مسـلما أم كـافرا. فكيف بنـا ونحن خيـر أمـة أخرجت للناس وفق هذا المعيــار؟

من هنا كان لابد لنا أن ننظر إلى العديـد من الآيـات التي تبيـن قيمـة الدنيـا التي يتهافت عليهـا الناس تهافت البهـائم، ويتوجب علينا في نفس الوقت ألا ننسى بأن كل توجيـه في القرآن هو توجيـه من الخالق العليــم المطلق في علمـه، ذلك الإلـه الحكيــم الذي خلق الإنسان والدنيـا والآخـرة، وهو الأعلـم بمـا خلـق.

لقد بين اللـه تعالى بأن المـال والبنـون هما زينـة وليستا سـببا من الأسـباب التي يجب على الإنسـان أن يعول عليهمـا، فقال تعالى: "المال والبنون زينة الحياة والدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أمـلا - الكهف". كذلك قال: "ومالحياة الدنيا إلا متاع الغرور"، وبين في عشـرات الآيات بأن المال في هذه الدنيا هو سـلاح ذو حدين ينعكس بالنفع على من أحسن استعماله، وبالضر على من أساء الاسـتعمال.

إن متاع الغرور هو ملذات الدنيا وشهواتها وما فيها من زينـة وزخرف. وهذا يعني أن متع الحياة الدنيا متعة يحفهـا الخداع الذي يتلاشى ولايحمـل أية قيمـة عند الحسـاب. وأن التــلذذ ضمن عالم الغرور هو تلذذ زائـل عائد على النفس بالفجائع والمصائب. وليس الرحيل عن هذه الملذات وتركها مضيا إلى الموت إلا شاهد دامغ لايستطيع إنكاره بر ولا فاجر.

كذلك ذم الله التبذيـر والإسـراف ذمـا شــديدا في القرآن الكريـم، ووصف المبـذرين وصفـا قبيحـا إذ اعتبرهـم إخوانـا للشـياطين، وبين بأن الشيطان كفـور، ولابـد (عندئذ) بأن أخـا الكفـور هو كفـور مثله ... على الأقـل من باب كفران النعمـة (والله أعلم) ... فقـال: "وآت ذا القربى حقـه والمسـكين وابن السـبيل ولاتبـذر تبذيـرا * إن المبذريـن كانوا إخوان الشـياطين وكان الشـيطان لربه كفـور- الإســراء".

ومع ازديـاد الزخرف في هــذا الزمـان، وتهافت الناس على الدنيـا والزينــة، بشـكل عجيب يفوق الوصف من تشـــييد وبــذخ ومراكب وصــرف وتعـال وغير ذلك، بات أولئك الذيـن ينعمـون بتلك النعـم الزائلــة .. باتـوا خائفيـن على ما أوتـوا من المتــاع متمسـكين بـه لدرجـة فاقت (في كثير من الحـالات) حبهـم لأولادهـم وأهليهــم. وأمسـى الحرص على المتــاع والزينــة مصـدرا للقتـل والانتقـام والسب والنهب وســائر الموبقـات مما يبعــا الإنسـان بشكل كامـل عن أسباب عمـارة الأرض.

وأصبـح الزخرف والمـال والحرص عليهمـا منشأ للفسـاد في الأرض وأيمـا منشـا. وهنـا يتضح حرص أرحم الراحمين اللــه (جل وعـلا) على الإنسـان عندمـا أبلغـه بأن متع الدنيـا إنمـا هي زينـة زائلـة، وأن ماعنـده هو الأخيـر والأفضـل. وليست المقاربـة في سـورة آل عمـران إلا دليـل دامـغ على حبـه للإنسـان، ومنحـه كل أسـباب الخير والسـلامة في دنيـاه وآخرتـه.

أعوذ باللـه من الشــيطان الرجيـم: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعـام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصيـر بالعباد- آل عمران".

ونتيجـة لتعلق الناس بزخرف الدنيــا حرص معظمهـم على ابتكـار الأسـباب التي تسـند العواقب إلى الحسد، ةهم يعلمون أو لايعلمون أن ذلك يتــأتى عليهـم نتيجـة آلاف الأسـباب التي ينتجهـا سـلوكهم الخاطـىء في عدم التـزام منهـج اللــه.

ولقد بات ملفتـا للنظـر انتبــاه الناس إلى الحســد في هذه الأيـام بشــكل عجيب، واعتبـاره ســببا أولا ورئيسـا وأوحـدا في كل ماينوبهــم من المصائب. ناســين، وغالبــا متناســين، بأن الســيئات والذنـوب هي التي تعـود على الإنسـان بسـوء العاقبـة في الدنيا أولا ثم في الآخـرة.

