جلس الطبيب وراء مكتبه بعد أن أجلس ضيفه الصغير على كرسي يختلف عن الكراسي العادية بمسنده العالي الذي يخفي رأس الجليس إذا ما نظر إليه من الخلف,وبذراعه المكسوين باللباد والمخمل ,وقد غطس صقر في نوابض المقعد الوثير وبانت عليه الراحة والدعة,وراح الطبيب يوجه إليه نظرات مستطيلة صامتة,والفتى يتطلع إليه بنظرات متسائلة,ثم قام الطبيب من وراء مكتبه فتناول كرسيا عاديا من الخيزران وجلس ملاصقا له وانحنى عليه واضعا ذراعه على مسند المقعد وقال:
-أنت يا صقر مستريح في مقعدك هذا؟
-نعم
-أنت في غاية الدعة ,نفسك راضية أتم الرضى وتفكيرك محرر من كل قيد ,أنت مستريح..مستريح أتفهمني؟
-نعم نعم
-أنت مستريح تماما عضلاتك مسترخية ليس في ناحية من جسمك أي تقلص أو تشنج.
-نعم
-أنت الآن صفحة مكشوفة أنت مستعد لأن تفيدني بكل ماجرى لك في ماضي حياتك.
-...
-أنت مستعد لأن تفيدني عن تلك الحياة منذ اللحظة التي وعيت فيها على الدنيا ,لا تترك شاردة ولا واردة إبدأ تذكر لك ذاكرة قوية وأنك ستبدأ من أول لحظة وعيت فيها على الدنيا ,صقر أنت معي أليس كذلك صحيحا؟
-نعم نعم
-إذن فابدأ
كان الفتى مع كل يتلفظ بها الطبيب المحلل يشعر باسترخاء وأحس بأنه راغب في تسليم قيادة برضى,
ثم غشيه سدر في عينيه وخدر في أعضائه ,يساعد على ذلك هذا المقعد الوثير الذي لم يجلس في حياته على مثيل له ثم استشعر بأن المقعد يشبه أما رؤوما تلمه في حضنها وهو غاطس فيه يحتويه ويحنو عليه,وفتح عينيه مرة أخرى على الطبيب,فلم يجد ضرورة لأن يستعدي على الطبيب بأي بادرة عدائية ,وتوارد إليه من هاتين العينين الموجهتين إليه كمنبعي ضوء شديد دفء ,فرغب رغبة شديدة بالاعتقاد بأن هذا الطبيب صديق ,لابل إن كل من في المعهد أصدقاء ,ودغدغة هذا الشعور واستجابت نفسه لأسئلة الطبيب,يريد أن يتكلم الكلام الجاهز لديه وراء هذا الجبين لا حاجة لبذل أي جهد لإفراغ حمولته منه:
-فتحت عيني في بيت أم محمد كانت أم محمد.
كان يتفوه بكلامه هذا وصوته يسمع وكأنه صادر من بئر عميق ,وقد ذبلت عيناه وظل يقص ببطء وأناة, واكشف أخيرا بأنه يثرثر يتكلم كثيرا ويلذ له أن يتكلم كثيرا ,أن يثرثر حتى إذا مضى عليه نصف ساعة زاد ذبول عينية فنام.
وضغط الطبيب زرا فجأة احد مستخدمي المعهد , فأوعز له بأن يلقي على الفتى غطاء خفيفا ويراقبه حتى يستفيق ويسوقه إلى غرفة الطعام. ص 92