ورغم أن العيـن حق، والحسـد شــر، والحاســد مذموم. وأن إنكـار الحسـد هو إنكـار لما ورد في القرآن، وبالتالي فإن ذلك كفـرا صريحا. إلا أن إســناد كل المصائب إلى الحســد، تحججــا أوتزرعـا أو جهـلا، خلــق مصيبـة من نوع آخـر تعدت مرحلة الإيمـان بالقضـاء والقـدر إلى مرحلـة أفـرز فيهـا الانتبـاه للحسـد، ونسـيان الذنوب والمعاصي، قـدرا كبيـرا من الســلوك السيء الذي ترتب عليـه عـداوات شــديدة، وبغضـاء وتنافـر وقطيعـة للرحــم.

إن تعليق كل المصائب واالنتائـج، التي يقترفهـا الإنسـان بيديــه، على الحســد (رغم أنه أمـر غيبي لايسـتطيع الإنسـان الدخـول في تفاصيلـه)، هو مناقضـة للنفس وللواقـع. وإن اللــه لم ينبهنـا إلى أمـر الحسد إلا لنتعوذ ونتحصن، وليس لنتنافـر ونتناحـر. فاللـه (جل وعـلا) شــرع كل الشــرائع أسـاســا ليسـود الخير بين الناس، وليس لحاجـة يحتاجهـا (عزوجل) !! أفنبتكــر الأسـباب لخلق العداوة والبغضـاء في أمـر لم يتح اللـه لنـا منه إلا التعـوذ والتحصـن دون أن نعلم ايا من تفاصيلـه؟ ثم نعين أنفسنا قيميـن على تحديد التفاصيــل وإطلاق العنان للظنـون دون أي مجـال لإثبـات أو اتهـام؟ ســبحان اللـه .. مالكم كيف تحكمــون؟

في الحقيقة ... لقـد أفرز حب الدنيـا، والزينـة والشــهوات، مما تهافت عليـه الناس، بــلاء كبيـرا ربمـا كان الحســد منه بريء. وإن الذي يدقق في الأمـر يرى بكل وضوح أن هذا السـلوك يكون بائنـا بشـكل واضـح عند أصحـاب النعمـة، وخاصـة أولئك الذين نابهـم شـيء من زينـة اللــه بعـد حاجـة أو فاقـة أو حرص.

فتـرى أحدهـم متوجـهـا دومـا نحـو الظن بالناس فيما ينوبـه من مرض أو عاهـة أو مصيبـة أو وفـاة. وهنـا يقف المدعي والمتهــم ... كلاهمــا يقف موقف المذهـول. إذ يفترض الأول افتراضـا من عنـده، ويصـاب الآخـر بتهمـة لا أصـل لهـا !!

وتتولـد العـداوة والبغضـاء نتيجـة تلك الافتراضـات التي لاستـتند إلى دليــل، ويكـون المدخــل شـاسـعا واســعا ليلـج من خلالـه المغرضـون من مشـعوذين وســحرة ومنافقيـن، وأولهـم الشــيطان، ليدلـوا بدلوهـم في حالـة خطيـرة وبيئـة ملوثــة هي بمثابـة فرصـة ســانحة للعبث بسـلوك ومصيـر الإنسـان عبر تيسـير ســبل العداوة والبغضـاء بينه وبين أقرانه أو معارفـه أو جيرانــه !!

إن هــذا الكتـاب الذي أطرحـه أمامكـم، والذي قمت بتأليفـه، منذ أكثـر من ســنة (على عجالــة) يعالج هذه الحـالة ويناقشــها في ضـوء جملة من آيات القرآن الكريـم، وصحيح الحديث.

وأتمنى أن يكون عامـلا يســاعدنا ويخلص بنــا إلى نتيجـة نفهـم منهـا أن الحسـد حـق، إلا أنـه غيب، ولايمكـن أن يكون – بحـال من الأحـوال- من ضمن افتراضـات الناس ... ذلك أنـه ليس لأحـد أن يقترض افتراضاتـه في الغيبيـات. فحسـب الإنسـان أن يتحصن وفق ما أمـره اللـه، ولاشيء أكثــر من ذلك.

هشــام محمد نذيـر الخـاني





يمكن تصفح الكتــاب عبر هذا الرابــط:
http://computerhouse.com.sa/uploadmehere/